ليلة الجمعة التاسع عشر من غشت 2011 عرضت القناة الثانية 2M فيلم (زمن الرفاق) للمخرج الشريف الطريبق الذي اقتبس السيناريو من مذكرات عزيز قنجاع (بين قوسين)، وتم إنتاج الفيلم بشراكة بين المركز السينمائي المغربي والقناة الثانية سنة 2008. يعرض الفيلم والمذكرات لأوج مرحلة الصراع بين الطلبة اليساريين والطلبة الإسلاميين في رحاب جامعة عبد المالك السعدي بتطوان سنة 1992، وخصوصا الصراع الدامي بين الطلبة القاعديين وطلبة العدل ولإحسان. لم يكن منتظرا من مخرج الفيلم أو من كاتب المذكرات أن يتحدث بحيادية عن تلك الوقائع الأليمة خاصة إن كان عاش أحداثها وشارك فيها وما يزال لم يتحرر من تفاصيلها رغم الابتعاد الزمني الذي يتيح رؤية أوضح ووعيا أسمى، بمن كانوا وراء الكواليس يحركون الخيوط بإتقان تام لخدمة مخطط رهيب استهدف قوى شبابية حية من الطرفين، كانت ولا تزال، أمل البلاد في التحرر من أعدائها الحقيقيين، ناهبي الخيرات المفسدين المستبدين. المشهد الكاريكاتوري "للإخوان" وهم يحملون السيوف وكأنهم في مشهد فيلم تاريخي عن غزوة بدر، لايمت إلى الواقع بصلة، فلو كان كذلك لكان عدد "الضحايا المشلضين" بالمئات وليس بالوحدات، هذا في الوقت الذي يظهر الفيلم الرفاق مناضلين بالكلمة لا يمتّون إلى العنف بصلة. الفيلم وقع في بعض الأخطاء، قد تكون سهوا من قبل كاتب المذكرات، فهو يحكي عن أحداث سنة 1992 ويسرد أثناءها خبر اغتيال المرحوم المعطي بوملي بوجدة، في حين أنه قتل في فاتح نونبر 1991، وحتى اسمه ورد خطأ، المعطي أومليل. عودة إلى تلك المرحلة لا أدري إن كانت عشرون سنة من الزمان التي مرت حتى الآن، كافية لاستجلاء حقيقة ما وقع في ذلك اليوم المشؤوم. ولا أدري إن كانت عشرون سنة من الاعتقال الظالم في حق اثني عشر من خيرة شباب جماعة العدل والإحسان وما صاحبها من مساومات لتركيع الجماعة مع عرض خيار العفو الملكي مرارا، كافية للتوضيح بالملموس أن الحدث كان مفبركا من جهات باتت معروفة، مصلحتها اغتيال خصومها السياسيين وإلصاق التهمة بخصوم لها آخرين لتضرب عصفورين بحجر واحد. ويأتي اغتيال المناضل عمر بنجلون في هذا الإطار للتخلص منه ومن الشبيبة الإسلامية في أواسط السبعينيات من القرن الماضي. التخلص من الخصوم كانت تتكلف به الأجهزة السرية بطريقة مباشرة قبل ظهور الحركة الإسلامية على مسرح الأحداث، اغتيال الشهيد المهدي بنبركة بفرنسا وتذويب جثته بالأسيد بمشاركة أجهزة أجنبية، حرق الأكاديمي الإقتصادي عزيز بلال بالولاياتالمتحدةالأمريكية "في ظروف غامضة"، اغتيال العديد من المناضلين اليساريين: رحال،كرينة، سعيدة المنبهي.. واللائحة تطول، هل كل أولاء كانوا ضحية "التيار الظلامي" كما يحب غلاة اليسار أن يصفوا الإسلاميين. بل حتى الفئة التي اغتالت عمر بنجلون لم تكن إلا النصل الذي نفذ الجريمة بسذاجة، وابحثوا عمن كان يحمل قبضة السكين. أقول إن الأحداث التي راح ضحيتها المرحومان المعطي بوملي بوجدة وبنعيسى آيت الجيد بفاس كانت من فعل فاعل، هو المستفيد الأول والأخير مما حدث. هو الذي يطبق منذ قرون سياسة فرق بين القبائل والفرقاء السياسيين تسد. صحيح أن الفصائل اليسارية ذات الأقدمية في الميدان رفضت الوافد الجديد، الفصيل الإسلامي، ومارست عليه كل أنواع العنف لاستئصاله من أرض محفظة باسمها، كما رفضت من قبل استنبات