03 سبتمبر, 2017 - 11:14:00 «في بداية الخمسينات، كنت أذهب كل صباح، رفقة أحمد اليعقوبي، إلى أحد الشواطئ النائية هنا في طنجة. نستلقي تحت أشعة الشمس ويحكي لي قصصا مضحكة للغاية.. كنت أحمل معي دفترا وأترجمها إلى الإنجليزية بأقصى سرعة ممكنة.. وهذا مما كنت احب كثيرا ان اقوم به». هذا الكلام للأديب الأمريكي "بول بولز"، في معرض حديثه عن ذكرياته في طنجة، وكيف كان معجبا بالأدب الشعبي المغربي، واتخذ من الكتابة وسيلة لحفظه من الضياع، والتعريف به في الاوساط الثقافية الانجلوساكسونية الدولية، وبذلك فتح الأبواب الأولى للنجومية العالمية أمام شاب عاطل عن العمل يدعى أحمد اليعقوبي.. كان قد اكتشف موهبة اليعقوبي في هذا النوع من الإبداع عندما التقى به للمرة الأولى في بيت عبد السلام الكثيري في فاس سنة 1947. حينها لم يكن اليعقوبي قد بلغ بعد سن السابعة عشرة، وكان يعيش مع أسرته في المدينة العتيقة، في حي الكدان، حيث كان والده إماماً يمارس التداوي التقليدي. بعدها ستتكرر لقاءَاتهما خلال زيارات أخرى ل«بولز» للعاصمة العلمية، وهذه المرة رفقة زوجته «جون»، التي ستكتشف في أحمد موهبة أخرى، ليست أقل أهمية من الأولى، وهي الرسم، كما جاء على لسانه في هذه الشهادة المعبرة التي نقلتها الكاتبة الأمريكية «ميلسنت ديون»: «في طفولتي كنت أزاول النحت، إلا أن والدي طلب مني أن أتوقف وأبحث عن نشاط آخر لأن نحت الاصنام محرم في الدين. لهذا صرت أرسم بين الفينة والأخرى إلى أن التقيت «جون بولز». هي التي شجعتني على الفن التشكيلي». أهدته أدوات الصباغة، ولكن الأهم أنها نجحت بعد ذلك بأشهر قليلة في إقناع والده بالسماح له بالسفر معهما الى طنجة بحثاً عن آفاق افضل لصقل موهبته. من طنجة إلى أبواب العالمية في طنجة سيقدمه «بولز» لأصدقائه ومعارفه، على المستوى المحلي بدايةً، حيث نظم له معرضاً لأعماله الفنية في مكتبة «غاليمار » (مكتبة «لي كولون» حاليا)، التي كانت بمثابة نادٍ ثقافي يجمع ثلةً من الفنانين والكتاب، على غرار الكاتب محمد شكري، والكاتب والشاعر الفرنسي «جون جوني»، والكاتب الأمريكي «صامويل بيكيت».. وعلى المستوى الدولي رتب له معرضين في أروقة «كلان» في مدريد ومتحف «بيتي برسنز» في نيويورك سنة 1952، عندما كانا في طريقهما إلى العودة من جولة في آسيا وأوروبا وأمريكا استغرقت ستة أشهر، وقادتهما إلى لقاء عدد من الشخصيات الوازنة في عالم الفن التشكيلي أبرزها صاحب المتاحف وجامع الأعمال الفنية الأمريكي الشهير «غوغنهايم»، الذي أغرم بأعمال اليعقوبي واقتنى منهما بعض لوحاته الأولى. وفي الأدب صدرت له في أمريكا في نفس الفترة، عدة قصص، من ترجمة وتقديم وتعليق «بول بولز»، معظمها عن دار النشر «زيرو إيتولوجي»، أشهرها «الرجل والمراة» التي صدرت سنة 1956، و«الرجل الذي رأى الاسماك في المنام تاكل بعضها»، و«اللعبة»، وكذلك «الليلة قبل التفكير» التي ستتحول إلى عرض مسرحي لقي إقبالاً كبيراً في مسارح نيويورك. إن ما يميز فن أحمد اليعقوبي، كما يقول نقاده، أن معظم أعماله الفنية يستلهمها من أعماله الأدبية الخارجة عن المألوف، على غرار الطائر الأسطوري الذي أطلق عليه اسم «الروح البالية». ناهيك أنه نجح في تطوير ما كان يوصف في