ملفات التعليم العالقة.. لقاءات مكثفة بين النقابات ووزارة التربية الوطنية    الدفاع الحسني الجديدي يتعاقد مع المدرب البرتغالي روي ألميدا    "الحُلم صار حقيقة".. هتافات وزغاريد وألعاب نارية تستقبل أسرى فلسطينيين    أوروبا تأمل اتفاقا جديدا مع المغرب    تنسيق أمني يسقط مروجي مخدرات ومؤثرات عقلية بمكناس وبن سليمان    استمرار الأجواء الباردة واحتمال عودة الأمطار للمملكة الأسبوع المقبل    القنصلية العامة للمملكة بمدريد تحتفل برأس السنة الامازيغية    هوية بصرية جديدة و برنامج ثقافي و فني لشهر فبراير 2025    حصار بوحمرون: هذه حصيلة حملة مواجهة تفشي الوباء بإقليم الناظور    أيوب الحومي يعود بقوة ويغني للصحراء المغربية    قضى 39 سنة وراء القضبان.. تحرير محمد طوس عميد المعتقلين الفلسطينين في سجون إسرائيل    هذه خلاصات لقاء النقابات مع وزارة التربية الوطنية    الجمعية المغربية للإغاثة المدنية تزور قنصليتي السنغال وغينيا بيساو في الداخلة لتعزيز التعاون    ملتقى الدراسة في إسبانيا 2025: وجهة تعليمية جديدة للطلبة المغاربة    جبهة "لاسامير" تنتقد فشل مجلس المنافسة في ضبط سوق المحروقات وتجدد المطالبة بإلغاء التحرير    أداء الأسبوع سلبي ببورصة البيضاء    فريدجي: الجهود الملكية تخدم إفريقيا    إفران: استفادة أزيد من 4000 أسرة من عملية واسعة النطاق لمواجهة آثار موجة البرد    وزارة الصحة تعلن عن الإجراءات الصحية الجديدة لأداء مناسك العمرة    "مرض غامض" يثير القلق في الهند    الأميرة للا حسناء تترأس حفل عشاء خيري لدعم العمل الإنساني والتعاون الدبلوماسي    من العروي إلى مصر :كتاب "العناد" في معرض القاهرة الدولي    شهادة عزوبة مزورة تجر عون سلطة في طنجة إلى المساءلة القانونية    كيف كان ملك المغرب الوحيد من بين القادة العالميين الذي قرر تكريم ترامب بأرفع وسام قبل مغادرته البيت الأبيض بيوم واحد    برنامج تقوية القدرات والمهارات .. دعم استراتيجي للصناعة التقليدية المغربية    فعاليات فنية وثقافية في بني عمارت تحتفل بمناسبة السنة الأمازيغية 2975    وزارة الصحة تعلن أمرا هاما للراغبين في أداء مناسك العمرة    الوداد يحسم صفقة الحارس المهدي بنعبيد    إجراءات صحية جديدة تنتظر الراغبين في أداء العمرة    إس.رائ..يل تطلق سراح أقدم أسير فل.سط..يني    السياحة الصينية المغربية على موعد مع دينامية غير مسبوقة    إطلاق أول مدرسة لكرة السلة (إن بي أي) في المغرب    المغرب يفرض تلقيحاً إلزاميًا للمسافرين إلى السعودية لأداء العمرة    شاحنة تودي بحياة سائق دراجة نارية في قلعة السراغنة    مونديال 2026: ملاعب المملكة تفتح أبوابها أمام منتخبات إفريقيا لإجراء لقاءات التصفيات    لقجع.. استيراد اللحوم غير كافي ولولا هذا الأمر لكانت الأسعار أغلى بكثير    إصابة في الركبة تغيب شادي رياض    الربط المائي بين "وادي المخازن ودار خروفة" يصل إلى مرحلة التجريب    "حادث خلال تدريب" يسلب حياة رياضية شابة في إيطاليا    تيرغالين: الوداد وبركان لم يفاوضاني    ريال مدريد أكثر فريق تم إلغاء أهدافه في الليغا بتقنية "الفار"    حماس بصدد إطلاق سراح 4 مجندات إسرائيليات السبت في ثاني تبادل    باستثناء إسرائيل ومصر.. واشنطن تقرر تعليق كل مساعداتها الخارجية بما فيها لأكرانيا    كيوسك السبت | توقعات بارتفاع الطلب على مياه الشرب في أفق 2050    الصين تتوقع زيادة بنسبة 9,5 في المائة في عدد الرحلات اليومية عبر الحدود خلال عطلة عيد الربيع    نوفاكو فاشن: احتجاجات العمال غير مبررة وتسببت في خسائر فادحة    ضبط شخص متورط في الذبيحة السرية بطنجة وحجز أكثر من 100 كيلوغرام من اللحوم الفاسدة    اثنان بجهة طنجة.. وزارة السياحة تُخصص 188 مليون درهم لتثمين قرى سياحية    أرقام فظيعة .. لا تخيف أحدا!    