الاتحاد الطلابي الاستقلالي، والذي أبدى الأستاذ الساسي مؤخرا في ندوة "اليسار والإسلاميون"، استعداده للاعتذار إليهم لعدم ديمقراطية هذا السلوك اليساري، دون أن يبدي أدنى استعداد للقيام بالمثل في حق "الطلبة العدليين" على ما مارس عليهم هو شخصيا – أيام كان على رأس الشبيبة الاتحادية أواسط التسعينيات من القرن الماضي، أثناء تنظيمه للجامعة الربيعية بالدار البيضاء-. هذا بالرغم من أن أولئك "العدليين" هم اليوم حلفاؤه في أرضية 20 فبراير الذين يرفض، بأمر من قيادة حزبه الجديد محاورتهم ويصنفهم جنبا إلى جنب مع الأحزاب الإدارية في نفس الندوة المشار إليها سالفا. وكان من الطبيعي أن يرد الطلبة المعتدى عليهم عنف اليسار بعنف مثله، لكن دون أن يصل هذا العنف إلى حد القتل، بدليل أن المرحومين أسلما روحيهما لبارئهما أياما بعد الاشتباك ورفضت السلطات تسليم جثتيهما لذويهما، والله وحده يعلم ما فعل بهما قبيل موتهما. الصراعات الفصائلية بين الطلبة كانت ولا تزال طبيعية، وكان العنف يكتنفها في مرحلة العنفوان، لأن الشعوب المقموعة لعقود بل لقرون لا تعرف تدبير اختلافاتها بالحوار والحكمة. وهذه الصراعات قد تكون بين فصائل التيار الواحد، واسألوا الدكتور مصطفى المريزق، وهو اليوم وجه بارز من وجوه حزب الجرار، عندما اخترق بطنه سكين من رفيق له قاعدي ينتمي إلى فصيل منافس، في موسم 1987-1988 برحاب الحي الجامعي ظهر المهراز، وأنا كنت شاهد عيان على هذه المرحلة. ظروف مواجهات اليسار والعدل والإحسان سنة 1991 وما تلاها كانت سنوات الثمانينيات من القرن العشرين سنة صعود للصحوة الإسلامية بعد نجاح الثورة الإيرانية وتحقيق الجهاد الأفغاني لنجاحات كبيرة ضد الشيوعيين السوفييت، وانتصار المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان ضد العدو الإسرائيلي.. بالمغرب تأسست جماعة العدل والإحسان سنة 1981، فاستفادت من تلك الرياح المواتية، كما استفادت من تاريخ مؤسسها الأستاذ عبد السلام ياسين الذي ابتدأه برسالة "الإسلام أو الطوفان" سنة 1974 الموجهة إلى ملك البلاد آنذاك. رغم الاعتقالات والتضييق والحصار والمحاكمات الصورية، استطاعت الجماعة أن تصبح قوة لا بأس بها في ساحة الفعل السياسي المغربي، لكن في صعود متزايد. الجارة الجزائر المدعّمة للانفصال في أقاليمنا الجنوبية، عرفت هزة عنيفة في أكتوبر 1988 بعد عقود من الحزب الوحيد، فأعطت التعددية الوليدة حزبا "أصوليا" قويا زاحفا على الحكم بكل نزاهة الديمقراطية الوليدة هو جبهة الإنقاذ الإسلامية، قبل الانقلاب عليها سنة1991. هذا التحول الإقليمي شغل بال الحسن الثاني بجدّ، لغاية أنه قابل على متن باخرته في إحدى المؤتمرات زعيم الجبهة الدكتور عباسي مدني لمعرفة كيف يفكر الحكام المحتملون للجارة المشاكسة. على المستوى العالمي كانت خارطة أخرى في طور التشكل على أنقاض الثنائية القطبية، وذلك بفعل انهيار المعسكر الشيوعي بعد سبعين سنة من انتصار الثورة البولشفية، ثم تفكك الاتحاد السوفياتي نفسه، ثم توحدت برلين بعد انهيار جدارها كعلامة بارزة وفارقة على انهيار النموذج الشيوعي، وتوحدت بتوحيد الألمانيتين أوربا بعد مراحل توّجت بمعاهدة ماستريخت في دجنبر 1991 . هذه الوحدة بالإضافة إلى تشكل قوة اقتصادية أخرى في آسيا: الصين واليابان والنمور الآسيوية، جعلت