لا يتفق القراء ولا النقاد في أي عصر على السر الذي جعل رواية (يوليسيس) للإيرلندي جيمس جويس تتصدر قائمة أفضل الروايات في القرن العشرين، فالرواية المثيرة للجدل صاحبها قبل نحو مئة عام جدل أكبر عرضها للحظر والمحاكمة في الولاياتالمتحدة. وصدرت الرواية في الثاني من فبراير 1922 أثناء إقامة جويس (1882-1941) في باريس واعتبرتها الأوساط الأدبية حدثا إبداعيا بسبب اتباع المؤلف تقنية فنية هي تيار الشعور حيث تدور أحداث الرواية خلال يوم واحد في حياة بطلها ليوبولد بلوك. لكنها لم تنشر في بريطانيا إلا عام 1938. وفي اللغة العربية حملت الرواية عنوان (عوليس) حين ترجمها المصري طه محمود طه. وصدرت لها في الآونة الأخيرة ترجمة عربية أخرى قام بها الشاعر العراقي صلاح نيازي. ويقول الكاتب المصري رمسيس عوض في كتابه "جيمس جويس أمام المحاكم الأمريكية" إن الشاعر الأمريكي ازرا باوند كان "أول أديب كبير يتحمس لرواية يوليسيس وهو في الوقت نفسه أول من يفرض الحظر على بعض أجزائها"، مرجحا أن باوند استند في الاعتراض إلى أسباب دينية وجمالية. ويرى عوض أن جويس استخدم على سبيل المثال "لغة بذيئة في تسمية البحر الميت بأنه فرج العالم الغائر العميق. بل أنه لا يستخدم كلمة فرج اللائقة والمحترمة وإنما يستخدم الكلمة السوقية البذيئة المقابلة لها" وأن باوند أجرى الحذف حتى لا تثير "ألفاظ جويس البذيئة" استياء الموظفين بمصلحة البريد الذين سيتعين عليهم نقل نسخ مجلة الريفيو الصغيرة التي نشرت أول جزء من الرواية. ويقول إن باوند لم يكن بين الأدباء "الذين صدمهم الفحش في لغة رواية يوليسيس حتى ان دي. اتش. لورانس المتهم بالبذاءة أدان حكاية بنيلوبي واصفا إياها بأنها أقذر وأفحش رواية يمكن لأديب أن يكتبها"، مضيفا أن فرجينيا وولف التي استخدمت أسلوب تيار الشعور أيضا وصفت الرواية بأنها "مجرد بقع الدمامل كتلك المنتشرة في جسد ماسح الأحذية ووصف جويس نفسه بأنه يمتلك فحولة ذكر الماعز". ويقع كتاب "جيمس جويس أمام المحاكم الأمريكية" في 156 صفحة متوسطة القطع وأصدر مكتبة الانجلو المصرية في القاهرة. وعوض أستاذ للأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس وله أكثر من خمسين كتابا أولها "برتراند راسل الإنسان" عام 1961 و"موقف ماركس وانجلز من الآداب العالمية" و"شكسبير في مصر" و"جورج أورويل.. حياته وأدبه" و"من ستالين إلى غورباتشوف". ومنذ منتصف التسعينيات كرس جهوده لكتب عن اليهود منها "شكسبير واليهود" و"اليهود والأدب الأمريكي المعاصر" و"اليهود والأدب الأمريكي المعاصر في أربعة قرون" و"اليهود في الأدب الروسي" و"الهولوكوست في الأدب الأمريكي" و"الهولوكوست في الأدب الفرنسي" و"الغجر بين المجزرة والمحرقة". كما وثق عوض بعض معسكرات الاعتقال في عهد النازي منها "معسكر الاعتقال النازي برغن بلسن الذي ساهم في إنشاء دولة إسرائيل" و"داكاو.. أشهر معسكرات الاعتقال النازية" و"أشهر معسكر اعتقال نازي للنساء.. رافنزبروك 1939-1945". ويقول المؤلف إن باوند حين قرأ مخطوطة الحكايات الثلاث الأولى من "يوليسيس" تنبأ لها بالحظر والمصادرة في أمريكا وأوروبا "ورأى أن الأمر يستحق