الدستور الممنوح أم الدستور الديمقراطي تقديم : لقد عرف المغرب تجارب دستورية منذ 1908 الدستور المجهض بفعل تدخل الاستعمار الذي كرس استمرارية السلطة المخزنية مع إخضاعها للسلطة العسكرية للإقامة العامة ، و جعلها في خدمتها و خدمة مصالح الدولة الاستعمارية الإقتصادية بالدرجة الاولى ( حكم الأهالي بواسطة الأهالي) و عند بداية الخمسينات و مع تصاعد النضال التحرري الوطني المطالب بالاستقلال في عدة دول خاضعة للإمبريالية الفرنسية و الاسبانية ( في المغرب : المقاومة و جيش التحرير) ، غيرت الدول الكولونيالية خططها و بدأت في التهييئ لإجهاض تطلع الشعوب إلى بناء الدولة الوطنية الديمقراطية المستقلة من خلال العمل على تهييء شروط إنتقال سلس ( اسقلال شكلي كما سماه الشهيد بنبركة ) من خلال مفاوضات سرية معروفة ( إيكس ليبان و لاسيل سان كلو ) يسمح باستمرار التبعية السياسية و الاقتصادية للإمبريالية و في مقدمتها الفرنسية و مدخله الحفاظ على البنيات المخزنية القائمة و ذات العمق التسلطي التاريخي ، و هكذا و مباشرة بعد 1956 سيدخل المغرب صراعا مفتوحا بين الكتلة الطبقية السائدة و القوى التقدمية الجذرية التي تشكلت و تطورت تنظيماتها و أطروحاتها من خلال الصراع الطبقي الذي شكل الدستور و القوانين الميدان المركزي فيه للصراع ( و هو الجزء المهم و الحاسم في البناء الفوقي للدولة ) لهذا سيعرف المغرب عدة مراحل لهذا الصراع كالتالي : مرحلة الفراغ الدستوري ( 1956 – 1961 ) : الصراع من أجل حسم السلطة و إعادة هيكلة الكتلة الطبقية السائدة و أجهزة الدولة المخزنية التي كان من مداخلها تأجيل صياغة الدستور عن طريق مجلس تأسيسي مرحلة الدساتير الممنوحة منذ دستور 1962 الممنوح إلى دستور 1996 الممنوح كذلك مرورا بتعديلات دستورية أغلبها كان يعزز المزيد من الصلاحيات لصالح المؤسسة الملكية و يضيف بعض الصياغات الجزئية التي تسمح بالتأويل بأن الدستور يتضمن مكتسبات لصالح قوى المعارضة و ذلك في إطار سياسي سمي " المسلسل الديمقراطي" أو "الديمقراطية الممنوحة بالتدريج! " . ما هي المنهجيات التي تسمح بتغيير الدستور : إن منهجية تغيير الدساتير تختلف من سياق سياسي و تاريخي إلى أخر و ترتهن في العموم بموازين القوى الطبقية و السياسية للحركات السياسية المتصارعة ، و بمدى تقدير و إدراك الحاكمين أن الإستمرار في مناهضة التطلعات الشعبية قد يؤدي إلى نقطة اللارجوع أي فقدان الحاكمين لكل شرعية و تصبح أنذاك الأليات التوافقية غير ذي جدوى ، لذا يمكن الكلام عموما على منهجيتين رئيسييتين : المنهجية الغير الديمقراطية : إن المنهجية الغير الديمقراطية تكون من خلال منح دستور يصوغه الحاكم ، أو لجنة تابعة له يعينها ، و يقوم بعرض هذا الدستور على استفتاء يفتقد إلى المشروعية ، كما قد يعتمد على الإشراك الجزئي و الشكلي لبعض القوى التي يأتمن على ولائها أو التي لا تشكل قوة إعتراضية في المجتمع مما يجعل هذا النوع من الدساتير فاقد للشرعية الشعبية ، و فاقد لإرادة حقيقية في إقرارالديمقراطية . المنهجية الديمقراطية : هي انعكاس لتحولات جذرية في المجتمع ، قد تنبثق عن الشرعية الثورية حيث يتم إسقاط الحاكم المستبد و تقوم قوى الثورة بوضع مجلس تأسيسي هدفه إرجاع السيادة للشعب من خلال منهجية صياغة الدستور ( مجلس تأسيسي منتخب ) ومن خلال المضامين الديمقراطية له ، و قد تنبثق من توافق طبقي ناتج عن إختلال ميزان القوة لصالح القوى الديمقراطية يسمح بالية توافقية بين نظام الحكم القائم و القوى الديمقراطية تقوم على إشراك كل القوى الإجتماعية و السياسية بدون إقصاء