المنتصرة في الحرب الباردة الولاياتالمتحدةالأمريكية على غريمها الشرقي لا تنتشي بهذا الانتصار، فالنظام العالمي الجديد الذي بشرت به ساعتها مهدد بهذه القوى الصاعدة، ونقطة ضعف الأخيرة اعتمادها الكلي على نفط الخليج. وكعادة الكاوبوي الأمريكي الذي يطلق الرصاص أسرع من ظله، سيسارع وسيغامر في بسط يده على هذا النفط تحت ذريعة حماية الإمارات الخليجية من خطر صدام الذي أوعزوا إليه احتلال الكويت سنة 1990. حرب الخليج الثانية، حرب تحرير الكويت، ورفع صدام لراية "الله كبر"، وضربه تل أبيب بالصواريخ أهاج الشعوب العربية كافة وجعل كراسي الحكم تهتز من تحت الجالسين عليها. المغرب لم يخرج عن هذه القاعدة- لا نتحدث هنا عن قاعدة بن لادن- فخرجت الجماهير في مسيرة حاشدة في شوارع الرباط. لكن ما لفت نظر المخزن على زمن الحسن الثاني وادريس البصري، ضمن مسيرة مساندة العراق في فبراير1991 حضور قوي في تنظيمه وشعاراته وعدده لجماعة العدل والإحسان، في الوقت الذي ظنوا فيه أنهم انتهوا منها بعد فصل القيادة عن القاعدة، المرشد تحت الحصار ممنوع من الخروج من بيته أو استقبال أحد من غير أفراد عائلته، ومجلس الإرشاد في السجن منذ يناير 1990. بعد أقل من ثلاثة أشهر وبمناسبة عيد الشغل في فاتح ماي 1991، خرجت الجماعة في ثمان مدن كبرى ضمن المسيرات العمالية، بقوة ضاعفت خروجها لمساندة الشعب العراقي بأضعاف كثيرة، هنا تحسس النظام المخزني الخطر، دون أن ننسى الصعود القوي في هذه الفترة للإسلاميين الجزائريين. هذه العوامل عجلت بفتح "حوار ومفاوضات" أو لنقل مساومات، لأن المخزن لا يؤمن بالحوار مع الجماعة. خلاصة "الحوار" أن تعترف الجماعة بإمارة المؤمنين، أي بالشرعية الدينية للنظام القائم، ولتطلب ما تشاء بعد ذلك من مقرات ومناصب وأموال.. كان الرفض القاطع هو الجواب المبدئي لقادة الجماعة،على اعتبار أن لإمارة المؤمنين شروطا شرعية ومن ضمنها أن أن يكون الأمير محط قبول المؤمنين في كل الأقطار الإسلامية الموحدة وليس في قطر واحد، وأن يبايعوا بيعة طوعية لا بيعة إكراه ضمن "عقد اجتماعي" يكون لطرفيه حقوق وعليهم واجبات واضحة لا تلتبس بالطقوس الغريبة عن الشرع الحق. كانت جولة المساومات هذه بين شهري ماي ويونيو 1991، وسلبية نتائجها للنظام جعلته يفكر في سياسة ليّ الذراع التي يتقنها جيدا وجربها مع كل فرقائه السياسيين بنجاح باهر. في شهر يوليوز 1991،شهر عيد الشباب، أصدر الحسن الثاني عفوا ملكيا على معظم القيادات الطلابية المعتقلة من اليسار الجذري (40 معتقلا)، وتم الترخيص لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي( اللجنة الإدارية لحزب الاتحاد الاشتراكي سابقا، مع العلم أن الطليعيين يعتبرون أنفسهم استمرار لحركة التحرير الشعبية المغربية وللحركة الاتحادية الأصيلة؛ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ثم الاتحاد الاشتراكي)، وتم السماح بإصدار العديد من المجلات والجرائد اليسارية... كل من تابع مستجدات هذا الصيف يدرك دون صعوبة أن طبخة ما تتهيأ للدخول الجامعي الجديد 1991-1992. ثلاث مواقع جامعية ستخضع للتجربة، وأيها أعطى نتيجة فهو المراد، فلا يجب ترك شيء للصدفة: فاس، وجدة والقنيطرة. احتقان شديد في رحاب الجامعات الثلاثة، اعتداءات بالجملة على الطلبة الإسلاميين ذكورا وإناثا دون أن تحرك