* 14 فبراير, 2018 - 11:38:00 ظهرت على الساحة السياسية المغربية، في الآونة الأخيرة، بعض المؤشرات التي تنذر أو تؤكد وجود سوء فهم كبير بين الدولة وإسلاميي العدالة والتنمية، وأن العلاقة بينهما متشنجة ومتوترة ولم تعد كما كانت في سابق عهدها، حيث باتت السلطة بالمغرب تسارع الزمن وتحاول جاهدة إعادة ضبط عقارب الساعة وفق النمط القديم في تدبير علاقتها بالمكونات الإسلامية؛ وهو النمط القائم على "الاحتواء" و"الضبط والتوجيه" و"رسم مجال الاشتغال مسبقا"... وارتباطا بالأحداث المتتالية والمتسارعة، وباستحضار كافة المؤشرات والوقائع، يمكن القول إن السلطة السياسية في المغرب تتجه نحو غلق قوس تجربة مشاركة الاسلاميين في السلطة، أو في أقصى الحالات محاولة إعادة هذه التجربة إلى بداياتها الأولى، من خلال تسييج مشاركتهم وضبطها وفق سقف لا يتجاوز وجودهم بأعداد محدودة داخل قبة البرلمان، بعدما اتضح جليا أن حركات الإسلام السياسي يصعب ترويضها وضبطها وفق الميكانيزمات والضوابط السابقة. هذا الوضع يستلزم إثارة عدة تساؤلات تهم أساسا العلاقة بين الطرفين، من قبيل: ما خلفيات التوتر بين الدولة والإسلاميين؟ ما أسباب توجس النظام من هذا الفصيل؟ لماذا يصر عبد الإله بنكيران، الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، في خرجاته على الإشارة إلى إمكانية حل الحزب من لدن الدولة، كما جاء على لسانه في المؤتمر الأخير لشبيبة "المصباح"؟ كيف يدبر النظام ملف الإسلاميين؟ هل يمكن اعتبار خيار "الفرملة" المعتمد من لدن السلطة حاليا خيارا استراتيجيا أم ظرفيا؟ وكيف يرى الفصيل الإسلامي المشارك في العملية السياسية مستقبل علاقته مع النظام؟ هل مسلسل التنازلات بالنسبة إلى الإسلاميين تكتيك ظرفي أم تصور استراتيجي؟ ما الخيارات الممكنة؟ وكيف يناور كل طرف؟ وما تأثير العامل الداخلي والخارجي في "الصراع" بين الطرفين؟ وما مستقبل العلاقة بين الطرفين؟ صحيح أن العلاقة بين الطرفين مرت سابقا بحالات ومحطات عديدة من الشد والجذب، إلا أنها بقيت مؤطرة وفق سقف لم يصل إلى مستوى التوتر الحالي، بحيث حاول الحزب الإسلامي أن يدبر علاقته بالدولة وهو يعيش مخاض الاندماج والحصول على الشرعية والتطبيع مع المؤسسات بطريقة براغماتية قوامها التنازل والمهادنة والاصطفاف على يمين القصر في جميع المحطات، مقابل ضمان موقع سياسي/اجتماعي يسمح له بالانسياب الهادئ داخل دواليب الدولة. أما السلطة السياسية، فكانت ترى في حزب العدالة والتنمية أداة تنظيمية وخزانا انتخابيا/ اجتماعيا صاعد، بالرغم من حساسيته الإيديولوجية وإمكانية منازعة ومزاحمة الملك في مشروعيته الدينية؛ لكن يمكن ترويضه وتوظيفه كورقة أو بيدق جديد على "رقعة الشطرنج" لتحقيق مجموعة من الأهداف والتوازنات السياسية، وفي إدارة وإعادة ضبط الحقل الحزبي. ومع توالي الأحداث والوقائع، خاصة بعد تعديل الدستور سنة 2011، وما أعقبها من نتائج أفرزت فوز الفصيل الإسلامي بصدارة استحقاقين تشريعيين لسنتي 2011 و2016 وشبه اكتساح للمجالس البلدية في مدن كبرى خلال الانتخابات الجماعية لسنة 2015. هذه النتائج والتحولات الإقليمية والدولية، خاصة بعد ظهور مؤشرات تؤكد تراجع المد الأصولي الذي حمله الحراك الشعبي في الرقعة العربية أواخر سنة 2010، سواء من خلال إغلاق قوس تجربة الإسلاميين في كل من تونس ومصر، أو من خلال تراجع الحماس أو الدعم الغربي لتجربة إدماج الإسلام