ترجمة: المصطفى روض 30 أكتوبر, 2018 - 07:10:00 في الرباط ثمة شارع يسمى المهدي بن بركة، وهو معروف في المدينة لدى الجميع، توجد فيه أحدث صالة للألعاب الرياضية، والعديد من محلات سوبر ماركيت ومطاعم يزورها دبلوماسيو السفارات المجاورة، يبدو الأمر وكأن الدولة المغربية أرادت التعويض عن جرح كبير مازال مفتوحا. ارتكبت جريمة قتل المهدي بن بركة يوم 29 أكتوبر 1965 في مدينة باريس على الساعة 12:15 من النهار أمام حانة "ليب" رقم 151 شارع سان جيرمان. بن بركة كان يعلم أن الأجهزة السرية للملك الحسن الثاني تتعقب خطواته، ولم يكن ليخطر على باله أبدا أن يدخل إلى القنصلية المغربية في باريس كما فعل الصحفي السعودي "خاشقجي" في إسطنبول لأن العدالة المغربية سبق أن حكمت عليه بالإعدام غيابيا بتهمة التمرد، ومع ذلك، ذهب بن بركة إلى موعد قبالة حانة "ليب" مع المخرج السينمائي "جورج فرنجو" الذي، من الناحية النظرية، كان يخطط لتصوير فيلم حول إنهاء الفترة الاستعمارية تحت عنوان "باستا" (كفى)، في الواقع كل شيء كان جزءا مرتبا من فخ نصبته المخابرات المغربية. ولد بن بركة عام 1920 بمدينة الرباط. منذ صغره كان يرافق شقيقه الأكبر إلى المدرسة الذي يظل في انتظاره أمام بوابتها. وككل العائلات المغربية الفقيرة، يكون الحق للأخ الأكبر في الذهاب إلى المدرسة. ذات يوم استدعاه المدرس للدخول، فإذا به يتنبأ أن الطفل كان متنورا، حيث سيتحول إلى أفضل أعلام الرياضيات للبلد وأستاذا للأمير الحسن (الذي سيصبح ملكا ويحمل اسم الحسن الثاني)، ومؤسسا للإتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحزب الرئيسي لليسار في المغرب، كان حليفا لملك المستقبل وطالما كانا يتطلعان معا إلى استقلال المغرب. لكن بعد وصول الحسن الثاني إلى العرش عام 1961، تحول بن بركة إلى معارض رئيس له. كان بن بركة مرجعا هاما لجزء كبير من اليسار في العالم الثالث. في سنة 1965 أعد رفقة فيديل كاسترو وتشي غيفارا المِؤتمر الأول للقارات الثلاث الذي عقد بمدينة هافانا العام الموالي، وكان واعيا بوجود أعداء أقوياء جدا، لكنه لم ينتبه إلى الفخ الذي نصبته له اليد الطولى للأجهزة السرية المغربية خلال شهور. في ذلك الصباح، قبل 53 سنة خلت، تقدم عنصران، عرفا نفسيهما كضابطين فرنسيين، عملا على توقيفه أمام حانة "ليب"، وعٌلم بعد ذلك أنه تم نقله إلى فيلا في باريس حيث تلقى التعذيب حتى الموت. لكن جثته لم تظهر نهائيا، رغم أن محاكمات عديدة جرت في باريس، وكتبت الآلاف من المقالات والكتب، وصورت أفلام. وبعد سنوات من التحقيق بات واضحا أن عملية الاختطاف كانت منظمة ومدبرة من قبل الجنرال محمد أوفقير الذي لم يكن آنذاك وزيرا للداخلية للحسن الثاني، فقط، و إنما كذلك، مديرا لجهاز الاستخبارات السرية، واليد اليمنى للملك، ومع أوفقير كان هناك متهم آخر هو نائبه الجنرال أحمد الدليمي. في حدث غير مسبوق في القانون الدولي، أدانت العدالة الفرنسية وزيرا من خارج بلدها هو (أوفقير) بالسجن المؤبد، لكن الحسن الثاني رفض تسليمه، مما أدى إلى تجميد العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا، في عهد الجنرال دوغول، والمغرب لمدة سنتين. بعد مرور عدة سنوات، انتهى المطاف بأوفقير بالمشاركة في انقلاب عسكري ضد الحسن الثاني عام 1972، وتم اعتقاله وقتله. واحدة من التفسيرات التي شاعت داخل المجتمع المغربي تقول إنه انتحر بإطلاق النار على نفسه من الخلف، وهي طلقة يقال أن الملك الحسن الثاني هو من وجهها له بنفسه. وبالعودة إلى "خاشقجي" المغربي، ما هي طبيعة تورط الحسن الثاني؟ هل فعلا أمر بالقتل أم انه مجرد حادث؟ ما هو دور إدارة المخابرات الفرنسية؟ هل كان مجرد إهمال جسيم أم تورط ؟ على أية حال، ردة فعل المجتمع الدولي كانت هي الرضا الشديد على الحسن الثاني. إيريك غولدستاين، مدير منظمة "هيومان رايتس" في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا، كتب يوم 19 اكتوبر، مقالا في صحيفة "واشنطن بوست"، الصحيفة التي كان يكتب فيها خاشقجي، تحت عنوان دال: "جريمة قتل مماثلة ارتكبها نظام وحشي قبل خمسين عاما". غولدستاين تذكر أن تلك السنتين من التباعد بين فرنسا والمغرب، استثمرتا من قبل دول غربية لبدء علاقات استراتيجية مع الرباط، ومع وصول الرئيس جورج بومبيدو إلى السلطة عام 1969، استؤنفت العلاقات بين فرنسا والمغرب. وأشار غولدستاين إلى إن الغرب كان عليه أن يستخلص بعض الدروس من قضية بن بركة فيما يتعلق بالعلاقة مع العربية السعودية. إذ اعتبر أن فشل القوى الغربية في المطالبة بمسؤولية الحسن الثاني عن جريمة ارتكبت في أرض فرنسا، شجعت، خلال ربع قرن الموالي، أجهزته في التسبب في اختفاء المعارضين بالمئات، وسجنهم بعد ممارسة التعذيب عليهم بشكل ممنهج، وأحيانا في سجون سرية. في 29 أكتوبر الحالي، سيجتمع أحفاد المهدي بن بركة وبعض المؤمنين بقضيته، مرة ككل عام منذ أكثر من نصف قرن، في شارع "سان جيرمان" بباريس للمطالبة بفتح الملفات التي ترفض الدولة الفرنسية، حتى الآن، الكشف عنها. لقد سحقت مصالح الدولة في كل من فرنسا والمغرب رغبة عائلة وأقارب بن بركة في معرفة الحقيقة. - المصدر: جريدة "الباييس"