في ما يشبه الرّد على أنصار حماية اللغة العربية على حساب اللغة الأمازيغية إن الحديث عن دسترة اللغة الأمازيغية اليوم باعتبارها لغة رسمية للمغرب يكتسي دلالات عميقة، خصوصا في سيّاق التطورات السياسية والاجتماعية والفكرية التي تعيش بلدان شمال إفريقيا وبلدان الشرق الأوسط على إيقاعها. وأن أولى هذه الدلالات تتلخّص بشكل عام في ما أسماه الأستاذ والباحث المغربي عبد المجيد القدوري بإشكالية التجاوز وهو يتحدث عن علاقة المغرب بأروبا ما بين القرن 16 و18 الميلادي. فهي فعلا تجاوزٌ منذ مدة ليست بالهينة، لكنها الآن أضحت بادية لكل المواطنين المغاربة وكل ديموقراطيي العالم بشكل أصبح لا يقبل الجدل أمام مواقف مجموعة من التنظيمات الحزبية والمدنية تجاه رسميّة اللغة الأمازيغية في مشروع دستور مغرب المستقبل بغضّ النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا حول طريقة تشكيل اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور الحالي، والأفق الذي وضع أمامها وهي تشتغل. فضلا عما أُثير بخصوص مواقف بعض أعضاء هذه اللجنة من بعض القضايا الوطنية والديموقراطية وحقوق الإنسان ببلادنا. فحينما يتحدث الأستاذ موسى الشامي باعتباره رئيساً للجمعية المغربية لحماية اللغة العربية عن اللغة الأمازيغية بتلك الطريقة الفجّة التي لا يمكن أن يُقنع بها حتى أولئك الذين يتعصّبون لمشروع القومية العربية في شمال إفريقيا، فما بالك بإقناع المواطنين المغاربة الذين عبّروا عن تعاطيهم العقلاني، التعددي والديموقراطي تجاه الموارد اللغوية والثقافية المغربية في إطار دينامية حركة 20 فبراير الشبابية. حينما أقول إن مغرب اليوم يعيش مرحلة التجاوز تجاه المنظومة الفكرية التي يتبناها الأستاذ الجامعي موسى الشامي وكل الذين يُحاولون إقناع أفراد تنظيماتهم بضرورة إعمال منطق المُفاضلة والتمييز المعياري في الحديث عن دسترة اللغتين العربية والأمازيغية في الدستور المقبل، فإنه فعلا يضعون أنفسهم خارج حركة التاريخ الديموقراطي الذي تعمل أغلب فئات الشعب المغربي في اللّحظة الحضارية الراهنة على بناءه وتسطير ملامحه في أفق تثبيت دعائمه وتفكيك تفاصيل المنظومة المذهبية والإيديولوجية التي تحوي الاستبداد بكل أبعاده. فهم يحاولون ويناضلون، أشبه ما يكون من نضال على الطريقة السّيزيفية، من أجل أن تكون للغة العربية مرتبة الرسمية مقابل أن تكون للغة الأمازيغية مرتبة الوطنية، أي إعادة إنتاج الحيف والتمييز ودسترته في الوقت الذي يطالب الجميع بدسترة الحق والعدل والمساواة. وهذه النظرة تخفي وراءها فكرة الاستعلاء الذي حاول العرب وإيديولوجييهم فرضها على بقية الشعوب والأقوام العجمية وترجمتها على المستوى العسكري والسياسي إبان فترة الغزوات التي تلت المراحل الأولى لظهور الإسلام. وهو ما لم يعد له مكان في المجتمعات الحديثة حيث تطور البنيات الفكرية ونزوع بني البشر نحو الخروج من قبضة كل هيمنة. كما أن الإفتاء على الطريقة الشامية في شؤون اللغة والثقافة الأمازيغيتين وهو لا يفقه شيئا بما يُعتمل داخل أوراشها المفتوحة وبمستوى تطورها أكاديميا ليس أقل استخفاف بذكاء المغاربة أجمعين، تماما هي المكانة التي سأجد فيها نفسي وأنا اليوم أُقرر دون علم مني بأدنى أبجديات اللغة الكردية بمصيرها وبمصير أهلها مثلا. وأنا أتابع برنامج "مباشرة معكم" ليوم 20 أبريل 2011 الذي يتزامن مع الذكرى 31 لانطلاق شرارة الربيع الأمازيغي بمنطقة القبايل سنة 1980 والذي ساهم ويساهم في بناء ملامح شمال إفريقيّ جديدٍ بدأ في التشكّل، أجد نفسي في لحظة تذكرني بقصة أهل الكهف الذين وجدوا أنفسهم في عالم لم يعد يقبل بعملتهم القديمة ولا حتى بدار صناعة هذه العملة وطرق توزيعها التي لم تعد تصلح لمغرب اليوم من دون تجديدها وتكييفها مع معطيات العصر بما يتلاءم مع مبدأ الحق والمساواة ضدا على منظومة الواحد الأحد التي لا يوجد في هذا العالم من سيقبل بما تتيحه من إعادة إنتاج الحيف والحرمان واللاتكافؤ بين مواطني البلد الواحد. هي إذن معضلة التجاوز التي يُعاني منها أنصار حماية