بالصدى .. بايتاس .. وزارة الصحة .. والحصبة    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    معهد التكنولوجيا التطبيقية المسيرة والمعهد المتخصص في الفندقة والسياحة بالحوزية يحتفيان بالسنة الأمازيغية    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    مايك وان" يُطلق أغنية "ولاء"بإيقاع حساني    جوائز "الراتزي": "أوسكار" أسوأ الأفلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركة 20 فبراير: التاريخ ممتزجا بالشعر
نشر في لكم يوم 23 - 07 - 2011


-1-
كانت مُحَمّلة، دوما، بالأمطار.. رياح الجنوب. إن كان هذا الزعم في حاجة لِما يُثبته، على صعيد المعرفة بالطقس والمناخ، فإن الأمر بخلاف ذلك على الصعيد السياسي، والمغربي بشكل خاص. الإنسان في المغرب انطلق من الجنوب، زاده في ذلك لم يَتَعَدَّ فكرة مضيئة. الصحراء، بطبيعة فراغها الشاسع، ساعدته على أن يجد له فكرة، ترافقه في طريقه المضنية نحو الماء.
بالفكرة والماء، استوت عجينة المغرب، ونضجت بفعل وجود قَدْر من الدفء الإنساني. هل المغرب استثناء في ذلك؟ ما القول في شبه الجزيرة العربية، حيت التاريخ انشرعت أبوابه مع فكرة النبي محمد.. تلك الفكرة التي ما تزال في أوج توسُّعها إلى اليوم؟
من الجنوب، انبثقت الحضارة الإنسانية. والجنوب، هنا، يرادف الصحراء بالتحديد. من الممكن أن يؤول الجنوب، اليوم، لدى بعض الشمال، إلى مجرد مصدر للخطر، ممثلا في المخدرات والهجرة والأوبئة. ومع ذلك، لا يجوز أن ننسى أن ذات الجنوب كان صاحب الفكرة الأولى: الله بوصفه كلمة مفتاحا لفهم معنى الصحراء من جهة، ولاختزال فراغها الشاسع والمَهُول من جهة ثانية.
بين ذراعي الأدارسة والعلويين، التقت الصحراء " العربية" من الماء إلى الماء. لم يختلف حول منطلق الفكرة، وطبيعة مضمونها،لا العرب ولا البربر. المجال مُحدد في المغرب، ولِكُلٍّ أن يُوسِّع من حدوده حسب مقتضيات السياق. بطبيعة الحال، بين الأسرتين انبثقت أسر أخرى، اعتمادا على نفس الفكرة: المرابطون، الموحِّدون، المرينيون، الوطّاسيون.
لذلك، ظلت العيون مولية نظراتها، دوما، جهة الجنوب. وإن شحَّت بأمطارها منذ زمن، فإن سماء الجنوب ما فتئت تتمخض بين الفينة والأخرى. في بعض الأحيان، نكون في حاجة لقراءة مؤشرات صغيرة، لنطمئن إلى رحمة السماء: تلك الجنوبية المحمَّلة بأمطار الخير.
من بين المؤشرات الصغيرة، التي يمكن العودة إليها بانتباه، أحداث مخيم كديم إزيك. وإن تلاشت دلالتها الآن، في سياق فصول الربيع العربية الحالية، فإن البداية الرمزية الأولى ظلت في مبعثها من هناك. حين نعزل التدخلات الطارئة، سواء من قبل هذا الطرف او ذاك، نستطيع أن نتبيَّن حقيقة الموقف من نشوء المخيم المذكور. بطبيعة الحال، يمكن أن يدَّعي كل طرف تسجيل نقاط في معسكر الخصم. الوحدويون والانفصاليون نجحوا معا، إلا في أن يقرأوا المخيم، في بعده الثوري الإنساني العميق، باعتباره: ثورة الشباب في وجه الاستبداد.
