هل الملك كائن بشري مثلنا، يمشي ويتنفس، يجوع ويظمأ، ينام ويحلم، يأكل ويشبع، يتعب ويرتاح، يغضب ويفرح، يتذكر وينسى، وبمعنى آخر : هل الملك إنسان يحمل معه نقاط ضعف الإنسان من حيث هو إنسان. بما أن الجواب عقليًا لا يمكن أن يكون إلا بالإيجاب طبعًا، فإن إحدى فوائد النقاش الدستوري الجاري حاليًا في بلادنا هي فتح مجال الاعتراف ببشرية الملك، وتوثيق هذا الاعتراف ضمناً في مقتضيات دستورية جديدة. فالملك مثلاً باعتباره إنسانا قد يُخطئ وقد يصيب، ولذلك يتعين أن يمنحنا الدستور إمكان تدارك خطأ الملك إذا أخطأ، وخاصة عندما يكون متمتعًا بصلاحيات وسلط كبرى، وينعكس أثر الخطأ على مصير شعب بكامله. وبما أن الملك إنسان، فهو مثل جميع البشر، قد يتعرض لمرض عضوي أو عقلي، وقد يُصاب بعاهة أو إعاقة أو عجز، أو يدخل في غيبوبة، وباختصار قد يصبح الملك في حالة لا يستطيع معها ممارسة مهام المُلك. الدستور المغربي، بخلاف عموم الدساتير في العالم، لا يقدم لنا حلاً لمعالجة هذا الوضع. الملك الراحل هو الذي تولى الإشراف مباشرة على صياغة أول دستور مغربي، وبحكم ثقافته الحقوقية وإطلاعه الواسع، فمن المستبعد أن يكون قد فاته هكذا بكل بساطة، أمر معالجة حالة عجز الملك، بل ربما يعود هذا البياض الدستوري إلى سمات شخصية الحسن الثاني الذي كان حريصًا على إظهار الملك والملكية في صورة دائمة القوة والنفوذ والهيبة. ومجرد إثارة فرضية عجز الملك قد تؤثر –في نظره- على هذه الصورة وتصيبها ببعض الخدش. ولذلك حافظ الملك الراحل على مظهر الرجل القوي والمهاب حتى آخر لحظات حياته، ولم يسمح ببذل أي تنازل قد يحمل على الظن بأن ضعفًا أو وهنا قد أصاب قدراته على التتبع والمواكبة والنهوض بكل شؤون الدولة والتحكم في سائر خيوط إدارة السياسة العامة. من المعروف أن الكثير من رؤساء الدول يعمدون إلى إخفاء أمراضهم، ولذلك ثار النقاش حول حق الشعوب في معرفة الحالة الصحية لحكامها، نظرًا لانعكاس هذه الحالة على المصالح المباشرة للمحكومين. أما القادة المرضى فيتخوفون عادة من أن يؤدي الإعلان عن مرضهم إلى اضطراب في السير المؤسسي للدولة أو يغذي أطماع خصومهم في الانقضاض على الحكم أو يزرع بذور القلق والخوف من المستقبل وسط المواطنين، وخاصة في ظل الأنظمة المشخصنة التي تلعب فيها شخصية رئيس الدولة الدور المحوري في توجيه الحياة السياسة العامة. إلا أن حالة المرض الذي يصل إلى حد إصابة الملك بعجز يقعده عن ممارسة مهامه الاعتيادية، تتطلب معالجة دستورية حتى لا ينعكس ذلك سلبيًا على سير الدولة ومصالح المواطنين. ولهذا، نجد الدستور الإسباني لدجنبر 1978، في الفقرة الثانية من المادة 59، ينص على ما يلي : "إذا أُعلن عدم أهلية الملك لممارسة سلطاته، وكانت الاستحالة معترفاً بها من الكورتيس العام، يشرع ولي العهد الوارث للتاج إذا كان بالغًا سن الرشد مباشرة في ممارسة الوصاية. أما إذا لم يكن بالغًا، فإنها تُباشر بالطريقة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة إلى أن يبلغ ولي العهد سن الرشد". والفقرة الأولى من المادة تقضي بما يلي : "عندما يكون الملك قاصرًا، فإن الأب أو أم الملك، وفي حالة عدم وجودهما فالقريب الأكثر قربًا لوراثة التاج البالغ سن الرشد وفقًا للنظام المنصوص عليه في الدستور، يشرع مباشرة في ممارسة الوصاية خلال مدة قصور الملك". أما حسب الدستور البلجيكي ل 17 فبراير 1994، وإزاء وجود الملك في حالة استحالة ممارسة المُلك، وبعد أن يتم معاينة هذه الحالة من طرف الوزراء، فإن هؤلاء، يدعون إلى اجتماع فوري للبرلمان بكل غرفه التي تقرر مجتمعة أن تشمل الملك