«سوف أنقذ نفسي طبعا... سوف أزيح السيدات من طريقي، وأركل الأطفال بكل قوتي، وأدهس الركاب المعاقين حتى أصل الى باب الطوارئ وأنجو بنفسي.. بعد ذلك سأحاول إنقاذ الركاب». هذه الصورة الساخرة تبين كيف يفعل بعض الناس كل شيء من أجل الاحتفاظ بحياتهم أو مكاسبهم... كلما رأيت وزير الخارجية الجديد محمد العرابي تذكرت كلمات جورج كارلين. لقد كان محمد العرابي من أقرب الناس الى مبارك وأسرته، وله في مديح مبارك مجموعة كاملة من الأناشيد والأهازيج. طبقا لما نشرته جريدة الوفد، عندما كان العرابي سفيرا لمصر في ألمانيا صرح قائلا: انني مؤمن بأن حسني مبارك زعيم لم ولن يتكرر في تاريخ مصر. وقال أيضا: ان الله يحب مصر، لأنه حباها بموهبة فذة، اسمها جمال مبارك. السيد العرابي الآن وزير خارجية في حكومة ثورة أطاحت زعيمه الذي لم ولن يتكرر، وألقت بالموهبة الفذة جمال مبارك في السجن تمهيدا لمحاكمته. العرابي ليس حالة نادرة في السلطة المصرية. وزراء كثيرون كانوا من أكبر المؤيدين لمبارك، وهم الآن يتخذون القرارات في حكومة الثورة. الدكتور سمير رضوان وزير المالية الحالي، كان عضوا في لجنة السياسات ومقربا من جمال مبارك الذي رشحه للوزير يوسف بطرس غالي، فعينه مستشارا له عام 2005 ثم عينه حسني مبارك عضوا في مجلس الشعب. الوزير رضوان شريك في السياسات الاقتصادية لنظام مبارك، وهو يريد الآن إقناع الرأي العام بأنه يتبنى أفكار الثورة، فلا أملك الا أن أتذكر طريقة جورج كارلين في الهروب من الطائرة التي تسقط. المشكلة هنا ليست فقط في قدرة هؤلاء الوزراء المدهشة على الدفاع عن الشيء ونقيضه بنفس الحماسة من أجل الاحتفاظ بمناصبهم. المشكلة أن الثورة أسقطت حسني مبارك لكن نظام مبارك لم يسقط... لواءات الداخلية الذين ساعدوا حبيب العادلي على اهدار كرامة المصريين وتعذيبهم وقتلهم ما زالوا في مناصبهم. المسؤولون في الاعلام الذين طالما ضللوا الرأي العام ونافقوا الطاغية وبرروا جرائمه ما زالوا في أماكنهم. القضاة الذين أشرفوا على تزوير الانتخابات ما زالوا يمارسون عملهم. ضباط أمن الدولة الذين ارتكبوا جرائم بشعة في حق المصريين ما زالوا في في مناصبهم، بل وتم تعيين بعضهم كمحافظين تقديرا لجهودهم في خدمة النظام... ماذا نتوقع من كل هؤلاء المسؤولين؟ قطعا سوف يعجزون عن فهم منطق الثورة وغالبا سيتآمرون ضدها.. ان المؤامرة على الثورة المصرية قد صارت واضحة المعالم وتتلخص في الخطوات الآتية: أولا: إجراء محاكمات بطيئة لبعض رموز النظام السابق، لامتصاص غضب الشعب شيئا فشيئا، حتى ينسى الناس الأمر وينشغلوا بشؤون حياتهم. لماذا لم يحاكم مبارك حتى الآن وما السر في كل هذه التقارير المتضاربة عن صحته ولماذا لا يعامل كمسجون عادي؟ وأين علاء وجمال مبارك، ولماذا لا نرى صورتيهما في السجن؟ لماذا يحظى كبار المسؤولين المسجونين في سجن طره بمعاملة استثنائية؟ من الذي سمح لحسين سالم بالهرب، ولماذا لم يتم ابلاغ الانتربول ضده من البداية؟ لماذا لم يقبض على زكريا عزمي وفتحي سرور وصفوت الشريف الا بعد شهرين، كاملين تمكنوا خلالهما من اخفاء ما يدينهم وتهريب ما يستطيعون من الأموال التي نهبوها من الشعب المصري؟ لماذا لم يتلق المصابون والشهداء أية رعاية من الدولة على مدى ستة أشهر كاملة، وكيف يترك الشهيد محمود قطب في مستشفى ناصر بدون علاج لمدة شهر كامل، حتى تتقيح جروحه، وتخرج الحشرات من فمه، بينما يتم اخلاء مستشفى شرم الشيخ من المرضى حتى تعالج السيدة سوزان مبارك أسنانها وتقف الحكومة المصرية على قدم وساق من أجل استدعاء الطبيب الألماني للاطمئنان على صحة حسني مبارك الغالية؟ الأسئلة كثيرة والاجابة واحدة، معروفة ومحزنة. ثانيا: احداث حالة من الانفلات الأمني المستمر مع تقاعس الشرطة المتعمد عن أداء واجبها في حماية الأمن، حتى يتم ترويع المصريين وتعطيل السياحة والاستثمار، فتبدو الثورة وكأنها قد جلبت علينا الخراب. مع السعي الدائم لتصوير الشهداء على أنهم بلطجية، وتصوير الضباط القتلة على أنهم أبطال، كانوا يدافعون عن الأقسام، ثم تأجيل المحاكمات شهورا طويلة حتى يتمكن الضباط المتهمون (الذين ما زالوا في مناصبهم) من الضغط على أهالي الشهداء حتى يغيروا أقوالهم فيفلتوا من العقاب. ثالثا: احداث حالة من الاستقطاب بين قوى الثورة وتغذية الصراع بين الليبراليين والاسلاميين، مع تصوير الأمر على أن مصر بعد الثورة، وقعت في قبضة المتطرفين الى الأبد. لعلنا نتذكر كيف خرجت صحيفة الأهرام في عهد رئيس تحريرها السابق، وهي تحمل على صفحتها الأولى صورة رجل مقطوع الأذن مع مانشيت رئيسي بأن السلفيين قطعوا أذن مواطن قبطي.. لعلنا نذكر كيف احتفت وسائل الاعلام بعبود الزمر القاتل وكأنه بطل قومي. لعلنا نفهم لماذا لا يكاد يمر أسبوع، بدون أن يتم الاعتداء على الأقباط أو الكنائس، بينما رجال الشرطة يتفرجون، على أن يتم اتهام الاسلاميين دائما، حتى يتم تشويه الثورة في الداخل والخارج. رابعا: المبالغة في حجم الأزمة الاقتصادية والحديث المتكرر عن أن مصر على شفا الافلاس بسبب الثورة. المغالطة هنا مركبة فقد ترك حسني مبارك مصر في حالة اقتصادية مزرية: 40 % من نصف المصريين يعيشون تحت خط الفقر، ومعدلات البطالة غير مسبوقة، ويكفي أن نعلم أن واحداً من ثلاثة من سكان القاهرة يعيش في العشوائيات.. نظام مبارك هو المسؤول عن بؤس المصريين وليس الثورة. كما أن الثورة لم تحكم حتى تتحمل المسؤولية. إذا كانت هناك أزمات بعد الثورة، فهي مسؤولية المجلس العسكري الذي يقوم بمهام رئيس الجمهورية ومسؤولية الحكومة التي عينها.. ان ما حدث في ميدان التحرير في الأسبوع الماضي بالغ الدلالة: فقد تم اطلاق البلطجية ليثيروا الشغب، ويعتدوا على وزارة الداخلية، حتى يعطوا قوات الشرطة المبرر للاعتداء على المتظاهرين. وهنا ظهر مدى الحقد ضد الثورة الذي يغلي في صدور بعض قيادات الشرطة وضباطها. ما الذي يجعل ضابطا كبيرا يستقل سيارة ويحمل ميكروفون خصيصا حتى يشتم المتظاهرين بأمهاتهم؟ وما الذي يجعل ضابط المباحث في قسم العجوزة يشتم أم الشهيد أحمد زين العابدين ويركلها بقدمه في بطنها ثم يضرب ابنها محمد على رأسه ويصعقه بالكهرباء وفي النهاية يقبض عليه ويحيله الى محاكمة عسكرية؟ هذه الاعتداءات المشينة من رجال الشرطة على أهالي الشهداء صاحبتها حملة تشويه مدوية على الطريقة القديمة، صنعتها الخلايا النائمة للأمن في وسائل الاعلام، مجموعة من الصحفيين والمذيعين والمعدين ما زالوا يتلقون التعليمات من أمن الدولة، الذي تغير اسمه الى الأمن الوطني. أما السيد منصور عيسوي فلا أظن المتآمرين على الثورة يتمنون وزيرا للداخلية أفضل منه، فهو يعتبر من واجبه أن يدافع عن ضباطه، مهما ارتكبوا من جرائم، كما أنه منقطع بشكل غريب عما يحدث حوله، لدرجة تجعلنا لا نأخذ ما يقوله على محمل الجد. ان أحداث التحرير ليست الا بروفة لمؤامرة كبرى يجري تجهيزها من أجل اجهاض الثورة نهائيا السؤال هنا.. هل أخطأت الثورة المصرية..؟ نعم.. أخطأت الثورة مرتين.. المرة الأولى في يوم 11 شباط/ فبراير عندما تم اجبار مبارك على التنحي، فاحتفل ملايين المصريين بالنصر ثم انصرفوا الى بيوتهم، وكان المفروض أن تظل الثورة في الميدان وتختار متحدثين باسمها يتفاوضون مع المجلس العسكري حتى تتحقق مطالبها بالكامل.. الخطأ الثاني للثورة المصرية أنها انقسمت على نفسها قبل تحقيق مطالبها.. بدلا من اعلان سقوط دستور مبارك والدعوة الى دستور جديد، فضل المجلس العسكري أن يتبنى اقتراح مبارك بتعديل بعض المواد في الدستور القديم، وتم اجراء الاستفتاء على تعديل بعض المواد، وبعد اعلان نتيجة الاستفتاء تجاوزه المجلس العسكري تماما، وأعلن دستورا مؤقتا من 63 مادة .. وقد أدى هذا الاستفتاء (المشكوك في جدواه) الى انقسام أصحاب الثورة الى فريقين: الليبراليون والاسلاميون. دخل الفريقان في سجال عنيف، الليبراليون يطالبون بالدستور أولا، والاسلاميون يطالبون بالانتخابات أولا... وتفرغ كل فريق لمهاجمة الآخر ونسي الفريقان أن النظام الذي قامت الثورة لاسقاطه لم يسقط بعد. ما جدوى الانتخابات اذا تمت تحت اشراف وزارة الداخلية التي يحكمها مساعدو العادلي وتلاميذه وتحت اشراف قضاة شاركوا في التزوير وما زالوا في مناصبهم؟ وما قيمة دستور تتم كتابته بواسطة أساتذة قانون طالما وضعوا معلوماتهم القانونية في خدمة الاستبداد؟ ان الثورة المصرية تمر الآن بلحظة حرجة. مفترق طرق بمعنى الكلمة. اما أن تنتصر وتنجز أهدافها واما أن تنكسر، لا قدر الله، ويعود النظام القديم وإن تغير شكله.. ما العمل الآن؟ علينا أن نتذكر حسني مبارك قبل الثورة. لقد كان كل شيء يصب في مصلحته. كان يتمتع بالدعم الكامل من اسرائيل والدول الغربية ومعظم الدول العربية. لم يكن أحد يتصور أن بالامكان ازاحته عن السلطة، لكن الشعب المصري بفضل الله استطاع أن يجبر مبارك على التنحي. لن يحمي الثورة الا الذين صنعوها. من هنا تأتي أهمية تظاهرات الجمعة القادمة يوم 8 يوليو من أجل تصحيح مسار الثورة. يجب أن ننسى اختلافاتنا الفكرية والسياسية ونعود كما كنا أثناء الثورة. الأقباط مع السلفيين والاخوان مع اليساريين والمنقبات والمحجبات مع السافرات.. لن نطالب بدستور ولا انتخابات.. سنطالب بتطهير النظام من فلول نظام مبارك.. سنطالب بمحاكمات عادلة وناجزة لقتلة الشهداء. سنطالب بعدم احالة المدنيين أمام المحاكم العسكرية مهما تكن الأسباب.. سننزل يوم الجمعة بإذن الله ونحن مستعدون لدفع ثمن الحرية. سنكون كما كنا أيام الثورة جاهزين للموت في أي لحظة فلن تكون حياتنا أفضل ولا أعز من حياة مئات الشهداء وقد قدموها عن طيب خاطر من أجل مستقبل مصر وكرامة المصريين. الديموقراطية هي الحل