المغامرة من جانب المؤلف لنشرها نظرا لما تتضمنه.. من فن رفيع"، لكنه كتب إلى مارجريت أندرسون في نيويورك وكانت تشرف على مجلة الريفيو الصغيرة "يحذرها من مغبة نشر الرواية" لكنها غامرت بنشرها في يناير 1919. ويرى أن باوند لم يخطئ عندما توقع تعرض الرواية "للقمع والمصادرة بسبب بذاءتها" إذ امتنعت مصلحة البريد الأمريكية عن إرسال مجلة الريفيو الصغيرة التي نشرت أول جزء من الرواية مرجحا أن يكون "الذعر الذي انتاب أمريكا من الثورة البلشفية /1917" أحد أسباب حظر الرواية ذات الطبيعة "الراديكالية الثورية" حيث ربط بعض النقاد بينها وبين الثورة في الاتحاد السوفيتي. ويسجل أن ناقدا أمريكيا قال "إن قراءة رواية المستر جويس أشبه ما تكون بالقيام برحلة داخل روسيا البلشفية التي تحطم كل المعايير". أما الناقد المحافظ شين ليسلي فقال إن الرواية "تشبه أوديسا الصرف الصحي... سوف تترك شيئا شبيها بالبلشفية الأدبية". وقال جون سمنر رئيس جمعية محاكمة الرذيلة "ذا كان لدينا في الحياة السياسية فوضويون وبلاشفة يبشرون بمذاهبهم في الصالونات فلدينا أمثالهم في الحياة الأدبية والفنية وهم يمثلون خطرا داهما". ويرجح عوض أن جويس كان يفكر في كل هذا حين قال "إني كفنان أعارض الدولة... فالدولة دوائر أحادية المركز في حين أن الإنسان غير أحادي المركز الأمر الذي يؤدي إلى صراع أبدي وحظر نشر بعض أجزاء الرواية في مجلة الريفيو الصغيرة جزء من ذلك الصراع". ويقول إن الأمريكيين "أصابهم الفزع العظيم من بعبع الشيوعية في شهر يناير على وجه التحديد في عام 1920 الأمر الذي جعل النائب العام الجنرال بالمر يشن حربا شعواء على أتباع الأفكار الثورية، مثل بلوم بطل الرواية... كانت السياسة أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت الرقابة إلى حظر يوليسيس". ويضيف أن الرقيب الأمريكي "حرق عدد مايو 1919 من المجلة بأكمله وهدد بإغلاقها وبسحب رخصتها" إذا استمرت في نشر الرواية، كما طالبت محاربة الرذيلة في نيويورك بحظر نشر المجلة "لحماية الصغار من الفساد" وقررت مقاضاة المسؤولين عن نشر المجلة. ويستعرض المؤلف رحلة الرواية أمام المحاكم الأمريكية حيث استعرض أمين جمعية نيويورك لمحاربة الرذيلة 27 صفحة وصفها بأنها "بذيئة وشهوانية وقذرة ومقززة"، أما الدفاع عن الرواية فانطلق من كونها عملا أدبيا ولا يمكن اعتبارها بذيئة "لأن قذارتها قمينة بتنفير القارئ من البذاءة. ومن ثم فإن للرواية نفعا أخلاقيا"، مضيفا أن معالجة جويس للجنس لا تغري الرجال بارتياد بيوت الدعارة بل تنفر منها. ولم يكن جويس خلال هذه المحاكة أكمل روايته بعد وكان محاميه يأمل أن يكملها جويس وتنشر في كتاب قبل صدور حكم قضائي بإدانتها. ويقول عوض إن المحامي عند إعادة المحاكمة قدم مرافعة فذة قال فيها إن جويس لم يكتب رواية لتقرأها بنات المدارس وأن الرواية غامضة ولا تفسد الأخلاق أما بعض الأجزاء المثيرة للاشمئزاز فلا تزيد عما تثيره أعمال وليام شكسبير من اشمئزاز. ولكن المحكمة قالت إن المجلة نشرت "مادة بذيئة" وقضت على محررتيها بدفع مئة دولار غرامة والكف عن نشر أجزاء أخرى من الرواية. --- تعليق الصورة: جيمس جويس