رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    زاكورة تحتضن الدورة الثامنة لملتقى درعة للمسرح    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك        بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبد الكريم الخطابي و الهوية الوطنية اللغة و الهوية الجزء الثامن
نشر في العرائش أنفو يوم 12 - 06 - 2019


محمد عبد الكريم الخطابي و الهوية الوطنية
اللغة و الهوية الجزء الثامن
تمهيد
هناك رجالات أفذاذ لا يمن الدهر بمثلهم الا عبر أجيال، وكلما مر الزمان سما نجمهم و زاد نور فكرهم و مراسهم ضياء ليصبحوا نبراسا يقتدى به. مثل هؤلاء الأهرامات يبلى التاريخ و لا يبلى ذكرهم. لأنهم قبل أن يسكنون العقول تحتضنهم الضمائر الحية و الأفئدة الصادقة. محمد بن عبد الكريم الخطابي من طينه هؤلاء العظماء. ليس كونه قاد ثورة تحررية رائدة و أسس أول جمهورية شعبية في البلدان المستعمرة، بل لأنه أيضا رجل فكر و سياسة و من هنا يهمنا منظوره حول اللغة و الهوية.
بداية ثمانينات القرن الفائت بدأت دراسة عن شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي لأجد نفسي أمام زخم من المراجع تتطلب وقتا وافيا، الأمر الذي لم أكن أتوفر عليه أنداك، للإلمام العميق بجوانب هاته الشخصية الفريدة من نوعها. فهو فقيه عالم و قاض عادل، صحفي مقتدر و قائد عسكري محنك، زعيم سياسي ممتاز و مفكر واسع النظر. و عند الضرورة تاجر مقتدر لضمان الاستقلال المادي لعائلته و من رافقه في منفاه الطويل بجزيرة لارينيون شرق جنوب القارة الافريقية. لدراسة أعمال و فكر محمد بن عبد الكريم يلزم مجلدات و نحن هنا نحاول قدر المستطاع تلخيص منظوره في المسألة التي تهمنا أي اللغة و الهوية.
1 – نبذة وجيزة للتعريف بالرجل
ولد محمد بن عبد الكريم الخطابي بأجدير عام 1882 و به حفض القرآن كأقرانه، ثم أصول اللغة العربية من نحو و صرف وغيرها عن والده، قبل أن يرسله الى مدينة فاس العاصمة الإدارية و العلمية للمغرب، لمتابعة تعليمه بجامعة القروين. حيث ربطته علاقة وطيدة مع ثلة من خيرة علمائها الوطنيين أمثال ادريس ابن سعيد السلاوي الذي ناصر الثورة الريفية الى حين اغياله من قبل الاسبان عام 1923. بعد دراسته بفاس عاد الى مسقط رأسه لمساعدة والده في القضاء و الأشغال الإدارية الأخرى التي كان يتضلع بها. لكن علاقته بمدينة فاس ظلت قائمة مما مكنه من مسايرة الحركة التنويرية التي كانت في بدايتها و خاصة المقاومة القوية للدخول الأجنبي الفرنسي و محاولة تحديث دواليب الدولة عبر مبادرة وضع أول دستور بالمغرب عام 1908. كما أنه في خضم ذلك الجو كان قد تتبع عن قرب مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي انعقد من يناير الى أبريل 1905 و الذي تم فيه تقسيم المغرب بين اسبانيا في الشمال و فرنسا في الجنوب و طنجة كمدينة دولية، هذا الى جانب الامتيازات الجمركية و التجارية لباقي الدول الاستعمارية الأوروبية. ما يهمنا من سرد المرحلة الأولى من حياة محمد بن عبد الكريم هو من باب التأكيد على تكوينه اللغوي الأصلي الذي لم يتخلى عنه فكرا و عقيدة، رغم تفتحه عن اللغات الأخرى خاصة الاسبانية. ثم أنه لم يجعل أبدا تعارضا بين لغته الأم التي هي الريفية و لغة الوطن التي هي العربية. هذا من ناحية أما من ناحية الهوية فان الحس الوطني الذي تربى عليه في أحضان أسرته الصغيرة لما كان بأجدير أو الكبيرة لما ذهب للدراسة بالعاصمة فاس جعلته يتفتح على مشاكل البلاد و الأخطار التي تحيط بها.