بإمكان كل واحد أن يتخيل وجها للاستبداد: المخزن، البوليساريو، القبيلة، اقتصاد الريع، البطالة،.. الخ. وهل الاستبداد خرج، يوما ما، عن هذه الحدود؟ بعضها أو كلّها؟ كان للقراءة الخاطئة، المقصودة أو غير المقصودة، تأثيرها المُدَمِّر على المعنى الرمزي، الذي اكتسته الثورة العربية الأولى في مغرب الألفية الثالثة . ما آلت إليه لجنة التقصي البرلمانية، يوضح إلى أي حد كيف أن الالتباس ظل سيِّد الموقف، حتى إلى ما بعد. ومادام الحال كذلك، فقد اخترنا الانتظار إلى حين: ظهور مخيم جديد، ليس مثل سابقه في الصورة والشكل بالتأكيد.. وليس في نفس المكان أو الجهة بالضرورة.
لنكن دقيقين، المخيم يأخذ معنى الثورة هنا. والحديث عن المخيم، في هذا السياق، لا يبتعد بنا عن مجال الصحراء.. عن فكرة التغيير في أصل منشئها. والحقيقة أن الثورة، بما هي حركة تاريخية متقدمة، أعظم تجسيد لأي لقاء إنساني، تختفي من واجهته القبلية والطائفية والفئوية، ولو إلى زمن يطول أو يقصر.
حين عجزنا عن التقاط فكرة المخيم، في مناطق أخرى من هذه البلاد، كانت ذات الفكرة تتبلور في بلدان أخرى، ليست ببعيدة عنَّا في طبيعة تاريخها الثقافي/ الوجداني. ولأن العالم قرية صغيرة، لم يكن من المستبعد أن تنحفر تلك الفكرة في نفوس أخرى، بينها نفس محمد البوعزيزي تحديدا. هكذا، كُتِبَ للفكرة المَعْنِيَّة أن تُسَجَّلَ باسم الشهيد، وللمفارقة في رسم وفاة تونسي، مؤرخ بتاريخ 04 يناير2011 بولاية سيدي بوزيد.
ولأن للأفكار أجنحةً من نور، وجدنا الفكرة، نفسها، تسافر في الجغرافيا العربية، عابرة الصحراء الشاسعة. هل يمكن أن نطمئن إلى إبداعية فكرتنا، بعد أن نجحت في النزول، بردا وسلاما، بتونس الخضراء ومن بعد بمصر الكنانة...؟؟؟. واليوم، نفس الشأن وهي تحاول التأقلم مع صقيع أوروبا، في إسبانيا الإيبيرية التي لنا فيها عرق ما ما يزال ينبض ويهتف؟؟؟. العالم قرية صغيرة، صنعت أحداثه الكبرى الصدفة في ما مضى على أقل تقدير، تَوَخِّيًا لقدْر من الحذر النسبي المطلوب. ولكن، هل لثورة التكنولوجيا، في جانبها الإعلامي، تأثير في تَرَحُّل الفكرة بين مكان وآخر؟.
ليس من المنطقي، بتاتا، البحث في منشإ الفكرة.. ولا من المفيد. الشعوب تتداول الأفكار في ما بينها. هكذا، تعلمنا من الفلسفة الإغريقية، في سفرها الدؤوب من اليونان إلى الشرق، فإلى الأندلس مُمْتَزِجَةً، ثم إلى أوربا من جديد. وإذا كان للفكرة من معنى، فهي تلك الإيجابية التي تجعلها لا تنزل إلا وتجسدت على الأرض حضارة، تَُعَمِّرُُ بها الشعوب وتََعْمُرُ ما شاء له العمران.
-2-
المهم أن الفكرة نزلت في شوارع المغرب وساحاته: حركة 20 فبراير المجيدة. لننتبه جيِّدا، التاريخ أهم من المكان في هذا الموضوع. المكان غير ذي دلالة كبيرة، بينما الزمان يحوزها على العكس منه. الزمان، هنا، مؤشر بداية/ قطيعة: انتهاء فصل وانطلاق آخر جديد. الزمان، بمعنى ما، جريان، في حين لا يتعدى المكان كونه إطار استيعاب. غير أنه بقدر ما يتسع المكان، بقدر ما يكون للتاريخ امتدادا قويا لجريانه. المدينة أو القرية، الجبل أو البسيط، ليس لذلك من أهمية قصوى،إلا بقدر الاستعداد لتقبل حركية التاريخ.
