مياه كثيرة تجري تحت جسر مجتمعنا لا نلقي لها بالا، ولأننا بلاد تسير بلا بوصلة ولا تخطيط ولا لوحة قيادة، فإن بعض الحقائق عندما تطفو فوق السطح تصدمنا. مثل تلك التي نشرتها مندوبية التخطيط مؤخراً حول الخارطة الديمغرافية في بلادنا، والتي تقول إن المرأة المغربية كانت قبل 30 سنة تعطي للعالم خمسة أطفال، أما اليوم، فقد تخلت عن نسبة كبيرة من خصوبتها، ولم تعد تلد أكثر من طفلين في كل حياتها. في ظرف 30 سنة فقط وقع انقلاب ديمغرافي كبير في حياتنا، ومررنا من وضعية الوفرة الديمغرافية إلى مرحلة الندرة (إذا أنجب كل رجل وامرأة طفلين فقط في كل حياتهما، مع الأخذ بعين الاعتبار الأطفال الذين يموتون والمخاطر الأخرى التي تحدق بالبشر، فإننا سنكون في سنوات قليلة أمام تناقص ديمغرافي). في الستينات كانت نسبة قليلة من النساء تستعمل حبوب منع الحمل، أي حوالي 8 في المائة.. اليوم هناك أكثر من 68 في المائة من النساء يستعملن موانع الحمل المختلفة لمنع بطونهن من الانتفاخ أكثر من مرتين في الحياة.. المرأة التي كانت تتزوج في سن مبكرة في الستينات، أي في سن 16 سنة، لم تعد تدخل إلى القفص المسمى ذهبيا إلا في سن 26 سنة... هذه الأرقام تحبل بالكثير من الدلالات عن وجود ثورات هادئة تجري في بطن المجتمع بهدوء وبلا ضجيج. إن التوازن الديمغرافي في أي مجتمع علامة على اتجاهه نحو الحداثة والتطور.. حداثة تبعد المرأة عن أن تكون آلة إنجاب، وتبعد الأسرة عن الغرق في البحث عن ملء البطون الجائعة، وتبعد المجتمع عن مخاطر عدم التوازن بين القدرة الاقتصادية والقدرة الديمغرافية. لأول مرة في تاريخ المغرب يصبح سكان المدن أكثر من سكان البوادي بكل الدلالات السوسيولوجية والسياسية التي يحملها هذا التطور، ولأول مرة يوجد بالمغرب 15 في المائة من النساء يعلن عائلاتهن بشكل كلي، ولأول مرة في تاريخنا نجد حوالي 14 في المائة من المغاربة يعيشون في الخارج في الأركان الأربعة من العالم. أكثر من 4 ملايين مغربي يحملون لقب مغاربة العالم، ويتأثرون بثقافات أخرى وأنماط عيش أخرى، وينقلون بعضا من هذه الثقافات إلى بلدهم الأصلي، أما أمد الحياة فقد قفز من 47 سنة في الستينات إلى 75 سنة حاليا. هل هذه أرقام صماء لا تقول شيئا؟وهل السياسة ستبقى بعيدة كل البعد عن التفاعل مع هذه التحولات؟ الظاهر أن الدولة والأحزاب والإدارة لا تعير اهتماما كبيرا للتحولات العميقة الجارية وسط المجتمع، فمازالت النخب ترى في المغاربة أناسا غير ناضجين بعد ليستحقوا الديمقراطية، كما صرح بذلك الناطق الرسمي باسم الحكومة، خالد الناصري، ومازالت السلطة ترى في البوادي ذلك المخزون الاستراتيجي من الفلاحين المدافعين عن العرش بلا قيد أو شرط، ومازالت الأحزاب تعتبر أن الاتفاق مع المخزن أولى وأجدى من نيل رضى المجتمع، وأن السياسة موجودة في الدوائر العليا للسلطة وليس في قاعدة المجتمع العريضة. مازالت الدولة تراهن على الدين من أجل لجم المجتمع، وعلى القوة لوقف المطالبة بالحرية، وعلى الرقابة للحد من الاستقلالية... استطلاع الرأي، الذي نشرته الزميلة «لافي إيكونوميك»، صدم الأحزاب لأن نسبة 20 في المائة فقط من الشباب المستجوب تعرف الوزير الأول عباس الفاسي، و10 في المائة يعرفون عبد الإله بنكيران زعيم المعارضة، و9 في المائة يعرفون فؤاد عالي الهمة الذي يشغل الطبقة السياسية، أما اليازغي فلم يتعرف عليه سوى 4.7 في المائة من الشباب الذين استطلعت آراؤهم في الموضوع... إنه جهل متبادل في ما يشبه الانتقام.. النخبة تجهل أحوال المجتمع وهمومه وقضاياه، والمجتمع يرد الصاع صاعين، ويجعل من السياسيين وأخبارهم وبرامجهم ووجوههم موضوعات خارج التغطية.