مثل والده و العديد من الوطنيين الأوائل ظن محمد بن عبد الكريم أن معاهدة الحماية تحمل في طياتها بعض الدواء لأمراض التأخر التي يعاني منها المغرب على مختلف الواجهات. و أنها أي معاهدة الحماية ستسمح باحداث تغيير اداري ضروري مع خلق مرافئ صناعية و تجارية حديثة. بتلخيص كان كغيره من المخلصين لقضايا الشعب و الوطن يضنون أن في كل خيبة خير على منوال الآية الكريمة ” و عسى أن تكروا شيئا و هو خير لكم”. لكن تبين له و للعديد من الوطنيين أنه لا خير في الاستعمار الذي لا يهمه سوى الاستلاب الثقافي و استغلال الخيرات البشرية و المادية للبلاد. بعد الاحتلال التحديث الاداري من أهل كان. عوض التحديث تم تقوية الرواسب الاستبدادية للمخزن العتيق.
كان سيكون من المحبذ التوسع في الموضوع عبر تقسيم حياة الزعيم الوطني و القومي الى أربعة مراحل كما شخص ذلك الباحث المختص و المرافق لمحمد بن عبد الكريم الخطابي بالقاهرة ، عثمان بناني الذي خص الزعيم الوطني بأبحاث جادة و معمقة، منها أطروحته عن حيلته و أعماله التي تم نشرها أخيرا.
– المرحلة الأولى من 1882 الى أواسط 1918، و هي مرحلة الطفولة و الشباب و العمل في الإدارة الاسبانية.
– المرحلة الثانية ن من أواسط دجنبر 1918 الى استسلامه في 27 ماي 1926، و هي فترة المقاومة المسلحة و بناء جمهورية القبائل الريفية التي عمت باقي المنطقة الشمالية للمغرب.
– المرحلة الثالثة، من 27 ماي الى حين لجوئه في مصر في31 ماي 1947 و هي فترة منفاه مع عائلته بجزيرة لا رينيون.
– المرحلة الرابعة، من استقراره بمصر الى حين وفاته بها عام 6 فبراير 1963.
حياة مليئة بالأحداث و العطاءات في مستوى يقل نظيره و هي ظاهرة يقل نظيرها. أمام الزخم الكثير من العطاء الفكري و الميداني لمحمد بن عبد الكريم، سنحاول قدر المستطاع و بتجرد كامل الالمام بجوهر فكره و عمله في ما يخص موقفه من اللغة الفصحي و اللغة الريفية و خاصة فهمه و ممارسته للهوية الوطنية و القومية.
2 – محمد بن الكريم و مسألة اللغة
من مزايا القادة الكبار كونهم يتحلون بقدرة فائقة لفهم الواقع و البحث عن حلول ناجعة للتقدم الى الأمام. و نظن أن الأمير كان على بينة من قيمة و قوة اللغة كسلاح لفهم الذات و الموضوع الذي يتواجد فيه و كذلك لرص الصفوف و إنجاح المقاومة. من المعروف و المألوف أنه كان يتكلم مع عائلته و أقاربه بالريفية لغته الأم، و نحن نعلم أن الخلفاء المرابطين و الموحدين و المرنيين و الوطاسيين و شيوخ الحنصللين و غيرهم ممن سادوا، كانوا يستعملون اللغة الأمازيغية بين عشيرتهم المقربة للتواصل العادي، لكن في تسيير أمور الدولة من قضاء و تعليم و ندوات و مقابلات، كان المرجع هو اللغة الجامعة و لم يحد محمد بن عبد الكريم عن هذا التقليد. فسواء لما كان يمارس القضاء و الإدارة الى جانب والده أو بعد تقلده القضاء و قيادة الثورة و إرساء أسس الجمهورية الريفية، كانت اللغة الرسمية للدول الناشئة هي اللغة العربية و لم يحد أبدا عن هذا التوجه الواعي لرص الصفوف بين القبائل التي تتكلم الريفية و التي تتكلم العربية. وكذلك للتجاوب مع باقي ساكنة المغرب حيث الثورة الريفية لم تكن سوى الانطلاقة لتحرير عموم البلاد. فتوجهه الوحدوي لوطنه المغرب و لبلدان المغرب الكبير و نظرته للقومية العربية سيتضح بجلاء من خلال مواقفه أثناء الفترة الرابعة من حياته بمصر. فوعيه بأهمية اللغة كان حاضرا طوال حياته، سواء ما خص مشروعه التحرري الوطني أو القومي.