20 فبراير، تاريخ قطيعة مع الماضي. هذا التاريخ يَجُبُّ ما قبله، تماما مثلما جَبَّ الإسلام الجاهلية.. لنسلم بذلك. ومن المفيد بعد التسليم، القول بأن القطيعة أنجزت برنامجها على مستوى التصور قبلا، لدى فئة واسعة من المجتمع، وفي طليعتها الشباب بالخصوص. التصور امتلاك لفعل الإرادة، لأن أهم ما في القضية هو المعنى.. المقصود امتلاكه.
إذاً، نقول إن حركة 20 فبراير امتلكت المعنى الأساس لوجودها. وبامتلاكها ذاك، تكون قد امتلكت الطريق إلى الحقيقة الساطعة. هذا أكبر إنجاز حتى اليوم، به تستطيع أن تتحصن من أعتى الزلازل والأعاصير. لا مجال للتقهقر، أو حتى التردد، في ظل وجود الفكرة الواضحة. إن الفكرة في سعيها المتطلع إلى تَحَيُّز ما، إنما تتغيى الانتقال إلى إنجاز المرحلة المقبلة.
هنا، تبدأ السياسة. والفعل يبدأ من لامثال، بالنظر إلى واقع الإفلاس السياسي الراهن. فالممارسة السياسية، مُجَسَّدة في مختلف الدكاكين الحزبية، انتهت إلى المأزق المعروف، وبالتالي فإن الرهان على حصانها رهان خاسر.المسألة محسومة، في دمائها جينات ثورة، وهي تسير في اتجاهين. لنبدأ بالاتجاه الأول الآن، وبعنوانه الأبرز:
- القطع مع الممارسة السياسية، مثلما هي ممثلة في النظام الحالي. فإضافة إلى المؤسسات المعهودة، بما فيها الدستور والشرطة والقضاء وغير ذلك، هناك ما يمكن تسميته مؤسسة التقاليد والأعراف، التي تضارع باقي المؤسسات قوة وفاعلية. عنوان الدستور كبير، إلا أنه ليس العنوان الوحيد الذي ينبغي السير إليه، ومن ثم اختراقه عبر مطلب الملكية البرلمانية. ومع ذلك، بالإمكان الالتفاف حوله في هذه المرحلة بالذات، باعتباره إطارا لطبيعة الثقافة، المزمع تكريس علاقتها بين الحاكم والمحكوم.
إن تحشيد المواقف حول سقف الملكية البرلمانية، إضافة إلى تركيز بعض المطالب المستعجلة، مثل تقديم المفسدين إلى العدالة، يمكنهما أن يفيا بالمطلوب من هذه الناحية. أية ناحية؟ المقصود بهذه بالذات، ضمان وضوح الفكرة وبساطتها، وبالتالي قدرتها على اختزال مطالب مرحلة معينة من التاريخ.
ولأن الطرف الآخر على وعي بحساسية المرحلة، فإن دعوى الإصلاح الدستوري في ذاته، يمكن الاشتغال عليها براغماتيا، بوصفها مآل الحراك السياسي الحالي ومنتهاه. ألم يقم مستشار الملك بتحديد أجندا بتواريخ، تبدأ بطرح الدستور على " النقاش" في فترة، تعقبها انتخابات جماعية وبرلمانية مباشرة؟ ما هي حظوظ " مرور" مشروع الدستور؟ في حال سقوطه عبر التصويت، النزيه افتراضا، كيف يكون الموقف؟ إنها بعض من أسئلة معلقة بالنسبة لجهة معينة، أما بالنسبة للجهة الأخرى فالنص الأولي صدر بصفته دستورا وليس مشروع دستور.
