من المنتظر أن يتصل، اليوم أو غدا، رفات الفنان أحمد اليعقوبي إلى المغرب، والذي كان قد توفي منذ سنة 1985 بنيويوركبالولاياتالمتحدةالأمريكية. ويعود قرار نقل رفات المرحوم، حسب مصادرنا، إلى جهات عليا، في إطار رد الاعتبار إلى فنان لعب دورا كبيرا في التعريف بالمغرب، من خلال ما كتب عنه على المستوى الإعلامي في تلك الفترة، ولكونه أيضا رائدا أساسيا من رواد الفن التشكيلي بالمغرب ومن الأوائل الذين عرضوا في العديد من العواصم الدولية. حسب بعض الوثائق التي هي في حوزة الناقد والمفكر المغربي فريد الزاهي، يعد اليعقوبي أول مغربي اختير لكي يكون من ضمن سبعة مفكرين وفنانين وكتاب عالميين في فيلم وثائقي، أنجز عن أكبر الفنانين في القرن العشرين. وقد ولد أحمد إدريس اليعقوبي بمدينة فاس سنة 1932، وتوفي سنة 1985 بنيويورك، وكان المرحوم قد قدم إلى مدينة طنجة في مرحلة شبابه إبان الأربعينيات من القرن العشرين، واستقر بها وبدأ يرتاد الوسط الثقافي العالمي الذي كان متواجدا في طنجة والمتكون آنداك من: بول بولس، ترومان كابوط، وليام باروس، تنيتي وليام وغيرهم. قبل 1950 نظم له إنجليز، كانوا يقيمون في طنجة، معرضا بلندن. وفي سنة 1952 سينظم معرضا تشكيليا في أحد الأروقة المشهورة آنذاك في نيويورك، والذي يحمل اسم «بيتي بارسونز»، ليعرض بعدها في جل الولاياتالأمريكية، وبعدها في مدريد. وعرض في طنجة، وهونكونج وبقاعة المامونية بالرباط التابعة لمصلحة قطاع الآثار، وفي لندن، وفي ريو ديجانيرو، وفي الرباط وفي طنجة من جديد. وبعد 1965 سينظم معارض أخرى بلندن وباريس، مما يكشف عن عالمية هذا الرجل الذي انقطعت أخباره بعد منفاه الاختياري. الفنان محمد لمليحي الذي عايش اليعقوبي لفترة، يحكي أن آخر لقاء كان بينهما يعود إلى أواسط الستينيات حين زاره هذا الأخير في نيويورك، مبرزا أن بول بولس هو من يرجع إليه الفضل في اكتشاف اليعقوبي وتشجيعه على تعاطي الرسم، على غرار مجموعة من الفنانين العصاميين الذين برزوا بفضل احتكاكهم بالأوساط الثقافية الغربية كمحمد لمرابط ومولاي أحمد الإدريسي ومحمد بن علال ومحمد الحمري. ومن الكتاب محمد شكري، وهو ما يعد ظاهرة من وجهة نظره في تلك الفترة. ويقول لمليحي إن الأجواء الثقافية الأنجلوسكسونية التي كانت سائدة في مدينة طنجة آنداك، كانت مفعمة بالبحث عن الغرابة والعوالم الأسطورية التي لم يكن يجدها هؤلاء المثقفون إلا في العوالم الحكائية الشعبية التي يرويها لهم هؤلاء الفنانون الذين كانوا روادا في مجال الحكاية، إضافة إلى العوالم العمرانية وروائح التوابل والعطور التي فتنوا بها، ومنها كانوا يؤثثون فضاءاتهم الروائية، في سعيهم إلى التحرر من عوالم الغرب المادية. وفي هذا السياق، يشير لمليحي إلى أن الفنانين المغاربة الذين اندمجوا في هذا الجو وارتبطوا بالمثقفين الغربيين، كانوا يتبارون في أن يسردوا لهم حكايات وأساطير تنتمي إلى الثقافة الشعبية، ومنها انطلقوا، وبتشجيع من هؤلاء، لتحويلها إلى رسومات، وهو ما سيجعل أعمالهم ومسلكياتهم الاجتماعية المتشبعة بثقافة غربية بدت بعيدة عن الجو العام للثقافة المغربية والمثقفين المغاربة، مستدلا على ذلك بتجربة محمد شكري الذي لم يتم اكتشاف أعماله من طرف المثقفين المغاربة إلا بعد أن ذاع صيته في الغرب، ومن ثمة بدأ الاهتمام بالثقافة الشعبية والشفوية كمكون للثقافة المغربية وكعنصر حي يمكن توظيفه في الأعمال الأدبية. وعن مسار الفنان اليعقوبي بعد نهاية الخمسينيات، يذكر لمليحي أن هذا الأخير وبعد أن خبت حرارة الفترة السابقة بموت بعض المثقفين الغربيين أو تقدمهم في السن، لم يعد اليعقوبي يجد تلك الأجواء الأنجلوسكسونية، كما لم يكن بإمكانه الانسجام مع المغاربة، لأن الناس في تلك الفترة لم يكونوا يعرفون بالعمل الفني، إضافة إلى بعض المشاكل الخاصة كان من أبرزها الحجز على أعماله بقرار من المحكمة، ومداهمة بيته أثناء سفره، على