لم يكن المجاهد الأكبر متحيزا للفصحى كلغة جامعة وطنيا و قوميا، بل كان متفتحا على باقي اللغات. لقد كان يتقن اللغة الاسبانية حيث اشتغل مترجما لها كما احترف الصحافة أثناء وجوده بمليليه فترة الشباب. ثم أنه وجه بناته و أبناء أخيه و عمه فترة المنفي بجزيرة لا رينيون أو في مصر تعليم اللغات الأخرى خاصة الفرنسية و الإنجليزية.
أية خلاصة نستنتجها من فكره اتجاه التعامل مع تعلم اللغات؟ انه نظرا لقدرة تفاعله مع الواقع و امكانية استيعاب المستجدات المحدثة، كان و لا شك سيرى الظروف التي يمر بها المجتمع المغربي راهنا و مراعاة مصلحته في التقدم و التحرر، ليتجه لا محالة الى تثبيت اللغة الفصحى كلغة جامعة مع حضانة اللغة الأمازيغية. و كان أيضا و هذا هو الراجح، سيتفتح على تعليم و تدريس باقي اللغات و خاصة الفرنسية و الاسبانية و الإنجليزية. المشكل ليس هو تعليم اللغات، ونحن نعلم أن الكل يقر اليوم قدرة المرء تعلم عدة لغات في آن واحد و بشكل جيد من دون تأثير بعضها على البعض. تلقين و تعليم اللغات لخدمة العلم و المعرفة والحرية و لكرامة واجب أكيد نثبته في وعينا الوطني و القومي. ما نرفضه هو استعمال اللغات الأجنبية لاستلاب الهوية الوطنية المبنية على التربة الثقافية الأمازيغية العربية.
و بخصوص اللغة الأمازيغية نظرا كون البعض يخطأ قصدنا عبر اجتهادنا في الموضوع، و يظن عن خطأ، أننا نتلافاها أو لا نعطيها حقها. العكس هو الصحيح. لأننا لا نريد استعمالها كحصان طروادة للعصف باللغة الجامعة على منوال حق يراد به باطل. و كذلك لا نريد تقزيمها كمن يريدون جعلها لغة الفلكلور و خلق عرقية وهمية تفرق أبناء الشعب الواحد الخال و الأمة الواحدة الخالدة. أننا نتعامل مع لغتنا الأم الأمازيغية بكيفية عقلانية و منتجة، لذا عند تعاملنا معها، نحضر في وعنا الجماعي العامل الزمني و الخلفيات السياسية و المصالح الثقافية المتصارعة. قصدنا رص صفوف الشعب و الوطن و الأمة. انه اختيارنا الذي تعلمناه من فكر و مراس محمد بن عبد الكريم و غيره من الوطنيين المخلصين لمصير الشعب و الأمة. كما أننا نطرح تعليم اللغة الأمازيغية عبر مجموع أنحاء البلاد و ليس بمنطقة معينة مع احترام لهجاتها المتعددة التي تعبر عن غناها الثقافي و الحضاري. حسب الدراسات العلمية الحديثة في بلدان الهجرة مثلا، تبين أنه عند تدريس الأطفال لغة و ثقافة آبائهم المهاجرين في الأقسام، ليس فقط لهم وحدهم كما هو الشأن المتبع بيداغوجية متأخرة، بل تدريس لغة المهاجرين و خاصة الثقافة المحيطة بها لعموم الأطفال و في سن مبك. النتيجة ان أبناء المهاجرين يقبلون على لغة بلد الإقامة بحماس و يزداد نشاطهم في كل ميادين الحياة و ليس فقط لثقافة الآباء. فينخرطون في ثقافة مجتمع الإقامة بحماس مما يساعدهم على التثاقف و الاندماج الناجح. اذن تدريس اللغة الأمازيغية لعموم الناشئة أمر في غاية الأهمية و عامل لحفز و تطوير قدراتهم في مختلف الميادين. كل ما نرفضه صراحة هو جعل تعارض بين اللغة الفصحى الجامعة للوطن و الأمة و لغتنا الأمازيغية. لأنهما الرجلين للجسد المجتمعي.
3 – محمد بن عبد الكريم و الهوية الوطنية
ظروف العيش و الأحداث المحلية و الوطنية هي التي تولد الوعي المتقدم و الفاعل. هذا بشكل عام. بتلخيص وجيز سنحاول سرد المحطات الأساسية التي تظهر عمق الوعي بالهوية الوطنية و القومية عند الأمير المجاهد.