الإصلاح الدستوري في هذا الإطار، اِتُخذ بصفته عملية " ترخية" عقدة الخيط، طلبا لتخفيف احتقان البالون. قبل الثورات الشبابية العربية، لم يكن أحد يفكر في الإصلاح الدستوري بشكل جدي، خارج إطار المساومة السياسية الضيقة. وإن رُفِعَ شعارُه، إرضاء لبعض القواعد الحزبية، فإن الدولة، ممثلة في مختلف أجهزتها الرسمية، لم تلفت أحدا بمبادرة لها بهذا الخصوص. وهل كان الإصلاح الدستوري مطلب الدولة في يوم من الأيام، باستثناء بعض الأمور " الصغيرة"، مما لم يشغل القوات الحية مرة ؟؟؟
اختزال إصلاح الدولة في بعض التعديلات الدستورية، ينطوي على حقيقة ما يتم المناورة به. لا أحد ينكر أهمية هذه التعديلات، إلا أن لا أحد يقر بأن تنزيل دستور دولة السويد، بإمكانه أن يجيب عن أسئلة المرحلة الحالية. المعركة، الآن، هي الدستور. الدولة تعتبره منتهى ومآلا، لا ضرر في أن يتركز حوله النقاش، حتى في أكثر مفاصل هذا النقاش حدة وتطرفا. لا بأس من ذلك، مادام يضفي على الموضوع حيوية وديمقراطية، تنتهي عبر الحسم في صناديق الاقتراع " المُكَيَّفة" . المهم قلب صفحة 20 فبراير، بنشوء حكومة جديدة وفق مداخل دستورية معينة. ويبدو أن اختيار عناوين محددة بعناية، بمستطاعه تسويق الأفق السياسي المراد ترويجه.
- هل هناك من أفق؟
- الكثير يتحدث عن منتصف الطريق؟
- هل من تبرير لذلك؟
- البلاد غير مؤهلة لأكثر منه. هذه قراءة بعض " الواقعيين" ممن يمكن محادثهم في الشارع العام، وهم على كل حال لديهم كثير من الريبة في معظم الأحزاب الناشطة حاليا. يمكن تفهم مثل هذا الموقف من هؤلاء ومن أولئك، إلا أن نتفهمه صادرا عن الفاعلين السياسيين، وخصوصا عن بعض القيادات الحزبية. الموقف منهم، لا يمكن وصفه أو محاصرته بأي تعبير.. الخبث؟ النفاق؟.. سَمِّهِ ما شئت.
ما من شك في أن الدولة تقبلت، في البداية، حركة 20 فبراير. بصدر رحب أو بغيره، لا يفيد استقصاء الأمر في شيء. الحركة الناشئة، اقْتُرح لها جواب محدد، استخرج من " ثلاجة" الدولة في الوقت المناسب: إصلاح الدستور. ليس بمُكْنَة أحد توقع ما كان يؤول إليه الموقف، في حال ما لو جرت التعديلات في فترة سابقة. الدرس المنتزع بهذا الخصوص، أن آلة المخزن لا ُيراد لها أن تتحرك إلا تحت الضغط الاستثنائي. هي لا تحرق أوراقها مجانا، خصوصا مع العلم أن تعديل الدستور، او تغييره، هما مطلبان شعبيان بالدرجة الأولى.
إن التعديلات الدستورية، شكلت ورقة رئيسة لجهة ما، أرادت بها فرملة حركة نشيطة ناشئة، لم يسبق لها مثيل في التاريخ السياسي والاجتماعي المغربي. ولأنها حركة شعبية، فقد كان من الصعب اختزالها في إطار حزب، بوصفته المعهودة تنظيميا وبراغماتيا. الحركة ذات طبيعة اجتماعية- ثقافية، ولذلك وجدناها تحتضن المطالب الاجتماعية إلى جانب المطالب السياسية، الوطنية إلى جانب الفئوية. ومن ثم، وجدنا الحركة تغتني، في طبيعة أعضائها، بحضور العروبي والأمازيغي، المديني والقروي، الفقير والدومالي، الإسلامي والعلماني، الرجل والمرأة، الشاب والمسن. هذه أهم مصادر قوة الحركة، التي غدونا نسميها حركة 20 فبراير.. المجيدة.
التعديل الدستوري نهاية طريق أم بداية طريق؟ الحسم في أمر الاختيار، يجعل الطرف المعني في صلب المعضلة المغربية الحالية. على كل حال، ما يبدو للعيان أن الدولة غدت تفتقد أعصابها في كل يوم. ورقة الدستور، بحيثياتها واستشاراتها وخطوط سقفها، لا تلبي تطلعات الحركة الشبابية أساسا. والمشكل أن برنامج الدولة المحدد، من خلال الأجندا المقترحة، إضافة إلى المشروع المزمع الدخول في ديناميته، وطنيا ودوليا، في كف عفريت الآن. والسبب حركة 20 فبراير، التي لا تريد أن تضع نقطة وتعود إلى السطر.
