تقديم: خلخلت الثورات العربية الحالية الكثير مما كان متداولا من الاعتقادات الجامدة واليقينيات الراسخة التي بُنيت على مدى قرون طويلة من الزمن، سواء على مستوى ما قُعِّد من نظريات وأدبيات سلطانية، أو على مستوى ما تمَّ تكريسه بالقوة عبر الممارستين التاريخية والسياسية. وأظن أن الفكر السياسي الإسلامي المعاصر لم يسلم بدوره من آثار هذه الرجَّات الواسعة التي خدشت الكثير من أرائه الاجتهادية وزعزعت جوانب من اقتناعاته الخاصة ببناء الحكم الإسلامي الرشيد التي طالما ناضل من أجله، لتدفع به إلى الإفصاح عن اجتهادات أكثر جرأة وانفتاحا، وإلى تلاحم غير مسبوق مع مختلف مكونات المجتمع وفعالياته التي تتناقض أحيانا مع مشاريع البعض منها بالكلية، وإلى تبني مفاهيم أكثر حداثة بخصوص تدبير الحكم وآليات الاشتغال السياسي. ولي عودة إلى هذا الموضوع بالبيان والتفصيل في مقال آخر إن شاء الله. وأزعم تبعا لما سبق ولما سيأتي أيضا أن جماعة العدل والإحسان لم تكن في منأى عن هذه التململ أيضا، فقد أصبح ملموسا وبشكل واضح لا لبس فيه أن روحا جديدة تطبع مواقفها وأفكارا قشيبة تدلف إلى تصريحات قادتها لم تكن معروفة متداولة قبل هذا التاريخ وهذه الأحداث –أو هكذا يبدو لي- غيرت بعضا مما رَسَخ من قناعاتها وبدّل جملة مما تواتر من مواقفها. وقصدي في هذا المقال أن أميط اللثام عن هذه التطورات الإيجابية وأن أجلو ما جدَّ منها بناء على مقارنته بما كان شائعا متداولا في خطاب الجماعة وأدبياتها، الشيء الذي كان قد ثبَّت في عقول مُنتسبيها وقلوبهم نوعا من الإيمانيات اليقينية التي لا تتزعزع. مسلمات معهودة: يعرف الجميع أن جماعة العدل والإحسان تستلهم مشروعها التغييري وأدبياته الكبرى من كتابات مرشدها الأستاذ عبد السلام ياسين الذي يرجع إليه الفضل في تأثيل كليات مشروع العدل والإحسان بل والتعريج على العديد من الجزئيات بالتفصيل والبيان. هذا المشروع الذي يسميه الأستاذ ياسين الفقهَ المنهاجي يتقصَّد تجديد الدين بمفهومه الواسع بشقيه التربوي والسياسي "فالتجديد المطلوب للأمة هو تجديد بواعثها لتقوم، أفرادا تجدد إيمانهم بالتربية، وجماعة تجددت قوتها بتجدد بواعث أعضائها الإيمانية، بواجب الجهاد واقتحام العقبة" . هذا المشروع الضخم الذي شغل عشرات الكتب التي ألفها الرجل لا شك أنه قد حمل عناصر تجديدية عديدة، لكنه في الوقت نفسه حافظ على الكثير من القضايا والاعتقادات والمقولات التي سلَّم بصحتها مما هي مثار خلاف أو اجتهادات مظروفة بمرحلة زمنية معينة أو ترجيحات مبنية على قرائن تاريخية وفكرية تبين أنها أصبحت متجاوزة مما لم يستطيع الرجل الفكاك عنه، الشيء الذي جعل مشروعه قابلا للتطوير والتشذيب والتسديد زيادة أو نقصانا، والرجل نفسه لا ينكر ذلك بل إنه يعتبر ما اقترحه في الفكر المنهاجي برمَّته "ثمرة اجتهاد لهذا المكان وهذا الزمان" . والمشكل أنه لم يظهر على مستوى صياغة تصور الجماعة من يحاول أن يساهم في بناء الأسس الكبرى للمشروع بَله تجاوز ما كتبه الأستاذ مما سبقت الإشارة إليه اللهم إلا نُتفا من الشروح والتفصيلات التي لم تَعدو أن تكون حواشي على المتن. هذا على المستوى