أولا – عند تحديد مرحلة النشأة و الشباب لمحمد بن عبدالكريم أوضحنا كيف تربى في كنف أسرة لها مسؤولية في حضن الدولة المركزية. فأبوه محمد الخطابي كان قاضي قضاة قبيلة بني ورياغل و المشرف عن قواد مراكزها. المسؤولية التي سيتحملها ابنه من بعده. لكن المهم في هذه المرحلة من حياته وجوده عبر فترات عديدة بمدينة فاس بداية القرن قبل ابرام معاهدة الحماية. و كذا مخالطته للعلماء و الوطنيين الأوائل الذين وقفوا في وجه عقد الحماية و وضعوا أول دستور يحدد مسؤولية السلطان. كما عاش فترة محاصرة القبائل، و ضمنها التي نزلت من الشمال، لمدينة فاس و ارغام السلطان عبد العزيز على الاستقالة. ثم نعلم وقوفه الى جانب والده لمحاربة المهندس امحمد الجيلالي الزرهوني الذي ادعى لنفسة السلطنة.
ثانيا – مرحة التحرير و بناء الدولة الشعبية كمرحلة أولى لتحرير باقي أطراف المغرب. ليس هناك غلو في هذا القول. لأنه إذا راجعنا رسائله الموجهة الى المغاربيين المنضوين في الجيش الإسباني و الفرنسي و من والاهم، نفهم بعد مشروعه التحرري. و كذلك معاملته للمعتقلين و المصابين من أبناء طينته المغتر بهم وحثهم على الوقوف الى جانب جيش المناطق المحررة. أن ماو تصيتون و هو شمين لم يأخذا عن القائد البطل أسلوبه الحربي في خوض المعرك و التي سميت في ما بعد يحرب العصابات، و التي هي في الحقيقة طرق استعملها المغاربة منذ عهود، الا أن عبد الكريم أدخل عليها التقنيات الحديثة في استعمال الهاتف و مركزة قيادة العمليات و اختيار الزمان و المكان للهجوم و التراجع. كما قال امريء القيس في معلقته” مكر، مفر، مقبل مدبر معا …كجلمود سخر حطه السيل من عل”. (الجلمود هو السخرة المنفردة فوق اليابس). لم يأخذ القادة المنتصرين في الصين و الفيتنام عنه أسلوبه الحربي فقط، بل تبنوا معه تكتيكه في التحرير الشعبي، المبني على تحرير منطقة معينة و تأمينها، ثم توفير حياة اجتماعية و اقتصادية بها، قبل الانطلاق لتحرير منطقة أخرى. لقد نجحت هذه الخطة الذكية بشكل مبهر. فعند تحرير منطقة يتم فتح الطرق واستعمال الهاتف وتعميم المحاكم للبث في الخلافات التي كانت تنخر القبائل المتصارعة بينها قبل الوحدة و تأسيس جمهورية قبائل الريف. فبعد تحرير المنطقة التي كانت تحت النفود الاسباني شرع القائد البطل في تحرير المنطقة التي كانت تحت السيطرة الفرنسية. ما يهمنا هنا هو البعد التحرري الشامل للمغرب وكذلك باقي أقطار المغرب الكبير، كما أكدته مواقف الأمير خلال تواجده بمصر.
قبل المرور لفكرة أخرى تؤكد تشبث الرئيس عبد الكريم الخطابي بهويته الوطنية و القومية لا بد الإشارة كون الثورة الريفية لم تنهزم أبدا كما يتوهم أعداؤها، بل كانت الشرارة التي انطلقت عبر الشعوب المستعمرة في المشرق العربي و في العالم. و هي بذا ثورة أممية و كذلك قال فيها الشهيد غيفارا مثلا و غيره من أحرار الإنسانية. ثم و هذا جانب من ميزته العلمية و الروحية، أنه لما قامت الثورة الكمالية (نسبة لكمال أتا تورك) و أقامت الجمهورية التركية بعد قضائها على الدولة العثمانية طرحت مسألة الخلافة، بدعوى أنها ركيزة أساسية للمسلمين. و لقد تم ترشيح الفقيه و العالم المجاهد عبد الكريم الخطابي لها عوض الخديوي ملك مص. و ذاك لما داع صيته مشارق الأرض و مغاربها غداة الانتصار العظيم على جحافل الغزاة بأنوال. هذا هو عبد الكريم و هذه عظمته.