ولعل أخطر ما في فقدان الأعصاب، أن يصير للدولة بلاطجتها. ذلك كابوس حقيقي، لا يمكن تخيله على الإطلاق. ومثلما تحلق الأفكار، تحلق الكوابيس أيضا. المشكل أن لغة البلاطجة، التي هي لغة حزب الدولة، والطائفة، والعائلة.. من شأنه أن يصير لغة الدولة عندنا، مع أن لا فئوية في المغرب، تحت أي مسمى طائفي أو قبلي. هنا، يفترق حد العروبة بين المغرب وليبيا، أولبنان، أوسوريا، أواليمن، أوالعراق، أوغيرها من الأقطار العربية. قيل، ذلك سمة تقدم وتمدن وحضارة.. وما شئت.
والأخطر من الأخطر، أن يدفع بالبلاطجة إلى الميدان، حاملين صور الملك والأعلام الوطنية. يمكن تأمل خطورة أن يحاصر مواطنون آخرين، ويشهرون في أوجههم أمر الهتاف بحياة الملك، تبرئة لذمتهم من لوثة الميول غير المَلَكِيَّة. الملك خارج النقاش بصفته الشخصية. الملك مَلِك الجميع، أو حتى مِلْكُهُم.. لا يضير الأمر أحدا في شيء. ينبغي أن يكون ذلك واضحا ومحسوما. من يدفع إلى غير ذلك الاتجاه، يعمل لحساب خلط الأوراق.
من الحكمة المطلوبة في هذه اللحظة، ترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي السلس. الموقف تحت السيطرة، وبإمكاننا أن نفكر لحساب الدولة وبمنطقها في بعض الأحيان. المسيرات الشعبية السلمية، خلال نهاية الأسبوع، من أرقى تجليات المدنية المعاصرة. المجتمع يتعبأ في الشوارع والساحات، عبر التربية على قيم الحوار والمواطنة. ماذا تريد الدولة غير ذلك؟ الحوار المباشر وغير المباشر، إضافة إلى الإنصات العميق لنبض القوى الحية، كلها أمور كفيلة بابتداع أجوبة متقدمة لانتظارات المجتمع، والشاب منه على وجه الخصوص.
الخلاصة أن الدولة، من واجبها التعايش مع مثل هذه التفاعلات. ليكن شرط حسن سلوكها الديمقراطي، احترام المسيرات الشعبية، بل وحمايتها من تدخل البلاطجة. هذا هو الاختيار الديمقراطي، الذي كان النقاش الدستوري أحد واجهاته الأساس.. ليس أكثر.
حركة 20 فبراير كانت السؤال، في حين كان التعديل الدستوري الجواب..جواب الدولة. لسوء الحظ، لم تكن، هناك، إمكانيات لأجوبة أخرى. هنا، يكمن المأزق الحالي. ولكن، كيفما كان الحال، لنتجنب تبني جواب آخر، يطل برأسه هذه الأيام: إنه جواب البلاطجة.
-3-
كان مكتوبا أن نقطع كل هذا الشوط للعودة إلى الجهة الثانية. هذه الجهة لا تبتعد، كثيرا، عن جهة الدولة. نقصد بذلك الأحزاب السياسية، في بياتها الشتوي الطويل، إلى درجة لم نعد نميزها عن الدولة. التلفزة الوطنية كانت، دوما، حاضرة، والمناسبة بعد كل خطاب ملكي.. خطاب الملك برنامجنا، العبارات تختلف من زعيم حزبي إلى آخر. التماهي مع مبادرات الدولة، إلى جانب تبني خطابها، يجعل لهذه الأخيرة امتدادا في الأحزاب. هل كانت، هناك، حياة للأحزاب خارج إطار الصراعات التنظيمية؟ الجواب بالسلب، يختزل المأزق الحقيقي الذي غدونا نسميه اختصارا: إفلاس الظاهرة الحزبية.