في صياغة مشروع دستوري يعكس مضامين ديمقراطية حقيقية تجعل الشعب مصدر السيادة الحقيقي و الكامل . الحالة المغربية : ما هي الاسباب و الدواعي التي تفرض إنبثاق الدستور من المجلس التأسيسي المنتخب : كل الدساتير التي عرفها المغرب منذ 1962 إلى اليوم كانت ممنوحة ، و أشرفت على صياغتها لجان ملكية سرية أو شبه علنية ، و لم تفضي رغم الوعود و الخطابات إلى ديمقراطية حقيقية ، مما يعني إنطلاقا من تقييم عمل هذه اللجان : أنه سيكون من السخافة مرة أخرى الرهان على لجان وضعها نظام غير ديمقراطي و له سوابق في الديماغوجية الدستورية أن تنبثق عن دستوره الممنوح ديمقراطية حقيقية ترضي الشعب و مكوناته الحقيقية لا المصطنعة . الأحزاب السياسية في البرلمان لا تمثل الشعب و لا أغلبيته ، و هناك شبه قطيعة بينها و بين واقع الجسم الإجتماعي و رغم براعة المخزن في صناعة أحزاب الولاء و الإكثار منها لإغراق المجتمع بتعدد شكلية و بروباغاندية لتزيين الواجهة ، إلا أن نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة لم تتعدى 20 / . و طبيعة هذه الأحزاب الخنوعة و تركيبتها السوسيولوجية من مافيا المال و العقار و بعض السياسيين و صلاحية البرلمان المنعدمة تجعله مجلسا لا يشكل مصدرا للشرعية التشريعية أو الية لصياغة مشروع دستور ديمقراطي. لا مسؤولية الحاكمين المتصاعدة ، و فقدان الشعب و مكوناته الرئيسية الثقة في كل خطابات الحكم حول الإصلاحات التي تعود في كل مرة بإعادة إنتاج صيغ جديدة للملكية التنفيذية . جميع الانتخابات التي تلت الدساتير الممنوحة كانت مزورة و نتائجها مزورة ( مع الابداع كل مرة في تقنيات جديدة لتزوير الإرادة الشعبية بعد انفضاح الأساليب التقليدية ) و الخريطة الانتخابية أعدت لمنح مناصب و إمتيازات للأحزاب التي يرضى المخزن على وظيفتها في إعادة إنتاج الولاء و الخضوع . الانتخابات لا تساهم في تغيير واقع الشعب ، لأنها مزورة ، و لأن المنتخبين لا سلطة حقيقية لهم ، و بالتالي يبقى واقع الشعب لا يتغير بل يزداد سوءا . و أمام الأزمة الإجتماعية و تزايد معدلات الفقر و البطالة و الفوارق الإجتماعية و الطبقية و نهب الثروات الوطنية و المال العام بلا رقيب أو حسيب ، تبقى هذه المؤسسات عاجزة و لا دور لها في إيقاف الفساد المستشري . كما لا تحس القوى المنتخبة بان لها حساب يجب أن تقدمه للشعب و المنتخبين لأنها جزء بنيوي من الفساد العام . الخرائط الانتخابية و نمط الإقتراع مهندس بطريقة مخزنية لا تسمح بالوصول إلى الأجهزة السلطوية إلا للنخب و الأعيان المختارة ، و لا يسمح بتداول أحزاب حقيقية على السلطة و لا بتمثيلية محترمة و سلط كفيلة بتنفيذ البرامج السياسية ، فالمخزن بقي يصنع و يعيد صناعة نخبه بالمال العام و تهميش و قمع كل معارضة ديمقراطية جذرية . الأحزاب الحقيقية تتعرض للتهميش ، أو تتعرض للتدجين و إخضاعها لتوافقات سياسية جوهرية تدفعها إذا أرادت أن تستفيد من نصيب من خريطة المناصب و الامتيازات الممنوحة أن تغير طبيعتها السياسية و تفرغ برنامجها السياسي من أي محتوى ديمقراطي حقيقي . الحاكمون لا يستمعون لمطالب و نضالات المجتمع المدني المستقل ، و هم في حقيقة امرهم لا يقبلون إلا بجمعيات و مجتمع مدني خاضع و هامشي يلعب ضمن المربع المرسوم و وفق الخطوط الحمراء التي يضعها الحاكمون ، و حيوية المجتمع الحقوقي و المدني تبرز من خلال مختلف المظاهرات التي تقطع مكانا المغرب طولا و عرضا وزمانا يوما يوما و شهرا شهرا و سنة سنة .