منذ إطلاق صافرة البداية لحملة التطبيل والتهليل والتسبيح المتصلة بمشروع الدستور الجديد، صار يطلع علينا من وقت لآخر ثلة من المتدخلين على شاشات التلفزيون وأمواج الإذاعة وصفحات الجرائد، في محاولات تضليلية بائسة الهدف من ورائها جعلنا نعتقد بأن مشروع الدستور المغربي يضاهي في هندسته ومضامينه دساتير أعرق الديمقراطيات الغربية، بل ويتجاوز في بعض مقتضياته العديد منها، بما في ذلك أرقى الملكيات الأوروبية. يتوزع هؤلاء ما بين المحلل السياسي الموسمي، الفقيه الدستوري التليد والمسؤول الحزبي الجَهْوَرِي. أما القاسم المشترك بينهم كافّة، فهو كونهم لا يتحَرَّجُون في محاولة غش المغاربة. يتفانون في القيام بمهمتهم التدليسية تلك بالبث المباشر وفي وقت الذروة، فتَرَى أحدَهم يُخرج نسخة مجتزأة من الدستور الهولندي أو الإسباني أو حتى السويدي لِمَ لا، ودون أن يرف له جفن يشرع في قراءة بعض المقاطع المنتقاة بعناية فائقة والتي لا تعدو كونها أحكاما عامة يجدها المرء في دساتير العالم بأسره ولا مجال لأن تتناطح بشأنها عنزتان. في الوقت ذاته، هم يحرصون أشد الحرص على التستر على مربط الفرس، جاعلين بينهم وبين مقاطع أخرى ذات دلالة قاطعة مسافةً كافية، تجنب شفاهَهم ورطة النطق بحقيقتها وتعفيهم هم من الوقوع في موقف صعب لن يستطيعون إزاءه أكثر من محاولة حجب الشمس بالغربال. لو أن مسؤولا في حزب خرج علينا شارحا بأن الدستور المطروح مناسب نسبيا للمرحلة ويسير في الاتجاه الصحيح نحو الديمقراطية الحقيقية، في انتظار الآتي، شريطة ألا يتأخر أكثر من اللازم، لاحترمنا رأيه، وتناقشنا معه، وجادلناه فكرة بفكرة. لكن أن يدعي بأن المشروع قد تجاوز دساتير البلاد المتقدمة، فتلك بلطجة سياسية وفكرية مع سبق الإصرار والترصد، وهي تنم عن سوء نية فاضح ورغبة في التضليل واحتقار لذكاء ومعارف البعض واستغلال جبان لأمية وجهل البعض الآخر، وكل ذلك يتنافى قانونيا مع دور الأحزاب الذي من أجله تُعَانُ ماليا من عرق المغاربة والذي هو حسب علمي تأطير المواطنين وليس الضحك على ذقونهم. غير أن زعماء بعض الأحزاب لا يكذبون وهم يقرون بأن مشروع الدستور قد فاق سقف مطالبهم وتجاوز حدود تطلعاتهم. والحال أن ذلك المشروع لم يفق سقف تلك المطالب سوى لأنها تكاد تلتصق بالأرض، ولم يتجاوز حدود تلك التطلعات سوى لأنها لا تطمح أبعد من المصلحة السياسوية الضيقة والتي بموجبها يتم إجهاض أحلام المواطنين المشروعة في الكرامة والحرية. وتوخيا للحقيقة، نسوق هما بعض المقتضيات والوقائع الدستورية من عدة ملكيات أوربية، بما يظهر الفروق الشاسعة التي على المغرب تداركها إن هو طمع في مقعد ضمن نادي الديمقراطيات الحقة. - فمثلا، حسب الفصلين 47 و48 من الدستور الهولندي، الظهائر الملكية توقع بالعطف من طرف وزير أو أكثر، كلها دون استثناء. يجب التشديد على "دون استثناء" هذه، فمثلا، حتى مرسوم تعيين الوزير الأول نفسه يوقعه هذا الأخير بالعطف، الشيء الذي لا يخلو من رمزية ودلالة ديمقراطية. - في شهر مارس من سنة 1990، صوت البرلمان البلجيكي على قانون يلغي تجريم الإجهاض، لكن بودوين الملك الكاثوليكي امتنع عن التوقيع عليه لأسباب عقائدية، فما كان من مجلس الوزراء إلا أن أعفاه من ممارسة الملك لمدة 36 ساعة (بمقتضى الفصلين 82 و79)، كانت كافية ليتم اعتماد القانون. - للملك السويدي دور بروتوكولي محض، بل يكاده حضوره على رمزيته يتوارى كلية في بعض الحالات. فمثلا، ليس الملك من يعين الوزير الأول في السويد بل رئيس الريكسداغن (أي البرلمان). - رغم أن الملكة البريطانية تعد حامية الملة، وتترأس الكنيسة الأنجليكانية بل وتعين في المناصب الدينية (تبعا لاقتراحات لجن الأساقفة)، إلا أن القوانين السامية البريطانية تعترف بالحقوق الفردية للأشخاص كاملة غير منقوصة، ولا تلجمها بلجام الدين أو الهوية. تلك أمثلة الغرض منها فقط لفت الانتباه، دون الحديث عن الميادين المتعلقة بالأمن والجيش والقضاء وغيره، والتي يبدو جليا أن مشروع الدستور المعروض لن يصمد طويلا أمام أي مقارنة تجرى بخصوصها. المغرب، كباقي الأقطار العربية، يمر بلحظة دقيقة، كشفت فيها كل الأوراق وسقطت فيها كل الأقنعة. الحقيقة هي من سوف ينتصر في النهاية. لا مجال لتزوير الفرح ونشوة الانتصار، انتصار على النفس الخنوعة أولا قبل أن يكون انتصارا على الظلم والاستبداد. إن هذا التسويق للقانون الأسمى الجديد الذي نشهده يخالف الذوق والعصر وحتى بعض مضامين مشروع الدستور نفسه. إنه يعزف على أوتار الخنوع والانبطاح والخوف والطاعة الفجة والسمع المُذل، بدل أن يشكل نقطة الانطلاق لترميم الوجدان الجمعي، مما لحق به من أضرار جسيمة جراء سنوات الرعب الطويلة، أي لإعادة إحياء الكبرياء والإباء والكرامة والنخوة والاعتزاز والفخر. إن بناء المغرب الجديد الذي نتطلع إليه جميعا لن يتأتى فقط بتشييد الطرق السيارة والموانئ الفسيحة والقطارات الأسرع من البرق. أهم ورش هو "إعادة إعمار" كرامة الإنسان المغربي. في عشرينات القرن الماضي، نقل جون كوكتو عن أحد سباكي حروف الطباعة من معارفه، معلومة مفادها أنه إبّان سنوات الاقتتال في أوربا، كثرت الطلبات على علامة التعجب، لدرجة كان يصعب معها تزويد السوق بالكميات الكافية منها. أما مبيعات علامة الاستفهام، فإنها لم تعد للارتفاع كسابق عهدها إلا بعد أن حطت الحرب أوزارها. لا شك أن الطلبات على حروف النون والعين والميم قد بلغت ذروتها عندنا هذه الأيام. بعد أن تحط أوزارَها هذه الحملةُ الصادمة على الدستور والتي هي في الواقع أقرب إلى "شعبانة" استحقاقية منها إلى شيء آخر، هل سيكلف المغاربة أنفسهم عناء طرح الأسئلة الحقيقية الكفيلة بإخراجهم من جب التخلف السياسي الذي يقبعون في غياهبه؟