ولذلك، ليس من المنطقي أن تتم القطيعة مع الدولة، دون التفكير هذه المرة في:
- القطيعة مع معظم الأحزاب القائمة في المشهد السياسي المغربي. علاقة الدولة بالأحزاب، لم تخل من عنف دموي، في غير قليل من مفاصل تاريخ هذه العلاقة. نحن لا نتحدث عن أي حزب، ولكن التعب في منتصف الطريق ترك للقمع والمصادرة والتزوير والإرشاء.. ترك لها أن تتولى الباقي. الآن، نحن بصدد نخبة شائخة فاسدة، بيدها تاريخ نضال وصراع معجون بالدم والملح والدموع. لتتاجر به ما وسعتها التجارة، والعناوين كثيرة لذلك مما يمكن اختياره: الانتقال الديمقراطي، التناوب الحكومي أو النويبة.. لا فرق.
تنسيب الأحكام والخلاصات، مسألة مفيدة للتحليل السياسي، وللتحليل الإنساني في مختلف مجالات المعرفة. من يمتلك الحقيقة المطلقة.. أحمق. ومع ذلك، العبرة بالخواتم كما نحكي على لسان أي شخص في الشارع. لا أحد في حاجة لمن يقوده، من يديه، إلى تلك الخلاصة الناصعة. الخلاصة أو الخاتمة سيَّان، وبسرعة يمكن الإشارة بالأصبع إلى حركة 20 فبراير. الخلاصة أو الخلاص، الشعر مفيد لحيوية الخطاب في مثل هذه المواقف.
كُتِبَ أن يعرِّج عليّ المفكر الطليعي غرامشي ذات يوم. في أحد دفاتره، الحزب قاطرة لأي تغيير سياسي. عند هذا الحد، لم أعد أذكر غرامشي، وفاء للامانة العلمية. حين يتلاشى التنظيم، لسبب من الأسباب، يكون البديل الثورة. ومع ذلك، تظل الأخيرة في حاجة إلى ناطق في البداية، فردا أو جماعة، سرعان ما تتحول إلى تنظيم.. حزب في نهاية المطاف. المؤشرات لمن يريد الاطلاع، يمكن متابعتها في تونس أو مصر. هل الأمر يتعلق بحركة أو بثورة، هنا يتعقد التحليل إلى أقصى حد. طموحات ثورة في لبوس إصلاح. الشروط غير واضحة أو ناضجة، سؤال الخصوصية المغربية يطرح نفسه بإلحاح.
سؤال الخصوصية المغربية، لم يكف عن ملاحقة المغرب يوما.. كأنه ظل له. إنه قدر مقدر، انتصب عائقا في وجه أي وضوح. وفي هذه الفترة، قدر له أن لا يذهب بالأمور إلى نهاية المطاف. وعلى حركة 20 فبراير، التعاطي بحزم مع ذات السؤال: الخصوصية. هل هي خصوصية أو خليط من القوانين والتشريعات والنظم والمؤسسات. للباحث عن أية قراءة، بإمكانه أن يجد بُغْيته بسهولة. الواقع مُسْعِف بِمَدَدِه، لا شك في ذلك.
سؤال الأحزاب، في سياق الخصوصية المغربية، سؤال كبير. سؤالها ليس فيه أي قدر من الإبداع، ولكن واقعها يفرض نفسه بحدة.. في الاتجاه السلبي بطبيعة الحال. الأحزاب مهجورة اليوم، غير أن قوتها في طبخ الواقع الحالي ملموسة. والبداية بالدستور، وبعد ذلك ينطلق القطار على خط سكة، يطول أو يقصر. المهم أن ينطلق القطار، مخلفا وراءه محطة حركة 20 فبراير. هذا هو الهدف الكبير من انطلاق الصافرة، المصحوبة بسحابة الدخان الكثيفة.
يبدو من اللازم، لتجذر الحركة، عدم الاقتصار على تكريس ثقافة التجمهر في الشوارع. المهمة ألا تنتهي عند ذلك الحد، ولا ينبغي لها بأي حال من الأحوال. المشاكل جمة، وأولاها كيفية نقل المعركة إلى داخل الأحزاب، المتواطئة أو المتحفظة. الكل " يركب" الآن موجة الحركة، ولكن بالقدر الذي يجعلها تستفيد من نتائج الصفقة. الانتخابات على الأبواب، والجميع يتفقد اعضاءه كل صباح. حساب الربح والخسارة، الحساب الأكثر جدوى بالنسبة للشيوخ، وبينهم بعض الشباب للأسف.. الشيوخ في حقيقة الأمر. إنها فرصة المنتظرين أو بالأحرى المترددين للحسم حاليا، أي للانقضاض على الأحزاب الموهنة. هل بقي هناك من شباب؟ لا ينبغي فقدان الأمل، وجواب حركة 20 فبراير ما يزال يخلب قلوب الأمل وعقول المستقبل.
