أشعر برغبة حقيقية في الدفاع عن معمر القذافي، ليس لأني شعرت بالخزي و" الغدر"مما رأيناه جميعا من سحل و تمثيل تعرض له هذا الشخص عند أسره من طرف "ثوار" كنا نتأمل فيهم سلوكا أكثر تحضرا، و ليس لأننا شعرنا ربما ببعض الألفة و التشويق في "مسلسل" المطاردة و التخفي الذي عشناه معه في هذه الأشهر التي انقضت، و ليس خصوصا لرغبة في معاندة ما أجمع الناس عليه حول جنون هذا الرجل و غرابته، و لا لأني أقاسم العقيد بعضا من اختياراته الإديولوجية و التي كنت أرى فيها دائما مزيجا من الطوبى و العته و الشعبوية ، و لاقتناعي بشيء مما دبجه في كتابه الأخضر، و لكن لسبب آخر أعمق هو أني أعتقد شخصيا أن معمر القذافي ككائن سياسي هو موضوع حقيقي للتفكير، وبالتالي فالحديث عنه في نظري ينبغي أن يتجاوز مجرد الاتهام و التجريم و القذف في شخصه ، إذ إن ذلك سيكون من باب تحصيل الحاصل ليس إلا. القذافي يطرح سؤالا جوهريا هو سيكولوجيا السلطة، و علاقة السياسة و العمل السياسي بهذه السيكولوجيا. يغلب على المحللين و الخبراء و "علماء السياسة" تناول الفعل السياسي باعتباره فعلا واضحا يعي شروط تحققه و غاياته و أهدافه، فيسقطون في ما يمكن أن نسميه ب"الموضعة" القبلية لهذا الفعل، العيب في هذا المنهج العلموي هو كونه يختزل السياسة في بعدها المؤسسي الرسمي و إطارها العقلي، و الحال أن السياسة و السلطة ليست كذلك بتاتا، أو هي على الأقل ليست كذلك فقط ، السياسة غواية و أهواء و رغبات و نوازع و ميولات نفسية، ففي السياسة من اللاعقل بقدر ما فيها من العقل، أو لعل فيها من اللاعقل و الهوى أكثر مما فيها من العقل و الحصافة، و هذا الأمر ليس الباعث عليه فقط كون الإنسان بطبعه كائنا غير واع، بل لأن للسلطة و الجاه نشوة تزكّي و تقوي هذا النزوع اللاواعي الأصلي في السلوك و الفعل الإنسانين. ما علاقة كل هذا بالقذافي، و ما الصلة بينه و بين ما أعلنته ابتداء من رغبة في الدفاع عن هذا الشخص ؟ في ظني العلاقة واضحة، القذافي شخص كشف لنا بشكل ملموس و مجسد –و ربما كاريكاتوري- عن أثر الهوى و اللاوعي والمرض و العته في العمل السياسي و المؤسسي، و بهذا فإني أرى أننا مدينون لهذا الشخص، مدينون له لكونه رفع وعرّى عن عورات السياسة، فهو بلباسه الغريب رفع الهيبة عن رباطات العنق و البدلات الأنيقة التي يتنكر فيها ساستنا للتغطية على حقيقتهم، وهو بخطبه الخرقاء كشف عن الخبيئ الكامن خلف خطابات الخشب التي يتمترس خلفها رجال السياسة "العاديين"، القذافي باختصار رفع ورقة التوت عن طبيعة رجل السياسة، و عن طبيعة الفعل السياسي و عن معدن من يحكمنا من الناس. و لا يجدي في دفع هذا الأمر أن يقول أحدهم إن القذافي استثناء، ففي ماذا سيكون هذا الاستثناء ؟ و هل سلك غيره من الرؤساء الآخرين غير ما سلك هذا الرجل و إن بكيفية لعلها تكون أكثر إتقانا، قتل الشعب و سحله دفاعا عن نزوة ذاتية ؟ ثم دعوني أطرح سؤالا شعبويا نوعا ما، إن كان القذافي على ما ظهر من الجنون، و كان رؤساؤنا و مسؤولونا على وعي تام بهذا، فكيف أباحوا لنفسهم التعامل معه و الاجتماع به و التواصل معه لمدة 42 سنة دون أن يعلنوا للناس إن هذا الرجل مريض ؟ سؤال ساذج، و لكني ألح عليه مع ذلك. القذافي كشف عن جانب لا يدركه "علم السياسة" في من يحكمنا، عن طبيعة السلطة، كونها فعلا يجعل المنتمي إليه إنسانا - أكاد أقول- مريضا "موضوعيا" ، وعن كون السلطة "حزينة" بطبعها كما قال دولوز يوما. كل رجل سياسة هو "قذافي" محتمل؛ قذافي ب"القوة" قد يصير يوما "قذافيا" بالفعل .