تعقيبا على مقال السيد أحمد عصيد من خلال قراءة متأنية لمضامين المقال، أجد أن صاحبه اعتمد مقاربة تبسيطية في تحليله لمفهوم الديمقراطية لدى الإسلاميين، مركزا على فكرة وحيدة، وهي أن على الإسلاميين أن يتخلوا عن المفهوم الضيق للديمقراطية برأيه والتي (تختزل في صوت الأغلبية وصناديق الإقتراع) واعتناق المفهوم العلماني الذي يشمل (قواعد اللعبة وقيمها وأسسها الفكرية والفلسفية)، وذلك حتى يتم حماية حقوق الأقليات. والحقيقة أن هذا الطرح يقوم على حكم القيمة، لاستناده على قراءة إيديولوجية "مُتحامِلة" لمفهوم الديمقراطية ، ذلك أن صاحب المقال لم يكن دقيقا حينما حشر الإسلاميين كلهم في سلة واحدة. ولا أظن أن السيد عصيد يجهل أن هناك تيارات إسلامية متعددة في المغرب، وكل منها يمتح من توجه فكري وسياسي مختلف، رغم تقاطعهم في المرجعية الإسلامية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنني لا أدري من أين أتى كاتب المقال بفكرة أن الإسلاميين لا يؤمنون بالديمقراطية إلا في الشق المتعلق بالانتخابات، إلا إذا كان يتحدث عن مكون محدد داخل الإسلاميين كالسلفيين مثلا؟! فحسب علمي، لا يوجد بين مكونات الحركة الإسلامية بالمغرب: حركة التوحيد والإصلاح وجماعة العدل والإحسان والحركة من أجل الأمة والبديل الحضاري، من لا يؤمن بالمفهوم "الكوني" للديمقراطية، بما يشتمل عليه من مبادئ التعددية والحرية والتداول السلمي للسلطة وغيرها من المبادئ المكملة... لكن السيد عصيد وإمعانا منه في تصوير الإسلاميين كما لو أنهم غير ديمقراطيين - كما هي عادة معظم العلمانيين- أرجع أساس الخلاف بين العلمانيين والإسلاميين في الهدف من الديمقراطية، فالإسلاميون برأيه يعتبرونها (آلية تمكّن من "إقامة الدّين" وفرضه عبر المؤسسات على المجتمع بكامله وجعله مرجعية وحيدة للتفكير والعمل..)، أما العلمانيين فغايتهم منها (حماية الحريات باعتبارها جوهر الديمقراطية، وضمان التداول على الحكم عبر تحييد المؤسسات في موضوع الدين...). المشكلة لدى السيد عصيد، كما عند بعض العلمانيين - وبالأخص التيار الأمازيغي الراديكالي- هي الدِّين، فهمه الوحيد هو إقصاء الدِّين من الشأن العام، وكأن الدّين والديمقراطية ِضدّان لا يَجْتمِعان، وهو من حيث لا يدري يناقض جوهر الديمقراطية، التي تكفل التعددية والاختلاف في الآراء والأفكار،فهو يدافع عن الديمقراطية من وجهة نظره في الظاهر، لكنه ينسفوها من الأساس، عندما يمارس الإقصاء باسمها للمكون الإسلامي. الديمقراطية هي نتاج بشري متعدد المشارب، وليس للعلمانيين فضل في وجودها، وقد عرفت تطورا عبر التاريخ البشري، وهي لا تزال قابلة للتطور مع السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية المختلفة، وهذا ما أقره صاحب المقال : (فالخصوصية في الديمقراطية تتعلق ببعض السياقات التي تختلف من بلد إلى آخر، دون أن تضرّ بجوهر النظام الديمقراطي، فالتجارب الفرنسية والأمريكية والإنجليزية والهندية والجنوب إفريقية مختلفة في الديمقراطية). إذا، فالتخوف الذي يبديه صاحب المقال على "الأقليات" في حال وصول الإسلاميين للحكم، لا مبرر له، لأن هناك عدة تجارب حديثة أثبتت أن العكس هو الحاصل، فقد عانى المسلمين من حكم العلمانيين في عدد من الدول العربية والغربية، وهم الذين مارسوا الاضطهاد على الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية، سواء في فرنسا وتركيا وتونس قبل الثورة وغيرها... أما تجربة الإسلاميون في الحكم، فلا تتوفر لدينا تجارب حقيقية لتقييم أدائها، ومع ذلك، فإن التجربة الإسلامية في تركيا يمكنها أن توضح بجلاء أن التعارض المصطنع الذي يقيمه العلمانيين بين الدين والنظام الديمقراطي لا أساس له، ونجاح حزب العدالة والتنمية التركي، في إسقاط الالتباس والتوجس الحاصل لدى العلمانيين، من خلال تبنيه لديمقراطية أكثر حداثة وتقدما مما كان تطرحه النخبة العلمانية. أما التجربة الإيرانية أوالسودانية، ورغم أنها حملت شعارا إسلاميا، لكنها غير إسلامية بالمعنى الصحيح للكلمة، على اعتبار أنها تجارب غير مكتملة لعدة اعتبارات داخلية وخارجية، لا مجال للخوض فيها الآن، وبالتالي لا يمكن القياس عليها. وإذا كانت الديمقراطية تعني حكم الشعب لنفسه، فإن مقتضى ذلك قبول خيار الشعب، والذي يحدده من خلال الانتخابات، أما أن يتحدث كاتب المقال عن (استغلال لصوت الجمهور في ظرف معين من أجل ترسيخ حكم "جماعة المؤمنين" باعتباره نهاية التاريخ)، فيه كثير من المبالغة والتضخيم، لأن الديمقراطية كنظام للحكم يمتنع عن إنتاج التسلط والاستبداد، بل إنها تفسح المجال واسعا أمام المعارضة والتعددية عبر آليات ومؤسسات منتخبة.