إن الحاكمين يرون في بعض أوجه هذا الحراك مجرد زينة و برهان يستدلون به على "ديمقراطية الواجهة" . المؤسسات القائمة و القائمين عليها : عاجزة و عاجزين عن حماية الشعب من الاستبداد و الفساد الكبير و الصغير و الفوارق الاجتماعية و البؤس و الرشوة و الشطط في استعمال السلطة و نهب المال العام ، و إهانة كرامة المواطنين ، و لا قادرين على تحقيق مؤشرات محترمة للتنمية بالمعايير الكونية . الحياة المدنية و السياسية شبه منعدمة ، النقاشات السياسية العمومية شبه محرمة ، أكثر مما كانت في الثمانينات و التسعينات ، منع الأحزاب السياسية الطبيعية من القاعات العمومية ، تفقير و تهميش الاحزاب المعارضة الجذرية ، جعل الأحزاب الموالية تستفيد من المال العام بطرق مباشرة أو غير مباشرة مع غض الطرف عن تحويلها لعمولات مالية من المال العام إلى أحزابها... إن عدم السماح للنقاش العمومي و الخوف من المعارضة الديمقراطية الحقيقية و تغييب النقاش العمومي حول قضايا الشعب الحقيقية و خلق نقاش عمومي زائف FAUTS DEBATS بمشاركين زائفين FAUTS PARTICIPANTS لا قيمة سياسية لمداخلاتهم . مما دفع بفئات الشعب و الشباب إلى البحث عن مصادر أخرى للتواصل و الإعلام تسمح بالمشاركة و التنوير . إنتشار ثقافة الاحتقار و الكره للسياسة إنطلاقا من الصورة التي يقدم فيها سياسيون مدجنون يقدمون نفسهم ككراكيز و بروبغانديست متخلفين مما يدل على بلادة الاخراج السياسي للحاكمين ، و يؤدي إلى استخفاف الشباب بالمشهد السياسي المصنوع و بفاعليه . الممارسة الحكومية التي من المفترض نظريا على الاقل أو رسميا كما يروج لها في الخطابات الرسمية أن تكون في خدمة المصلحة العامة تتحول إلى خدمة المصالح الخاصة و العائلية و خلفية لخدمة المصالح الطبقية للبورجوازية المتعفنة الداخلية و الخارجية . إن الديمقراطية بمفهومها الشائع : " حكم الشعب بواسطة الشعب و من أجل الشعب " تتحول إلى وهم و أضحوكة يتنكت بها العموم . لذا فإن تغييرات عميقة مطلوبة أكثر من تمثيليات شكلية لا قيمة لها . اختزال المواطنة فيما يصطلح عليه ب" الديمقراطية المحلية" / الانتخابات الجماعية و إسالة لعاب النخب و الأعيان حول ما يمكن أن تقدمه لهم "الديمقراطية الجهوية" المفترضة / الجهوية الموسعة من مناصب و إمتيازات. و الإقتصار على القضايا الميكروسكوبية المتعلقة بما يسمى "سياسة القرب" ( طرق – كهرباء – ماء...) مما يخفي فقدان السلطة الحقيقية للمواطنين على القضايا السياسية الكبرى ( ميزانيات الدولة – السياسات الإجتماعية – السياسة الخارجية – السياسة العسكرية و الأمنية – السلط و الدستور و القوانين – الإختيارات السياسية الكبرى – توزيع عائدات الثروة الوطنية – انتخاب من يحكم و يسير البلاد – اليات المحاسبة -...) إنه ببساطة حرمان كلي للشعب في السيادة . انعدام إستقلالية السلط : الملك يحتكر جميع السلط ، الحكومة لا تحكم ، البرلمان لا يشرع ، القضاء غير عادل و غير مستقل و غير نزيه ، سيطرة التنفيذي على التشريعي... المراجعة الأخيرة للدستور الممنوح لسنة 1996 و التي روج لها كمدخل للإصلاح السياسي و صوت عليها بعض الأحزاب و في مقدمتها حزب الإتحاد الاشتراكي ب"نعم" السياسية بدعوى إعطاء إشارات للمخزن قد تسمح بالتناوب و الانتقال الديمقراطي ، أعطت لنا بعد 15 سنة خطابات رسمية حول " أهمية الملكية التنفيذية " و حول "الشعب ليس مؤهل أو ليس مؤهل كفاية للديمقراطية" مما يتطلب صيغة جديدة عنوانها " الملكية التنفيذية في صيغة الملكية البرلمانية" و هي من أغرب الصيغ عن الفقه الدستوري العالمي ، مما يجعل " اللجان الملكية لتعديل الدستور" و طبيعتها الممنوحة تؤكد عجزها البنيوي عن الخروج بدستور