يعرّف المجال العام، بأنه الفضاء المشترك الذي يحق لجميع المواطنين استغلاله والتحرك داخله، مع احترامهم للقوانين والسلطات المنظمة له. القوانين تتكلف بسنها السلطة التشريعية المتمثلة في البرلمان، والذي يتم اختيار أعضائه عن طريق الاقتراع العام المباشر، وهم بذلك يمثلون إرادة المواطنين؛ أما الجهة التي أوكل لها تنظيمه، فهي السلطة التنفيذية المنبثقة عن الأغلبية البرلمانية، والتي تسهر على تطبيق القوانين التي يصادق عليها البرلمان. أما مقولة "هبل تربح" فإنها تصلح لكي تكون شعار المرحلة بامتياز، نتيجة للفوضى العارمة التي استشرت، في شوارع مدننا هذه الأيام. وللوقوف على استفحال هذه الظاهرة، يكفي أن تقوم بجولة قصيرة، بين أحياء مدننا أو بين صفحات جرائدنا الوطنية، فتطالعك الكثير من الأمثلة، من قبيل احتلال الملك العام والبناء العشوائي والأزبال المتراكمة في كل مكان.. إلى غير ذلك من المظاهر التي تسيء إلى جمالية الفضاء العام خاصة داخل المدن. مناسبة هذا الكلام ما لاحظته عند مروري بأحد شوارع المدينة: الباعة الجائلون، لم تعد تكفيهم، "كراريسهم" اليدوية، فقاموا بنصب خياما دائمة، "وداعوا" على الطريق، تاركين منفذا بالكاد يسمح بمرور شاحنة أو سيارة. التساؤل المشروع الذي يطرح نفسه هنا بإلحاح هو، أين هي السلطات المحلية، التي أوكلت لها الدولة الحفاظ على المجال العام، ولو باستخدام القوة العمومية، إن اقتضى الأمر ذالك؟ الحراك الشعبي الحالي، الذي انطلق من تونس وعم المنطقة العربية، وتجاوزها إلى دول الجوار الجغرافي، جعل السلطات المحلية تحجم عن القيام بدورها، فشرارتها الأولى انطلقت من جسد شاب يدعى محمد البوعزيزي، صادرت السلطات المحلية لبلدته "سيدي بوزيد" سلعته، التي كان "يترزق بها الله".. فاجتاحت تونس مظاهرات عارمة، انتهت بهروب بن علي. هكذا، بعد أن انقلبت كروسة البوعزيزي على رأسي الرئيس زين العابدين بن علي، وباقي الأنظمة العربية، لم يعد أحد يجرأ على الاقتراب من "كراريس" هؤلاء، فتمادى الجميع في خرق القانون ليس الباعة الجائلون وحدهم. في ما مضى من الأيام كانت السلطات، تقوم بحملات مطاردة "للفراشة" وأصحاب "الكراريس"، ومداهمة الأسواق العشوائية ومصادرة السلع، وفك الحصار الذي يضربونه على الأحياء والشوارع، لكن، سرعان ما يعود هؤلاء إلى أماكنهم بعد أن تتراجع القوة العمومية. هكذا، بين عمليات كر وفر لا تنتهي، أراد المسؤولون حل هذه المعضلة. هذه المقاربة أثبتت محدوديتها، بل وفشلها في التصدي لهذه الظاهرة، بدليل أنها لم تتوقف بل زادت استفحالا، فالواقع الاجتماعي والاقتصادي الهش المتميز بمستويات مرتفعة من البطالة، تدفع بالعديد من العاطلين الباحثين عن العمل للجوء إلى هذا القطاع، الذي يبقى ملاذهم الأخير، خاصة في ظل عدم امتلاكهم للكفايات اللازمة لولوج سوق الشغل أو عدم تلاؤم كفاياتهم مع المناصب المتوفرة. لذلك، تبقى عمليات إعادة التأهيل والتكوين وحدها الكفيلة بإدماجهم في سوق الشغل. كما أن بناء أو تجهيز مساحات ملائمة بالتشارك مع هؤلاء الباعة، قد تحد من المشاكل التي تخلقها هذه الظاهرة، خاصة في ما يتعلق بعرقلة السير في المحاور الطرقية والشوارع. ويبقى السؤال المتعلق بالمجال العام مطروحا، لأن الباعة الجائلون هم جزء من مشكل عام، يرتبط بعدم احترام المواطنين للقواعد التي تؤطر العيش المشترك في الفضاءات العامة. حكى لي صديق عن مشاهداته، بعد عودته من زيارة للولايات المتحدةالأمريكية، أن أكثر ما شد انتباهه وأثار اندهاشه، الانضباط الكبير الذي يتحرك على إيقاعه المواطنين الأمريكيون، إنهم أشبه بالساعات السويسرية، فهم يحترمون القانون، ولا يفكرون في خرقه، لأنهم من جهة يحترمونه ومن جهة ثانية لأن السلطات تطبقه بصرامة في حق الجميع على قدم المساواة، وهي "حالا عينيها مزيان"، فما إن ترتكب أي مخالفة صغيرة أو كبيرة، حتى تجد الشرطة فوق رأسك، ودون أن تدخل معك في الأخذ والرد، تحرر في حقك مخالفة، تكون مضطرا لتسديدها في أقرب الآجال، وإلا، فإن العواقب ستكون وخيمة. هذه الروح عند الإنسان الأمريكي والغربي على العموم ترتبط بتراث حقوقي وقانوني يمتد حتى النهضة الأوربية، وقام بصياغته العديد من الفلاسفة، في إطار بناء الدولة الحديثة القائمة على المواطنة والحرية والمساواة وغيرها من المفاهيم المرتبطة بالحقوق الطبيعية. فكان من بين الإشكالات الشائكة التي تطرحها هذه المطارحات الفكرية، مسألة احترام المواطنين للقوانين المنبثقة عن هذه الحقوق، بعيدا عن وصاية الكنيسة (الوازع الديني)، واستبداد الحكام (واجب الطاعة)، وكان من هؤلاء، الفيلسوف الألماني كانط الذي أجاب عن هذا السؤل، بأن قال: أن يساهموا في صياغتها. في ظل الدستور الجديد، والانتخابات التشريعية السابقة لأوانها، والضمانات التي قطعتها الدولة على نفسها، في ما يخص نزاهة الانتخابات، نتمنى أن تفرز برلمانا يعبر عن إرادة عموم المواطنين، وتنبثق منه حكومة منسجمة، تتكلف بتنفيذ ما يسنه البرلمان من قوانين تكون ملزمة للجميع على قدم المساواة وبالصرامة المناسبة. هكذا، سيساهم المواطنون في صياغة القوانين، التي سيكون جزءا منها خاصا بتنظيم الفضاءات العامة، فهل سيصبحون أكثر التزاما بها، التزام يعفينا رؤية البشاعة التي تجتاح مدننا؟