إثر شكاية تقدم بها مالك المنزل الذي كان يقطنه في تلك الفترة، بدعوى عدم أداء اليعقوبي ما بذمته من واجبات الكراء، مشيرا إلى أن لوحاته تم بيعها في المزاد العلني. وفي رأي المليحي، ربما يكون هذا الحدث من أبرز العوامل الأساسية في اختيار اليعقوبي للهجرة نحو أمريكا، خاصة بعد نسجه لعلاقة صداقة مع أمريكية من أصول زنجية كانت تعرفت عليه في طنجة وتبنته بقوة مثل ابنها. وأوضح لمليحي أن هذه السيدة تسمى هلين ستيوارت، وهي لازالت على قيد الحياة وتتوفر على قاعة مسرح في نيويورك مختصة في تقديم العروض المسرحية التجريبية. وختم لمليحي تصريحه ل«المساء» بالقول: «لقد هاجر اليعقوبي محملا بحقيبة من المتخيل المغربي، مخلفا وراءه إرثا ضخما من اللوحات التجريدية السريالية، والتي يجهل مصير أغلبها، كما لا نعرف شيئا عن إنتاجه الإبداعي الذي يمكن أن يكون قد راكمه في بلاد المهجر.. وهناك العديد من الفنانين غادروا البلد ولم نعد نعرف عنهم شيئا»، معتبرا مبادرة نقل رفاته إلى المغرب خطوة إيجابية، ومتمنيا أن تقوم الجهات المعنية بالبحث ورصد أهم أعماله من أجل اقتنائها وتجميعها لوضعها في المتحف الوطني. من جهته أكد الباحث والمفكر فريد الزاهي، ما جاء على لسان لمليحي، معتبرا أن ما نعرفه عن أعمال اليعقوبي يعد قليلا جدا مقارنة مع عدد المعارض التي نظمها في المغرب وفي الخارج الذي كان له فيه السبق على هذا المستوى، مذكرا بحادثة طريفة وقعت له صحبة محمد لمليحي حين كانوا يهمون بتنظيم معرض لرواد الفن التشكيلي في المغرب في إطار مهرجان موسم أصيلة، فبحثوا عن أعمال أحمد اليعقوبي ولم يجدوا غير أربع لوحات كان يحتفظ بها صاحب دكان في مدينة طنجة اسمه ابرهيم كان صديقا للمرحوم. وفي نظر الزاهي فإن اليعقوبي يعد مدخلا للفن التجريدي في المغرب، حتى وإن كان البعض يعتبر أن انطلاقة هذه المدرسة كانت مع الغرباوي، حيث يشكل الأول في رأيه تلك الحلقة المفقودة ما بين التجريد والتشخيص في المغرب. وعلى ضوء المتوفر من الأعمال التي عاينها الزاهي يرى أنها تتميز بالغرائبية وتضمين الحكاية الشفهية، وتغيب عن ألوانها التباينات، حيث يتلاشى الأزرق في الأزرق، والأخضر في الأخضر.. مع اعتماده على الكثافة التعبيرية وتداخل مجموعة من العناصر. ومن وجهته فهو يقترب فنيا من أحرضان، غير أن ما يتفرد به اليعقوبي في سياق هذه المقارنة يتمثل في الكثافة وغياب الخطوط، فالأشكال تأتي مندمجة مع بعضها في النسيج العام للوحة، في حين تبرز الأشكال لدى أحرضان بشكل واضح: أظافر، مخالب.. ويعتبر أن أعمال اليعقوبي تستمد كثافتها التعبيرية من السريالية والتعبيرية، كثافة تحجب النور الذي يظل مجرد ثقوب نور، وألوانها وإن كانت صريحة، فإن الاشتغال عليها واضح جلي، في إطار اشتغال اليعقوبي على المادة على غرار كوكتو. ومن خلال اللوحات التي سبق للزاهي أن شاهدها والمنجزة بالصباغة الزيتية أو الإكليريك، يستنتج أن اليعقوبي لم يكن فنانا فطريا مثله في ذلك مثل المرابط، لكونهما كانا على دراية ومعرفة بتقنيات الفن التشكيلي. ومن ضمن ما كتب عنه في نهاية الخمسينيات حسب فريد بلكاهية: «أعماله: حكاية أحلامه، ذات طابع سريالي، حلمي، فنتازي، كان صديقا لأكبر الفنانين التعبيريين (فرنسيس بيكون) وهو فنان إنجليزي. وتساءل فريد بدوره عن مصير أعماله خاصة تلك التي حجزت من قبل المحكمة وتم بيعها في المزاد؟ سعت «المساء» إلى أن تعزز هذا المقال بشهادة من ابن المرحوم سفيان اليعقوبي الذي يشتغل في سلك الأمن، خاصة في ما يتعلق بالإرث الفني لأعمال والده والتي قد يكون خلفها في نيويورك وإلى معرفة مكان الدفن وتوقيته أيضا، غير أنه أقفل الهاتف، فعاودنا به الاتصال لكنه لم يكن يرد على المكالمة، كما لم نتمكن من الاتصال بأحد أصدقائه المقيمين بنيويورك على هاتفه الخاص، الممثل المسرحي حسن واكريم، والذي ظل على علاقة دائمة بالمرحوم من جهة وبهلين ستيوار من جهة أخرى.