من بين المطالب الأكثر إلحاحا التي طالما طُرحت من لدن منابر سياسية وطنية مختلفة وهيئات مدنية متعددة وامتلأ الشارع المغربي صراخا بها خلال الشهور الماضية مطلب إسقاط الفساد الذي يتمثل في تفشي الرشوة ونهب المال العام أو تبديده وصرفه في نفقات غير مجدية بسبب سوء التدبير أو عدم الالتزام بالأمانة أو غير ذلك من أشكال الفساد التي تنخر عددا من المرافق العمومية وتضيع على الدولة وعلى الشعب المغربي أموالا كثيرة يمكن توظيفها في مواجهة الخصاص الذي تعانيه عدة قطاعات عمومية وسد النقص الموجود في الخدمات الاجتماعية. ويظل مطلب إسقاط الفساد من المطالب الأكثر راهنية اليوم لأنه يصعب الحديث عن الإصلاح والتغيير دون اتخاذ تدابير حازمة لمحاربة الفساد ودون الإقدام على خطوات ملموسة من شأنها إعطاء صورة مغايرة لما كان وما زال سائدا من ممارسات منحرفة وسلوكيات فاسدة تُواجَه بالتغاضي وغض الطرف أو التجميد غير المبرر. وحينما طُرح موضوع الفساد مؤخرا في البرلمان جاء في تصريح لوزير العدل أنه في سنة 2010 بلغ عدد المتابعين في قضايا الرشوة 8305 من الأشخاص، ورغم أهمية هذا العدد فهو لا يحقق الرجة التي ينتظرها الشارع المغربي في مجال محاربة الفساد لأنه مجرد رقم جامد وقد يتعلق الأمر برشاوى من 20 أو 100 درهم في حين أن الرأي العام يلاحظ بأن القضايا الكبرى للفساد وتبديد ونهب المال العام والتي تشير أصابع الاتهام فيها لشخصيات معروفة كانت على رأس مؤسسات ذات أهمية كبرى في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لم يتم إحالتها على القضاء رغم اكتشاف ما شابها من اختلالات وانحرافات منذ سنوات مثل الضمان الاجتماعي والقرض العقاري والسياحي والمكتب الوطني للمطارات وغيرها، وعدم وصول مثل هذه القضايا إلى القضاء للبت فيها يكرس ظاهرة سلبية سادت منذ عقود من الزمن ألا وهي عدم المساءلة والإفلات من العقاب وما يترتب عن ذلك من ترسيخ الفساد وتعميق جذوره وتزايد انتشاره. ولا تنحصر الآثار السلبية لعدم اتخاذ تدابير ملموسة لإسقاط الفساد في استفحاله وتفاقمه وإهدار المال العام دون طائل وانعكاسات كل ذلك على الاقتصاد الوطني، وإنما تؤدي كذلك إلى تكريس عدم الثقة في أي مشروع إصلاحي مع استمرار التغاضي عن كبريات ملفات الفساد والمفسدين لأن فكرة الإصلاح في حد ذاتها لا يمكن استنباتها في محيط مشوب بالفساد الذي لا تعترضه أي مقاومة ملموسة وجادة وفعالة. وبالإضافة إلى الوقع السيئ للفساد على الاقتصاد وعلى السير العام للمرافق العمومية وعلى ثقة المغاربة في الإصلاحات التي تحتاج إليها البلاد، فإنه يسيء لسمعة المغرب على الصعيد الدولي، وقد جاء في تقرير المنظمة الأمريكية المهتمة بمشروع العدالة الدولية أن المغرب احتل الرتبة 51 من 66 دولة في مؤشر دولة القانون سنة 2011 وأن المعايير المعتمدة لهذا المؤشر تتعلق بمسؤولية الحكومة وولوج المواطن إلى القضاء وحماية الحقوق ونجاعة نظام الوقاية من الجرائم والرشوة، ومثل هذه التقارير الدولية تؤثر إلى حد بعيد في اختيارات كبريات المقاولات الاستثمارية في العالم، وبالتالي فإنه يصعب جلب العدد الأكبر من هذه المقاولات للاستثمار في المغرب إذا كانت سمعته في محاربة الفساد مهزوزة لعدم اعتماد سيادة القانون في مواجهة الجميع. وإذ يستمر الشارع المغربي في المطالبة بإسقاط الفساد فهو قد ضج من هذه الآفة وفي ذات الوقت فإن التأكيد الملح على هذا المطلب يراد منه التعبير بوضوح على أن عدم الإقدام على تدابير حقيقية ومجدية في محاربة الفساد والتماطل في إحالة الملفات المعروفة على القضاء لينال المفسدون الجزاء الذي يستحقونه ويكونوا بذلك عبرة لغيرهم، إن عدم السير في هذا الاتجاه يعني غياب الإرادة السياسية في الإصلاح، وبالتالي فإن الثقة في أهداف ومرامي الإصلاحات التي تطال مجالات أخرى بما فيها الدستور تبقى مهزوزة وغير قوية لأن أي إصلاح كيفما كان نوعه تبقى آثاره محدودة مع استمرار النزيف الذي يشكله أخطبوط الفساد الذي ينهك البلاد ويبدد طاقاتها لفائدة كمشة من الفاسدين. فهل سيتم الانتباه للمطلب الأساسي الذي يرفعه الشارع والمتعلق بإسقاط الفساد وفتح الآفاق نحو إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية شاملة تتعزز بثقة المغاربة؟ أم أن القوى التي تريد إبقاء الوضع على ما كان عليه لا مجال لمقاومتها؟؟؟