النظري، أما من حيث الممارسة العملية وتدبير الشأن التنظيمي والدعوي للجماعة وكذا مواكبة المستجدات السياسية فقد طرأ على آليات الاشتغال العديد من التغييرات التي تجاوزت بكثير ما اقترحه عبد السلام ياسين في كتاباته خصوصا المنهاج النبوي الذي يعد بمثابة العمود الفقري في مشروع العدل والإحسان. لكن التصور العام والمرتكزات الكبرى لم تُمس مما طبع أداء الجماعة بنوع من الفتور والانتهاء إلى ما يشبه حالة من الترقب الكبرى -قبل الأحداث الأخيرة طبعا التي سأتحدث عنها- والتي أظهرت بعض العَوار في الأداء كان أبرزها التبشير بالحدث العظيم لسنة 2006. 2006 وانحباس المشروع قد لا يوافقني العديد الرأي بخصوص مقاربتي لما شهدته الجماعة من التبشير بحدث عظيم رهنت حدوثه بسنة 2006، لكن أرى أنه من الضروري في مسيرة تصحيح المسار -التي أرى أن العدل والإحسان بدأت تشق بعضا من عُبابها- أن نعرج على الحدث وأن نناقش أسبابه ودواعيه وكذا الآثار التي ألحقها بعمل الجماعة وصيتها الدعوي والسياسي. فلا أظن أن أحدا ينكر أن ما تمَّ تداوله داخل جماعة العدل والإحسان من حدوث أمر عظيم سنة 2006 اعتمادا على رؤى تمت مشاهدتها بصفة متواترة من قبل أفراد متعددين وفي أزمنة وأمكنة مختلفة مما لم يكن له أثر في الواقع، أقول لا أحد ينكر أنه كان له بالغ الأثر على الكثير من الأفراد داخل الجماعة، وعلى العديد من المتابعين لدعوتها وتطور مشروعها من المتعاطفين والمتابعين وحتى الناقمين. الشيء الذي دفع بالعديد من المنتمين إلى الجماعة إلى إعادة النظر وإعمال الفكر في بعض الأسس التي يقوم عليها عمل الجماعة وفتح بعض النقاشات حولها، لكن هذه النقاشات ظلت خجولة وحبيسة المجالس الخاصة مما لم يكن له نتيجة ملموسة على إثراء القواعد الكبرى التي يقوم عليها تصور العدل والإحسان بل أدى في أحسن الأحوال إلى اجتهادات همت مجالات التدبير وآليات التسيير. واعتقد أن ما حدث سنة 2006 ليس مجرد حدث عَرَضي ألمَّ بالجماعة ومر، بقدر ما هو حدث مِفصلي وإفراز طبيعي جاء نتيجة لما تمَّ تداوله وتربية الناس عليه لمدة ليست بالقصيرة مما لم يكن من السهل التخلص منه أو رفضه وحتى الاعتراض عليه، بل إن الجماعة كلها بأطرها ومؤسساتها وأفرادها انساقت وراء الحدث وانخرطت في حمى الترويج له دون تفكير في العواقب. والأدبيات التي غذت مثل هذه الاعتقادات وأمدتها بأسباب الحياة والتي شاعت في مجالس الجماعة الخاصة والعامة تتمحور أساس حول الأصلين اللذين بني الأستاذ عليهما مشروع خلاص الإنسان فردا وجماعة. واللذان يمكن تلخيصهما كالتالي: - إدراك الإنسان لخلاصه الفردي من خلال سلوك طريق التربية "الصوفية" على يد ولي مرشد يدله على الله وهو ما يدعوه المنهاج النبوي بالغاية الإحسانية. - إدراك الأمة لخلاصها السياسي عن طريق بناء الدولة الإسلامية القطرية وصولا إلى توحيد الأقطار الإسلامية المتحررة تحت راية الخلافة الإسلامية الموعودة. وهو ما يسميه بالغاية الاستخلافية. ففي المنهاج النبوي: "المسلمون بحاجة اليوم لاكتشاف المنهاج النبوي كي يسلكوا طريق الإيمان والجهاد إلى الغاية الإحسانية التي تعني مصيرهم الفردي عند الله في الآخرة، وإلى