الأصل بالأسلوب «البدائي»، باستعمال تقنيات مختلفة أضفت على لوحاته طابعا ساحرا ومتميزا. ولعل هذا ما أثار إعجاب فنانين كبار مثل التشكيلي البريطاني «فرانسيس بيكون»، الذي زاره في طنجة، ونسج مع صداقة قوية، وظلا يشتغلان معا، ومن خلاله سيعرض أعماله لأول مرة في لندن في متحف «هانوڤر» سنة 1957، وبعدها في متحف الفنون المعاصرة في نيويورك، وباريس، وساو باولو في البرازيل. الفن والمسرح في أمريكا رغم أن هجرة اليعقوبي إلى أمريكا سنة 1966 مكنته من مواصلة التقدم في مساره بوثيرة أسرع، والإحتكاك أكثر بعالم المثقفين والفنانين والسياسيين، وتوسيع دوائر عروضه حول العالم، حتى بات من الصعب أن نجد اليوم متحفا من المتاحف الكبرى لا يحمل توقيعه، فإن المنعطف الثاني في حياته بعد لقاء «بول بولز» هو لقاؤه بالمسرحية الأمريكية البارزة «إيلين ستيوارت»، الأم الروحية للمسرح التجريبي الأمريكي، منذ السنة الأولى من اقامته في أمريكا، ذلك أنها فتحت له باب مؤسستها «لا ماما كافي» على مصراعيها، ووفرت له وظيفة قارة بصفته مستشارا فنياً في مسرحها الذي كان يأوي نجوما سيطبعون تاريخ المسرح الأمريكي على غرار «روبرت ويلسن»، و«بوب ويلسن» وآخرين. وهناك أيضا سيلتقى سنة 1976 بالفنانة «كارول كانون»، التي طور معها السيناريو للعرض المسرحي المقبس من قصته المعروفة «الليلة قبل التفكير»، وتزوج منها وظلت رفيقة عمره إلى أن وافته المنية بعد صراع مرير مع المرض سنة 1985، ليوارى الثرى في المبقرة الاسلامية في «نيو جيرسي». اللوحة التي بعثت رفات صاحبها في سبتمبر 2009 استيقظ المغاربة على قصاصة ل«لاماب» مفادها أنه «تم دفن رفات الأديب والفنان التشكيلي المغربي، أحمد اليعقوبي، بمقبرة المجاهدين بمدينة طنجة بعد 24 سنة من مواراته الثرى بالمقبرة الإسلامية بمدينة نيويوركالأمريكية»، لافتة إلى أن «نقل الرفات تمت بطلب من عائلة الراحل في البوغاز». وفي المساء بثت القناة الثانية ريبورتاجا عن مراسيم الدفن، ونقلت شهادات موثرة لرفيقه واكريم، مع التنويه بالالتفاتة الملكية إلى الفن التشكيلي.. إلا أن صحيفة «نيويورك بوست» ستقدم رواية أخرى للواقعة سنة 2014، في تغطيتها لجلسة المحكمة التي انعقدت في نيويورك للنظر في دعوى رفعها سنة 2013، ابن اليعقوبي، أو هكذا قدم نفسه، ضد أرملته، «كارول كانون»، التي تنفي أن يكون للراحل ابن في المغرب، مؤكدة أن ابنته الوحيدة كريمة توفيت في لندن سنة 2004، وأنه «ابن مزعوم لم يظهر الا بعد الجنازة الرسمية التي اقيمت في طنجة سنة 2009». وحسب الصحيفة الأمريكية فإن الإبن المفترض «الذي يعمل كمسؤول في الشرطة المغربية، يطالب السيدة كارول بثمن اللوحات التي اتهمها ببيعها على الإنترنت بمبلغ 400 ألف دولار» وهو ما تنفيه نفيا باتاً. وقدر محاميه عدد اللوحات التي بحوزة الأرملة بحوالي 50 لوحة، يفوق ثمن كل منها 50 ألف دولار. وفي خضم هذا الجدل، تضيف الصحيفة الأمريكية «اعترف محامي ابن اليعقوبي بأن السيدة كارول هي التي وهبت للملك محمد السادس واحدة من أهم لوحات زوجها، سنة 2009 مع طلب بنقل رفاته الى طنجة»، وبعدها بأيام صدر قرار الملك بنقل الرفات لكي تدفن في طنجة.. بعد 24 سنة! رحم الله أحمد اليعقوبي وأسكنه فسيح جنانه..