السياسي. كل هذه العوامل دفعت بالسلطة في المغرب إلى مراجعة تدبيرها لهذا الملف، من خلال محاولة إعادة ترسيم وضبط مجال وحدود تحرك إسلاميي هذا الحزب؛ لكن المفاجأة كانت غير سارة بالنسبة إلى المدافعين عن خيار إدماج الإسلاميين من دوائر السلطة بعدما أحسوا بالخطر، وأن الأمور بدأت تنفلت من بين أيديهم، بحيث أدركوا بعد حين أن ميكانيزمات الترويض والاحتواء لم تسعفهم في لجم وضبط إيقاع الصعود المتنامي للإسلاميين، فوجدوا أنفسهم أمام حزب يغيّر قواعد اللعبة بطريقة ذكية تخدم تمدده وتغلغله في المجتمع.. بالموازاة مع هذه التحولات التي مست قواعد اللعبة السياسية والمشهد الحزبي المتردي، لوحظ أن هناك تغيرا كبيرا على مستوى خطابات الحزب الإسلامي ونبرته تجاه السلطة والفرقاء السياسيين؛ فمقابل شعارات المهادنة والتنازل والتوافق التي اعتمدها في السابق، صار يتعامل بالندية والتحدي ولا يتردد كذلك في إشهار ورقة "شرعية الصناديق" و"الاختيار الشعبي" في المواجهة مع السلطة السياسية. كما صار في حكم المتوقع أن هذا الحزب يتجه نحو اكتساح المشهد السياسي بشكل غير مسبوق، خاصة في ظل ضعف ومحدودية الفاعلين الآخرين وعزوف كبير للهيئة الناخبة. أمام هذا الوضع، أصبحت السلطة تنظر بعدم الرضا وبتوجس كبير إلى هذا الحزب الإسلامي، وبات في نظرها "حزبا متمردا" وجب تقليم أظافره وإعادته إلى حجمه السابق؛ في حين أن حزب العدالة والتنمية يرى أن الديمقراطية تقتضي احترام إرادة الناخبين، وأن لا شرعية تعلو على شرعية الصناديق، وأن زمن "صناعة الخرائط الانتخابية قد ولى". وبالتالي، فهذا الحزب، الذي كان سابقا يصارع من أجل نيل الاعتراف والحصول على الشرعية القانونية، أصبح يحتج ويحاجج في مواجهة السلطة بالقانون والشرعية؛ وهو ما أثار حفيظتها، لا سيما أن ضبط وتوزيع الأدوار داخل الحقل السياسي كان ولا يزال تعتبره السلطة من صميم قواعد اللعبة السياسية المسطرة مسبقا. من هنا، بدأ الصراع، كل طرف يحاول إضعاف الطرف الآخر وإنهاكه، فالإسلاميون يراهنون على الأوضاع الاجتماعية الهشة و"هامش الديمقراطية الموجود" وضعف المنافسين الآخرين للبقاء أكثر في دفة التسيير وانتظار "مرور العاصفة" داخليا ودوليا، مع تقديم بعض التنازلات التي تسمح ببقاء التنظيم في الساحة السياسية، والحرص كذلك على عدم ضياع مجموعة من المكاسب السياسية والانتخابية التي حققت طيلة عشرين سنة من مشاركتهم في العملية السياسية. أما الدولة، فهي تسعى بدورها إلى كبح أو "فرملة تمددهم داخل الحقل السياسي" من خلال المراهنة على السياسات اللا شعبية التي يتخذها هذا الحزب على رأس الحكومة واللعب على التناقضات والمشاكل الداخلية التي طفحت على السطح بعد إبعاد بنكيران، وذلك بهدف إنهاكه والنيل من شعبيته قبل الاستحقاقات المقبلة. كما تراهن السلطة كذلك على اعتماد مقاربات ترتكز على "السخاء" في توزيع المنافع المادية والرمزية على قيادات الحزب، لاحتوائهم وضمان خضوعهم بشكل يسلبهم القدرة على التمرد أو اتخاذ المبادرة. لذلك، لقد بات الصراع مفتوحا على جميع القراءات والسيناريوهات.. ومن المحتم أن توظف فيه كذلك، في المستقبل، جميع الميكانيزمات، سواء المؤسساتية أو القانونية أو الانتخابية... فهل باتت تلوح في الأفق انتخابات سابقة لآوانها كمخرج لكلا الطرفين؟ سؤال من الصعب التهكن بنتائجه؛ لكنه يبقى قائما وفق الظروف الحالية... *استاذ العلوم السياسية، جامعة القاضي عياض