ديمقراطي حقيقي يعكس تطلعات الشعب المغربي و قواه الديمقراطية الحية . إن المجلس التأسيسي له مهمة إعادة تعريف المؤسسات و قواعد العمل السياسي بطريقة مفتوحة و شفافة من خلال الإعلام العمومي ( المحرر من الإحتكار المخزني ) ومن خلال مختلف اليات التواصل العمومي مع المواطنين ، و أخذ الوقت اللازم للنقاش و التوضيح للشعب لأن الدستور يرسم فترة طويلة نسبيا من حياة الشعب و يحدد مصيره ، و هذا ما يسمح بتربية الشعب على ممارسة السيادة الواعية على مؤسسات السلطة العمومية ، و يسمح بوضع المبادئ المؤسسة للحياة السياسية الديمقراطية. في الوضعية الحالية فإن الشعب " كجماعة سياسية للمواطنات و المواطنين الأحرار" لا يمكن أن يمارس سيادته الكاملة من خلال " اللجنة الملكية لتعديل الدستور" أولا : لأن ممثلي الشعب غير موجودين في اللجنة . ثانيا : لأن غرف الإنصات و منهجيتها في الأشراك الشكلي بل و الإحتقاري للأحزاب و النقابات و الجمعيات المستمع إليها لن تفضي إلى مشاركة شعبية و ديمقراطية في صياغة الدستور . ثالثا : لأن هناك قوى سياسية و اجتماعية فاعلة و مؤثرة في المجتمع غير متفقة مع المنهجية الممنوحة و غير مشاركة فيها . رابعا : لأن التعديلات الدستورية مسيجة بالنقاط المحدد في خطاب الملك ل 09 مارس ، و بالتوجيهات المباشرة أو المشفرة للجنة الملكية التي تعرف كيفية تصريفها ، لهذا فالقوى الديمقراطية المعارضة لهذه الالية تريد وضع الشعب و قواه الديمقراطية الحقيقية في قلب السلطة التأسيسية و ليس على هامشها. إن أهمية المجلس التأسيسي تسمح بإعادة بناء قواعد العمل السياسي منذ الإستقلال الشكلي إلى اليوم مما قد يسمح بولوج المغرب لمرحلة جديدة من الديمقراطية الغير متنازع حولها أو حول قضاياها المركزية ( مصدر جميع السلط هو الشعب – المواطنة الكاملة الغير منقوصة للمواطنات و المواطنين – حكومة مسؤولة مسؤولية كاملة أمام الشعب و ممثليه – برلمان يحضى بالسلطة التشريعية الكاملة – قضاء مستقل و نزيه – اليات قانونية لمحاسبة كافة المسؤولين و إقرار لعدم الإفلات من العقاب – حق الشعب و مكوناته السياسية في مناقشة شكل الحكم و مضمونه...) الدستور الحالي المقدم بشكل رسمي يوم 17 يونيو و المنبثق عن لجنة ملكية و مضامينه قد أكد بأن " الملكية التنفيذية " هي قلب الدستور و يؤكد لمن في حاجة إلى تأكيد على أن المرحلة تتطلب الحسم مع الأطروحات المراهنة على الدساتير الممنوحة التي لم تقدم لهذا الشعب سوى التأخير الكبيرالزمني و التاريخي لإمكانية التغيير الديمقراطي الحقيقي ، و إعادة إنتاج صيغة الملكية التنفيذية في حلة جديدة تضمن هيمنة الكتلة الطبقية السائدة على الحقل السياسي ثم الإقتصادي . على سبيل الخلاصة : إن الفلسفة التي أنتجت الثورات العربية ، و التي تأطرت بها الأرضية التأسيسية لحركة 20 فبرايرفي المغرب منبثقة أساسا من مرور الشعوب العربية والمغاربية بمختلف المراهنات على إمكانية الإصلاح أو التغيير إنطلاقا من مبادرات فوقية يعقوبية أو كواليس بعض الأحزاب مع الحكم ، و وصول هذه الرهانات إلى الباب المسدود نظرا لإستنفاذ كل أساليب التضليل التي يلجأ إليها الحاكمون ، لذا فأن هذه الثورات العربية و كذا الحركة النضالية المغربية المنبثقة عن وصول كل هذه الرهانات إلى عنق الزجاجة منذ 20 فبراير تفرض الإنتباه إلى أن الرهان الحقيقي اليوم يكمن في أن المدخل الحقيقي هو الرهان على التغيير الديمقراطي بواسطة الجماهير الشعبية و من أجلها و ان الدساتير الممنوحة لن تساهم إلا في المزيد من تأخير كل تغيير ديمقراطي حقيقي في البلاد . 17 يونيو 2011