إن النظام لا يشتغل بمعزل عن التنسيق مع الأحزاب. ولذلك، يبدو اختراق هذه من الداخل أفيد من حيث النتائج الملموسة. لا مجال للتذكير بأن الاختراق يتم عبر نقل دينامية الحركة الصاعدة إلى الدكاكين الحزبية نفسها. ولأن الأمر لا يتعلق بثورة مكتملة، بفعل الواقع المركب الذي سميناه خصوصية، فإن الجواب المعروف المتمثل في صيغة حزب الثورة.. غير ذي جدوى. الأجدى تفجير الأحزاب القائمة، بما يجعلها تستوعب مضامين جديدة: روح حركة 20 فبراير. هذا الحديث معنية به بعض الأحزاب وليس جميعها. الأمل في بعضها قائم، بينما نسبته في البعض الآخر منعدم بالمرة. هذا التمييز ضروري، حتى يكون للمعنى النسبي درجته في التحليل المراد.
المسألة لا تتعلق بأوامر صادرة عن قيادة مركزية. الأوامر ، هنا، تأخذ شكل انبعاثاث جوانية، تفيض من الداخل إلى المحيط: الحزب بشكل رئيس. الأمر يتعلق، بمعنى من المعاني، بروح .. لا بأس من أن نسميها، مع مرور الأيام، ثقافة. وأعتقد أن نجاح الحركة، يكمن في مدى ترسيخ هذه الثقافة وإشعاعها. إنها مجرد بداية، لكن جواب الدولة بالتعديل الدستوري لا ينبغي الاستهانة بقوته وفاعليته. البداية ما تزال في لحظاتها الأولى، إلا أن الرد كان حاسما.. الانتهاء من الحركة بأي وجه من الأوجه. الخصم هو، إذاً، الجهاز الرسمي، متحالفا مع ما تبقى من الأحزاب.. من تاريخ تم تحويل مجراه.
هل نحن في أوج حركة ماي 68 بفرنسا؟. الخصوصية المغربية تطل برأسها من جديد. في هذا، تكمن المعضلة المغربية. قطار التاريخ لا ينحرف بأقصى سرعة. إلى الانقلاب، لا قدر الله؟ على كل، اكثر الشعوب حياة اليوم، هي التي شهدت أكثر من انقلاب لقطار التاريخ. هل أكثر هولا من أن يعيش الأوروبي حربين كونيتين على التوالي؟ على كل، لا يتمنى ذلك أحد، في ظل العالم الذي تختزل مسافاته خيوط الهاتف والتلفاز.. أية خطوط، مع وجود النقال والأنترنت؟.
المستقبل مفتوح على الأسئلة. ولذلك، توخيا للسلامة في التحليل، مرافقة الحركة لا استباق خطواتها ولا التخلف وراءها. السير معها أفضل. التاريخ أكبر مُعَلِّم بهذا الشأن. السير معها، يعني تبني روحها الآخذة في التوهج. الشعر، من جانبه، أكبر درس يمكن الاستفادة منه. التاريخ، الشعر، هل بقي شيئ آخر؟
المستقبل واعد، ولو في ظل أضيق الاحتمالات. القطار يسير، والناس عوض أن تتفقد أعضاءها.. تتفقد مشاعرها، أفكارها.. قدرتها على الانخراط في هذه الروح، التي تابى ان تختزل في مجرد تعديل دستوري.
إنها مجرد بداية، فصل من الفصول. لابد أن يكون له ما بعده: اليوم أو غدا. إنه التاريخ ممتزجا بالشعر. هل نُكَذِّب ما يخطه التاريخ؟ هل نكذب ما تخفق به الروح؟
لِنَسِرْ مع الحركة،
معها وفي خضمها،
ولِنَرَ عن كثب.
المحمدية، 22 و23 يونيو 2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.