الغاية الاستخلافية التي ندبوا إليها ووعدوا بها متى سلكوا على المنهاج واستكملوا الشروط" . استطراد وبيان المناقشة التفصيلية للتفريعات المتعلقة بهتين الغايتين وبالطريقة التي بسطها بها الأستاذ عبد السلام ياسين في المنهاج النبوي ليس مما تطمح إليه هذه المقالة، لكني أشير إلى أن التفاصيل الكثيرة التي غُلفت بهما سواء على المستوى النظري أو حتى على مستوى السلوكات التربوية مما هو يومي معيش في حياة العضو داخل الجماعة جعلت التصور يتأبد على انغلاق تام على صحة المشروع الإسلامي وتعاليه ( أقصد تعالي المشروع المقترح وليس الإسلام في حد ذاته ) بالمقارنة مع الأفكار والاجتهادات الأخرى، وبالتالي ضرورة الولاء الكامل لنجاح المشروع في الواقع بل وتقديمه باعتباره أنموذجا مُخَلّصا للبشرية مما تعانيه من ضنك روحي أو استبداد سياسي أو هيمنة الاستكبار الرأسمالي على مستضعفي العالم. فترعرع الحلم بتحقيق الخلافة النبوية الموعودة واشرأبت القلوب والعقول لمعانقة هذه اللحظة التاريخية باعتبارها جنة الله الموعودة في الأرض، وقد كان لهذا أثره الكبير على المستوى النفسي السيكولوجي للقبول بسهولة ويسر المنَّ الرباني بحدث يُسهم في التأسيس لهذا الموعود النبوي أو ما يشاكله. هذا رغم أن الجماعة والحق يقال لم تحدد إطلاقا يوما ماهية الحدث الذي بشرت به، وإنما كان ما قلته استنتاجا من خلال معايشة حقيقية داخل الجماعة وتفاعل يومي مع أعضائها. عودٌ إلى الموضوع اعتقد أن القراءة الأحادية للفكر المنهاجي من خلال الجمود على ما كتبه الشيخ منذ فترة مما كان مطلوبا إليه التطوير وأيضا التجاوز في الكثير من الأسس والتفريعات أفقد الجماعة الكثير من بريقها الذي اكتسبته مع طرح المشروع بداية ثم الصلابة التي أبدتها اتجاه الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي والمالي الذي ينخر جسد النظام المغربي. وقد أدى أيضا هذا الانغلاق الذي سبق أن وصفته إلى نوع من العزلة السياسية والمدنية عن بقية مكونات المجتمع. ويظهر ذلك في مؤشرات عامة منها عزوف الناس عن الحوارات العامة التي ما فتئت الجماعة تدعو لها لكن دون أن توفر الظروف المناسبة لنجاحها وكذلك عدم التفافهم على الميثاق الجامع الذي طرحته أكثر من مرة وبصيغ مختلفة. مما يؤكد ضرورة مراجعة الذات وعدم إلقاء اللائمة فقط على الآخرين وإن كنت أعتقد أن للظروف الموضوعية نصيبها فيما آلت إليه الأمور. 20 فبراير وارهاصات التغيير شكلت ولادة حركة عشرين فبراير التي استلهمت مناخات المطالبة بالحرية و الكرامة والعدالة الاجتماعية التي هبت رياحها المباركة على الوطن العربي والتي كانت الجماعة ممثلة في شبيبتها سبَّاقة إلى دعمها قلت شكلت ولادة هذه الحركة نقطة تحول فارقة تركت بصمات واضحة على تطور خطاب الجماعة وتصريحات قادتها وكذا الاندماج السلس لشبيبتها في الحراك الشعبي من خلال تنسقيات الحركة على المستوى الوطني. فعلى مستوى الخطاب عبرت الجماعة في شخص مسؤوليها عن أفكار متقدمة بخصوص توضيح موقفها الجماعة من قضايا جوهرية في تصورها مما كان يلفه الكثير من الضبابية والغموض. وأضرب مثالا لذلك بقضيتين شائكتين هما: أولا: مسألة