مطلب إسقاط الفساد في المغرب ،ليس فقط شعارا يرفع في المسيرات من أجل الاستهلاك الإعلامي، وليس موضة سوسيو-سياسية يقتضيها الحراك الذي تعرفه عدة مجتمعات عربية ،وليس دليلا على ثقافة انتقامية ،بل هو صرخة جماعية واعية و مدوية ،صادرة عن شرائح واسعة عن المجتمع تنذر وتشير إلى أن هذا الورم الذي اسمه الفساد انتشر على نطاق شاسع وتغلغل في مفاصل الدولة وتجذر في المؤسسات ،وتحول على مدي عقود من الزمن إلى ثقافة وممارسات دمرت وتدمر نظام القيم المنتجة والمواطنة ،وخلقت استيهامات وقناعات شاذة داخل المجتمع ،وشجعت على الفردانية والانتهازية والمحسوبية والقبول بالإذلال ،ونسفت كل المعايير المعتمدة في التدبير الرشيد والجيد والعقلاني للمؤسسات ،ليفتح الطريق في وجه جحافل الرداءة والتسطيح والشعبوية ،والشبكات الأسرية ،وعلاقات القرب من الحكم ومراكز صناعة القرار، والمصاهرات والجلسات الحميمة، والنفاق الاجتماعي ،والكذب السياسي و التزوير وشراء الذمم ،وصناعة أساطير وهمية في أكثر من قطاع ،وتحويل الرشوة إلى نظام اجتماعي مقبول ،لا يثير حرجا لدى الناس،والجري وراء المال مهما كانت لا أخلاقية وعدم شرعية المسالك المؤدية إليه . أي ،أن الفساد خرب المجتمع والدولة ونخر سوسه النفوس والعقول، ونهش كل شيء إيجابي وجميل وإنساني. من المؤلم جدا،أن يتحول الفاسد إلى نموذج اجتماعي وسياسي واقتصادي وإعلامي ،ومن المفارقات المستفزة للعقل الجماعي والأخلاقي ،هو أن يتمتع الفاسد في المغرب ، بكل الشروط التي تحصنه وتحميه، وتضعه في مكان آمن لايمتد إليه قانون ولامحاسبة ومساءلة ،وهذا ماجعل العديد من المسؤولين يتحولون خلال بضع سنوات إلى ديناصورات مالية وعقارية وإدارية ،تتحكم في دواليب الاقتصاد والسياسة والإعلام ،ودفعها هذا الوضع إلى تحديد نوعية النخب التي يحتاج إليها المغرب ،لبناء ما يسمى ب"المجتمع الحداثي الديمقراطي" وراحت تبعا لذلك، تفصل وتخيط وتهندس وترسم الخرائط ، وتقترح وتعين الأصدقاء والأوفياء والأصهار والأبناء النجباء في المراكز الحساسة للدولة ،وتضع لهم دفاتر تحملات متشابهة ومشتركة ،هدفها المركزي رعاية الفساد وحماية المفسدين . الفساد هو شقيق الاستبداد ،وهما من سلالة واحدة ،فحيثما يوجد الفساد ،يستوطن الاستبداد ويوطد دعائمه ،لأن نهب المال العام وسرقة ثروات البلاد أمام أنظار الجميع وضدا على كل القوانين، ،وإغداق الامتيازات على بعض المغاربة المصنفين ضمن الدرجة الأولى من "المواطنة"،هو قرار سياسي لترسيخ دولة الريع ومجتمع الدولة "و المثير للانتباه هو أن أغلب هؤلاء مزدوج الجنسية أو متزوج بأجنبية ،ومع ذلك فهم هنا بالمرصاد لرهن مصير ومستقبل باقي المغاربة ،وليحكموا عليهم بالفقر والذل مدى الحياة . من الطبيعي أن يشعر المفسد المحمي بسلطة من السلط ، والمحصن ضد عين القانون ، والمتحرر من الملاحقة والمحاسبة ،بالغرور والعجرفة والسلطة المطلقة ،و بجنون العظمة ،وبالاستثناء في كل شيء ،في طريقة التفكير والتدبير والكلام واللباس والأكل والشرب والمشي والنوم وحتى في قضاء الحاجيات ا المرتبطة بوظائف الجسم .وتأسيسا على ذلك فإنه ينظر إلى عموم الشعب ،على أنهم ،كلفوا منذ الأزل بخدمته وبالولاء له، وأن تحركهم وسكونهم لايمكن أن يتم إلا بأمر منه،إنهم ملك له وجيش موضوع رهن إشارته. لكن عين العقل ،ومنطق الأشياء وقواعد الاشتغال السليم للدولة واستقرار للمجمع ،تتطلب تفكيك جيوب الفساد ومشاتله المنتشرة في أكثر من قطاع ومؤسسة ،وتطرح الضرورة الملحة لمساءلة وملاحقة كل المفسدين ،لأن عكس ذلك يعني تشجيع الدولة والحكومة الفساد وحماية المفسدين ،ومن يملك الثقة في نفسه فلن يخاف من سيف العدالة،كما أن عدم اتخاذ إجراءات بناء الثقة بين الدولة والشعب ،سيغذي مشاعر الغضب أكثر ،وسيقوي من موجات الانتقام ،لأنه ببساطة شديدة ، يتساءل المغاربة ،بأي حق يصبح بعض المسؤولين وبعض الأشخاص ،أغنياء يتحكمون في كل شيء، لماذا تمنح لهم الامتيازات دون غيرهم،ألا يتحملون مسؤولية في تردي الوضع العام ،ألم يخربوا الاقتصاد الوطني منذ عقود ،الم ينسفوا التوازن الاجتماعي ، ألم يصيبوا مجموعة من المؤسسات بالإفلاس، ومقابل ذلك هيئوا التربة الخصبة لزراعة السلوكات المتطرفة والعدمية،و نشر الفتنة والكراهية والحقد داخل المجتمع ؟ إن الرهان الوطني حاليا هو استئصال الفساد ،فلا قيمة لأي إصلاحات دستورية وسياسية ،دون قرارات جريئة ،لتقويم الاعوجاجات واحتواء الاختلالات..