بالقدر (لامصادفة) قرأت مقالا للشيخ الزمزمي بعنوان "خلع البيعة أمر من أمور الجاهلية"، وبغض النظر عن سياق هذا المقال الخاص (رسالة أحمد بن الصديق)، وعن سياقه العام (زمن الثورات على الظلم والاستبداد)، فإن المقال على قصره تضمن جل ركام أدبيات فقه الغلبة السلطاني، الذي يجعل من استدعاء بعض النصوص القرآنية والحديثية للاستدلال وللحجة في خدمة الاستبداد والجبر والإكراه، وبيان ذلك كما يلي: 1. إن استدعاء بعض النصوص القرآنية أو الحديثية أو هما معا ليس كافيا للاستدلال وللاحتجاج إذا لم يتم إقرانها باستقراء شامل لكل النصوص التي لها علاقة بموضوع الاحتجاج والاستدلال...وإلا فسنكون أمام "حرب نصية" لا تنتصر فيها الموضوعية العلمية، و يلتبس فيها الحق مع الباطل، ذلك أنه كما للمدافعين عن مفهوم طاعة الأمير حججهم النصية، فللمخالفين لهم حججهم النصية أيضا، وليس المقام هنا لاستعراض كلا حجج الفريقين، أو لتسليط الضوء عن مفهوم الأمير المقصود به في هذه الأحاديث، ولعل مثل هذا الخلاف هو ما دفع جمهور فقهائنا السلف أن يدرجوا موضوعات الإمامة ضمن مباحث المصالح لا ضمن مباحث العقيدة، فهي على حد تعبير ابن خلدون في مقدمته "من المصالح العامة المخولة إلى نظر الخلق"، حتى تتم مقاربة الاجتهادات في مجال السياسة الشرعية بمفاهيم الخطأ والصواب لا بمفاهيم الحق والباطل والكفر والجاهلية؛ 2. أن الأصل في الإسلام هو الاختيار، وأن الإكراه مناقض لهذا الأصل، ذلك أن الإكراه هو ضد الاختيار الحر الذي يحاسب عنه المرء ويكون مسؤولا عنه في الدنيا وفي الآخرة، وغاية ما جاءت به الرسالة الإسلامية، تتمثل أصلا في إزالة كل ما يحول بين المرء وبين أن يختار بشكل حر عقيدته ودينه وطريقة تدبير حياته واختياراته وقراراته. 3. أن المدرسة الفقهية المعتبرة ضمن المدارس الفقهية الإسلامية التي عالجت موضوعات الإمامة والسياسة الشرعية، هي المدرسة التي انتصرت لخط الاختيار، فالقرطبي مثلا يؤكد على أن الإمامة عقد وكالة يعتبر بموجبه "الإمام هو وكيل الأمة ونائب عنها"، ويقول في معرض دحضه لأطروحة النص: "وإذا بطل ثبوت النص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار والاجتهاد" (انظر الجامع لأحكام القرآن في معرض تفسيره للآية:" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..." الآية 29 من سورة البقرة )، بينما يعرف الماوردي في كتابه الأجكام السلطانية الإمامة تعريفا جامعا مانعا، بأنها "عقد مراضاة واختيار لا يدخله إجبار ولا إكراه"، ويقول الجويني في كتابه "غياث الأمم": "اتفق المنتمون إلى الإسلام على تفرق المذاهب وتباين المطالب على ثبوت الإمامة، ثم أطبقوا على أن سبيل إثباتها النص والاختيار، وقد تحقق بالطرق القاطعة والبراهين اللامعة بطلان مذاهب أهل النصوص، فلا يبقى بعد هذا التقسيم والاعتبار إلا الحكم بصحة الاختيار.". 4. وعلى قاعدة هذا الترجيح فإن الشرعية السياسية تتحدد بركنين أساسيين: شرعية من يحكم وبم يحكم، فأما شرعية من يحكم فتتأسس على مبدأ الاختيار الحر الذي به يتحقق الرضا، وأما شرعية السياسات فتتأسس على مبادئ إقامة العدل وإنفاذ الشرع وحماية حوزة البلاد وأموال الناس وأعراضهم من بطش الظلمة وأداء الأمانات وتولية الأصلح على شؤون الناس،...فإذا انتفى أحد هذين الركنين كانت الشرعية منقوصة، وإذا حضرا معا كانت الشرعية مكتملة، وإذا غابا معا كانت الشرعية مفقودة، وعلى هذا الأساس أقر بعض الفقهاء بجواز إمامة الغلبة (التي يغيب فيها ركن شرعية من يحكم)، للضرورة شريطة إنفاذها لشرع الله وحمايتها لبيضة الإسلام، فهي شرعية اضطرارا لا ابتداء. هذه عناصر بيان مقتضب نقاشا وتواصلا وحوارا مع الشيخ الزمزمي، ولا يسعني إلا أن أتوجه إليه بأسئلة أرجو أن أجد عنده جوابا شافيا حولها باعتبار موضوعاتها من نوازل العصر الكبرى: كيف يمكن تكييف معاني الديمقراطية باعتبارها أداة لتحقيق مناط المشاركة الفعلية للمجتمع في اختيار من يحكمه وبم يحكمه مع معاني البيعة؟ وهل لهذه البيعة التي تحدث عنها الفقيه الزمزمي شروط أم هي "توقيع على بياض"؟ وما علاقة البيعة بالمقتضيات الدستورية الحالية؟ هل لمفهوم المحاسبة المرتبطة بالمسؤولية والسلطة أصل في السياسة الشرعية؟ و إذا كان لها أصل فهل تعتبر سلطة الأمير سلطة فعلية تترتب عنها محاسبة أم لا؟ إن الدين لم يكن أبدا ولا ينبغي أن يكون مبررا للاستبداد كيفما كان نوعه وحيثما كان، والعلماء الربانيون ذوي المصداقية هم من يتصدون لكل محاولة لتوظيف الدين لغرض سلطوي استبدادي، لا أن يكونوا أداة لهذا التوظيف، وسجل تاريخ علماء الأمة الشوامخ شاهد على ذلك. انتهى من كتابتها يوم الاثنين 30 شعبان 1432ه الموافق 01 غشت 2011 أحمد بوعشرين الأنصاري مكناس