المنظومة القيمية والفلسفية والمذهبية التي بُني عليها المشروع القومي العربي، والتي اقتنع العرب أنفسهم بضرورة إعادة النظر فيها جذريا بما يتلاءم مع معطيات العصر من جهة واقتناع البعض منهم بحتمية العيش المشترك مع العجم واستنشاق نسيم الحرية في الرقعة الجغرافية التي يتقاسمونها جميعا من جهة أخرى. أما الأستاذ فؤاد بوعلي الذي تحدث في إحدى مقالاته عما أسماه باللغة بين المواطنة والتشظي، فقد تبيّن من خلال تحليله أن اللغة العربية بالنسبة إليه تشكّل اللُّحمة التي تشدّ وصال المغاربة مع إغفاله، أو ربما استغفاله، أن العربية نفسها ما هي إلا لغة فرضها قانون المنتصرين والإيديولوجيا السياسة المُهيمنة لأسباب تاريخية متداخلة لا يتسع المجال للخوض فيها في هذه المقالة. ولست أدري ما إن كان الأستاذ بوعلي يريد أن يعيش المغاربة درجات متفاوتة من المواطنة يحظى فيها البعض بالدرجة الأولى والبعض الآخر بالدرجة الثانية... وربما البعض الآخر بالدرجة التي يجد نفسه مُرغماً بالعيش فيها. . وحينما نطّلع على مقترحات بعض الأحزاب السياسية نجدها تتشبث بالأساس الديموقراطي والحقوقي للوثيقة الدستورية المقبلة دون أن تكون لها الشجاعة السياسية للتعبير عن الإيمان بمبدأ الحق والمساواة الذي يُعدّ الأساس المفصلي في ثقافة حقوق الإنسان عموما. فإذا لم نعترف باللغة والهوية الأمازيغيتين تماما كما هو الأمر بالنسبة للغة العربية في دستور البلاد على قدم المساواة، وهي فقط جزء من الحقوق الأساسية للشعب المغربي، فإنه بات مشكوكا بالنسبة للعقلاء في صحة تشبث هذه المجموعات السياسية والمدنية بفكرة حقوق الإنسان نفسها. ويُعبّر بالتالي إما عن قصورهم في إدراك فكرة حق الإنسان في شموليتها دون تجزئ أو محاولة إتقان فن المراوغة والظهور بمظهر حراس صنهم الوحدة الهلامي القائم على أسس هشة مبنية على نزوعات عرقية- دينية ضمنت استمرارهم في الهيمنة والسلطة والنفوذ، وباتت هذه الفرضية اليوم غير ذات جدوى أمام اقتناع المغاربة وكل الديموقراطيين حقيقة بِكُنه فكرة التعدد وفضائلها. فقد سبق للباحث اللبناني أمين معلوف أن تحدث عن المزالق النفس-اجتماعية التي يحدثها إقصاء كل مكون من مكونات الهوية الاجتماعية لكل بلد، لأن ذلك ستترتب عنه تداعيات ومزالق سياسية من الصعب التكهّن بمآلاتها سواء في المدى القريب أو المتوسط. ولا شيء أخطر من محاولة قطع حبل السُّرّة الذي يربط الإنسان بلغته، يقول معلوف. ودائما في إطار موضوع رسمية اللغة الأمازيغية وبعض المواقف الصادرة عن بعض التيارات الفكرية التي لا تكترث لمطالب الشعب المُعبّر عنها في إطار حركة 20 فبراير، لا ينبغي الإبقاء رهينة فكرة الاستلهام والاقتداء ببعض تجارب الشرق الأوسط والأدنى وغيرهما، والتي لم تسفر عن اندلاع المشاكل الناتجة عن سوء تدبير قضايا الهوية والثقافة، أو ليس بعد، لكن تطور التاريخ بدأ يُطلعنا على أن هذه الأنظمة والدول إنما أرست استقرارها النسبي والمرحلي على القمع والطغيان والتطهير بناء على منظومة التأحيد القسري. فإما أن تكون من مُكوّن أو مُكوّنات هُوية الدولة والنظام القائمَيْن، طبعا المبني على الأحادية الثقافية والمذهبية، أو أنك محكوم عليك إما بقبول الانصهار والذوبان أو الموت أو هجران البلد. وفي كل الحالات فهي امتداد من امتدادات الموت في نهاية المطاف. والمطلوب هو التعاطي الجدي مع الرأسمال الثقافي واللغوي لكل بلد وتدبيره بطرق عقلانية وديموقراطية ومحاولة استثماره لبدء إقلاع اقتصادي واجتماعي يُعيد الاعتبار لمكانة المجتمع برمته، ويُصحّح بالتالي مساره الحضاري الذي بيّن التاريخ عدم صحة السكة التي وُضع فيها، والإقرار بذلك في كل المؤسسات والقوانين والأطر التنظيمية المُهيكلة لها دون أي مركب نقص لدى الدولة والمجموعات السياسية والنخب الفكرية. وتلك هي المنطلقات الأولى للدمقرطة الثقافية واللغوية حتى لا نجد أنفسنا بعد 20 أو 30 سنة من الآن في وضع اجتماعي وسياسي يقضّ مضجعنا جميعا ونحن المسؤولين عن صناعته بما نتّخذه من قرارات وتدابير غير مُتبصّرة في الزمن الراهن.