المطالبة بالدولة المدنية بدل التمسك بشعار الدولة الإسلامية الذي يكتنفه لَبس شديد خصوصا تحديد الموقف من قضايا الحريات والتعددية وتطبيق الشريعة وغيرها. ثانيا: تقديم مفهوم معاصر لمعنى الخلافة التي تنشد الجماعة إقامتها من خلال تصريح كل من الأستاذ فتح الله أرسلان والأستاذ محمد الحمداوي عضوي مجلس الإرشاد بأن المراد بالخلافة الإسلامية هو إقامة نوع من الاتحادات المعاصرة بين الدول الإسلامية على شاكلة الإتحاد الأوروبي من خلال نوع من التكامل الاقتصادي والسياسي مما لم يكن واضحا في فكر الجماعة. بل يمكنني أن أزعم أن الفكر الإسلامي المعاصر كرس رؤية تقليدية تقوم على أساس إقامة خلافة يسود فيها الخليفة العادل الذي يتمتع بصلاحيات واسعة -وإن كانت مشروطة بإقامة العدل- مستلهمة نموذج الخلافة الراشدة وقد كان الأحرى بها إعطاء الأولوية لمسألة إقامة المؤسسات الديمقراطية وتعزيز صلاحيات المؤسسات المجتمعية وتوسيعها. أما على مستوى الممارسات اليومية فإن مما يؤشر على نضج في المواقف المبنية على تقديم المصلحة العامة دونما تشبث بشروط مسبقة حالت في أحيان كثيرة دون تحقيق المراد نجد الانخراط الواعي في الحراك الشعبي الذي قادته حركة عشرين فبراير والدعم الكامل لمطالبها دون قيد أو شرط أو إملاءات مسبقة أو تحفظات جانبية كانت كفيلة بإفشال المشروع الذي يروم التغيير في المغرب في مهده، كما أنها لم تسعى إلى الهيمنة على أجندة الحركة أو عمل تنسيقياتها، مما يسعى الخصوم السياسيون وعلى رأسهم المخزن إلى الترويج له قصد إفراغ الحركة من تعدديتها السياسية والمجتمعية التي تشكل قوتها الضاربة. كما أن الجماعة منحت شبابها تفويضا كبيرا وحرية مُقدرة في العمل والتقرير داخل الحركة وعدم تكبيلهم بجملة من المراجعات للقيادة في القرارات التي يُزمعون اتخاذها الشيء الذي منحهم حرية وهامشا كبيرين في الحركة والمناورة والتنسيق مع باقي مكونات المجتمع بمرونة عالية ودونما حساسية سياسية مفرطة. وأنا أقول هذا ليس فقط من باب المراقبة عن بعد ولكن من خلال المتابعة الدائمة والعمل اليومي داخل إحدى تنسقيات الحركة. أخيرا قد يبدو ما ذكرته مما أحسب أنه طرأ على فكر وممارسة الجماعة ضئيلا، لكنني اعتقد صادقا أنه يؤشر لبدايات تصحيحية نأملها لمواقف سابقة، وتجاوز لبعض الأسس في العمل التي رسخت تعالي الدعوة أو بيان لما كان غامضا غير واضح . وهذا ذو شأن على درب تطوير فكر الجماعة وتصورها وتحديثهما. كما أن فتح نقاشات عمومية حول قضايا تهم الجماعة تقويما وتعديلا أو مباركة وتثمينا أو طرح اقتراحات اجتهادية مما يصبو المقال إلى تحقيقه. وقد كان د.عبد العالي المجذوب سباقا إلى إثارة بعض القضايا مشكورا. وذلك حتى يتاح للرأي والرأي المخالف أن يعبرا عن أنفسهما وأن لا يظلا حبيسا الأروقة المُعتمة. ولا أرى بأسا لا في الاختلاف في مناقشة قضايا المنهاج النبوي مادام الاختلاف مبنيا على أسس علمية وأخلاق حوارية، ولا في أن ينشر ويتم تداوله بين الناس حتى ننضج فكر الجماعة وتصورها بشكل جماعي ونخرج من ربقة الأحادية التي طبعت بناء التصور لمدة طويلة. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.