بنظام الوصاية. وبالنسبة للدستور السويدي ل 28 فبراير 1974 (المادة 3 من الفصل الخامس) فإن وجود الملك في حالة مرض أو إقامة بالخارج، أو لأي سبب من الأسباب لم يعد معه قادرًا على ممارسة وظائفه، فإن أحد أعضاء القصر الملكي يتدخل طبقًا لقواعد توارث العرش، لمباشرة مهام رئاسة الدولة بوصفه وصيا عرضيا. وبخصوص دساتير الأنظمة الوراثية العربية، نجد أن الدستور الأردني في مادته 28 ينص في الفقرة (ح) على ما يلي : "إذا أصبح الملك غير قادر على تولي سلطته بسبب مرضه فيمارس صلاحياته نائب أو هيأة نيابة ويعين النائب أو هيئة النيابة بإرادة ملكية. وعندما يكون الملك غير قادر على إجراء هذا التعيين، يقوم به مجلس الوزراء". وبموجب المادة 3 من القانون رقم 4 لسنة 1964 المتعلق بأحكام توارث الإمارة في الكويت، فإن أمر مرض الأمير يُرفع إلى البرلمان الذي عليه أن يصوت بأغلبية الثلثين على القرار القاضي بإعلان شغور منصب الأمير. وبعدها تتم إجراءات انتقال منصب الإمارة إلى أمير جديد يؤدي القسم أمام مجلس الأمة. وللتذكير فإن قانون توارث الإمارة في الكويت هو قانون يحدد آلية الاختيار وضوابطها، وله صفة دستورية، إذ يحيل عليه الدستور نفسه. وهكذا يلاحظ عمومًا، أن قضية عجز الملك عن ممارسة وظائفه بسبب مرض أو إعاقة أو أي طارئ آخر، تُعالج عمومًا في مختلف الدساتير بطرق مختلفة، ولكن تلك الطرق جميعًا تهدف إلى تجاوز حالة تعطل مؤسسة الملك وتفادي استمرار هذا التعطل فترة غير محددة في الزمن أو فترة أطول مما يحتمله السير العادي لشؤون الدولة. والحلول الدستورية المقارنة لا تتصدى لحالة العجز الدائم بل حتى لحالات العجز المؤقت، المهم أن تتم معاينة عجز الملك. مساطر حل إشكال العجز المذكور تتجه عمومًا إلى تحديد ثلاثة عناصر : الأول هو تحديد الجهة الموكول إليها أمر معاينة العجز وإثارة المشكل. فلا يمكن لأي كان الزعم بحصول العجز وتحريك المسطرة. وفي العادة يتكلف بالأمر إما الوزراء أو مجلس الوزراء، أو البرلمان. وفي حالة خاصة يتكلف بتحريك المسطرة أحد اعضاء القصر الملكي. الثاني هو تحديد الجهة أو المؤسسة التي يمنحها الدستور سلطة الحسم. وفي الأغلب يتكلف بذلك البرلمان أو مجلس الوزراء. أي أن المنتخبين يلعبون هنا دورًا أساسيًا بحكم المسؤولية الملقاة على عاتقهم من طرف الشعب، وواجبهم في السهر على انتظام السير المؤسسي. الثالث هو تحديد الحل الذي يتقرر مسبقًا لمواجهة وضعية العجز الذي يوجد عليه الملك والوصفة المقررة للمعالجة. ورغم تعدد الوصفات المقترحة، فإنها تدور عمومًا حول اختيارين : إما اختيار ترتيب انتقال للعرش بعد إعلان منصب الملك شاغراً. وإما اختيار ترتيب وصاية ممارسة من طرف فرد أو هيأة بشكل مماثل لحالة الوصاية التي يخضع إليها الملك في حالة عدم بلوغه السن الدستوري المطلوب للرشد الملكي. يُلاحظ أن الأحزاب المغربية لم تتقدم إلى الآن بأفكار أو مقترحات لسد النقص الموجود في الدستور المغربي، والمتمثل في غياب معالجة حالة عجز الملك، علمًا بأن مثل تلك الأفكار والمقترحات هي بطبيعتها تتوجه لمعالجة إشكال مجرد، ولا يُفترض أن تطرح أي إحراج. فنحن جميعاً نتضرع إلى الله ألا نوجد مطلقًا أمام حالة عجز ملك من ملوكنا ولكن ذلك لا يعفينا من واجب الاحتياط دستوريًا لكل الطوارئ التي تصيب حياة الأفراد الموجودين في قمة هرم السلطة. فرغم أهمية النقاش الجاري في الساحة السياسية اليوم ورغم التوصل إلى كسر الكثير من الطابوهات والمحرمات، فإن إغفال الأحزاب السياسية طرح إشكال عجز الملك، يبين أن النقاش لم يشمل بعد كل القضايا وأن الطابوهات لم تكسر كلها!.