أما المرحلة الثالثة – فهي تخص العشرين سنهة التي قضاها منفيا و عائلته بجزيرة لا رينيون و التي لا زالت مطروحة للبحث و التنقيب. ما يمكن استنتاجه أنها كانت مرحة تأمل و تفكير و تدقيق بعض الأخطاء التي وقعت فيها الثورة الريفية الظافرة مثل عدم احتلال مدينة مليليه، التي بقيت ثغرة منها تسلل جيش المعادي. كان موقفا إنسانيا اتجاه الأبرياء من أهلها، و هي خصلة تحسب له لا عليه. كما أنه في هذه المرحلة التي لا بد للباحثين الرجوع اليها للتنقيب على قدرة تطور و ابداع القائد البطل في تسيير مشروعة التجاري و الفلاحي الناجح. الشيء الذي يبرهن كونه كان يملك القدرة على استيعاب الاقتصاد الحديث، الشيء الذي غاب في زمانه على معظم الزعماء و القادة السياسيين.
أما المرحة الرابعة من حياة القائد البطل، و التي تقدر أيضا بعشرين سنة، منذ نزوله أرض الكنانة في 31 ماي 1947 الي يوم وفاته 6 فبراير 1963. في هذه المرحلة سيظهر مدى عمق وعيه الوطني و القومي. فعند نكبة فلسطين كان أول من دعا لمواصلة الكفاح عبر تجنيد و تدريب أفواج من الشباب العربي ابتداء من عام 1948. من تلك الأفواج ستتشكل نواة انظم بعضها الى جيوش التحرير ببلدان المغرب الكبير. لذا لا غرابة أن يصدر أول بيان لإعلان الثورة الجزائرية بتوقيع الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي رئيس لجنة تحرير المغرب العربي و نائبه أمحمد بن عبد الكريم الخطابي. اللجنة التي قامت مكان مكتب المغرب العربي الذي لم يكن يتماشى و نهجه في التحرير و الوحدة. الخلاف حول هذه القضية بينه و باقي الزعماء المغاربيينن، الذين فضلوا الحوار السياسي و استقلال كل قطر على حدا عوض خوض معركة التحرير المشترك لبناء المصير المشترك معروفة بما فيه الكفاية. لكن ما نقصده من طرحنا هنا هو التأكيد على الروح الوحدوية سواء منها على مستوى الأقطار المغاربية أو على مستوى الوطن العربي الكبير.
يرجع البعض التوجه القومي للأمير الى علاقته المتينة مع جمال عبد الناصر القائد القومي في زمانه. نعم كانت هناك علاقة متينة الأواصر بين الرئيس الأممي محمد عبد الكريم و الرئيس القومي جمال عبد الناصر، الا أن قومية محمد عبد الكريم كانت سباقة. فرئاسته لمكتب المغرب العربي، ثم لجنة تحرير المغرب العربي كانت قبل قيام ثورة الضباط الأحرار بمصر عام 1952 و رئاسة عبد الناصر لها بعد سنتين. منظور الأمير كان تحرريا و ثقافيا و حضاريا و مصيريا و مستقبليا منذ عشرينات القرن الفائت.
لم يتخلى محمد عبد الكريم عما يحدث بوطنه المغرب كزعيم الزعماء و امام الوطنيين، بل ظل يتابع تطورات أوضاعه السياسية و الاجتماعية، فهو لم يوافق على الاستقلال الجزئي لمحادثات اركس ليبان و معاهدة سان اكلوا، كما لم يوافق على الدستور الممنوح عام 1962. أما عن علاقته بزعماء الحركة الوطنية و القصر يمكن الرجوع اليها في مناسبة أخرى. لكن للحقيقة و التاريخ، لا بد من رفع لبس مصطنع يخص علاقة الشهيد بن بركة و الرئيس محمد بن عبد الكريم. كان هناك خلاف سياسي بينهما، و هو الخلاف الذي كان قائما و ظل بين الأمير و باقي قادة و الزعماء بالحركة الوطنية حول طبيعة الاستقلال، الا أنه بعد قيام حكومة عبد الله إبراهيم والحركة التصحيحية التحررية المجسدة في تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بزعامة المهدي بن بركة، ستتقوى العلاقة بين محمد بن عبد الكريم و هذا الأخير الذي سيستقر بعائلته هو الآخر بمصر و الذي رغم تنقلاته عبر العالم ابتداء من 1962 سيكون له تواجد ملحوظ بالقاهرة و حيث توطدت علاته بالأمير محمد بن عبد الكريم و الرئيس جمال عبد الناصر. هذا الأخيرالذي كان يعتبر الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي أبا روحيا له والشهيد المهدي بن بركة أخا ومرجعا له في كثير من القضايا العربية والدولية.
محمد المباركي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.