الإدارة ساكنا رغم الشكاوى التي وصلتها. وأعطي موعد 25 أكتوبر كحد أقصى لتجول الرموز الإسلامية ( الحجاب خصوصا) في الساحة الجامعية. كان واضحا أن النظام يدفع الجماعة في اتجاه ممارسة العنف، وكان اللاعنف مع عدم التنازل عن المبادئ هو مصدر قوة الجماعة الذي طالما أربك النظام المغربي. نجح النظام في إلصاق تهمة اغتيال المعطي بوملي بطلبة الجماعة الإثني عشر في وجدة وحكم عليهم بمدة عشرين سنة سجنا، فضلا عن سجن عشرات آخرين بمدد متفاوتة في المدن الثلاثة المذكورة. كل هذا ليكون للنظام رهائن من أبناء الجماعة ليساومها من موقع قوة إذا اقتضى الحال. عودة إلى الفيلم لماذا عرضت 2M فيلم زمن الرفاق في هذه الفترة بالضبط؟ بعد ستة أشهر على الحراك المتمثل في حركة 20 فبراير، وبعد أن توسل المخزن بكل حيلة لتشتيت الحركة، من قمع مباشر وصل حد بعض الاستشهادات، إلى تأليب الرأي العام ونشر الشائعات وإلصاق شتى التهم بشباب الحركة، مجندا في ذلك الجرائد المأجورة والمواقع المشبوهة ووسائل الإعلام الرسمية المسموعة والمكتوبة والمرئية، والبلاطجة المأجورين، ما زالت كل مكونات الحركة تقول:"ما مفاكينش". قد يقول قائل أن الفيلم كان محاولة لتشويه صورة الإسلاميين وخصوصا جماعة العدل والإحسان، مبرزا عنفهم وعجزهم عن الحوار، وهذا غير صحيح. لكن المتأمل جيدا سيدرك أنه كان أيضا تشويها للرفاق القاعديين أيضا من خلال إبرازهم في خطاباتهم مجرد باحثين عن إثارة إعجاب الرفيقات لاصطحابهن إلى المقاهي أو معاشرتهن في البيوت وعيش حياة العربذة... لكن لم يكن هذا التشويه هو المقصود فحسب، بل كان هناك مكر مخزني خفي. كانوا يراهنون عن انفضاض الجمع تلقائيا لأنه يضم خليطا غير متجانس من المناضلين، بل فرقاء جمع بينهم الصراع الدامي قبل عشرين سنة، فلا يعقل أن يكون بعضهم لبعض سندا. كانوا يريدون التذكير بالصوت والصورة بعداوة هم من أشعل شرارتها لتصفية حسابات معقدة، عسى أن يتواثب الحيان من قبيلة 20 فبراير ويعيدوها جذعة، لكن هيهات هيهات!! لقد شب عمرو عن الطوق ودارت الدائرة على كل فاسد مستبد وآن أوان الحساب. تذكرت وأنا أشاهد الفيلم إحدى المواقف من السيرة النبوية مشابهة لما نحن بصدده، مع اختلاف بين الأطراف. كان بطلها شيخ يهودي شاب في الكفر والمكر. فقد روى الطبري بسنده وغيره عن زيد بن أسلم قال: مر شاس بن قيس - وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة - يعني الأنصار: الأوس والخزرج- بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من يهود كان معه فقال له: اعمد إليهم فاجلس معهم فذكرهم يوم بُعاث (بعاث حرب ضروس بين القبيلتين) وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، وقال بعضهم لبعض: إن شئتم رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الحرة. فخرجوا إليها وتحاوز الناس على دعواهم التي كانت في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين الله الله.. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟! فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس. فهل تعي أطراف حلف الفضول الجديد حجم المؤامرة، خاصة أن الندوات والمحاضرات الأخيرة في العديد من المدن بدأت تزرع بذور الشك والتشكيك في النوايا، بعد شهور من النضال الملتزم ونكران للذات من قبل الجميع؟