1- ليس عسيراً أن نُسَمِّيَ أنظمة الحكم الديموستبدادية، "فرداً فرداً" ونظاماً نظاماً، التي لا تزال حتى اليوم تجثم على رقاب العباد قبل أن تُحَوِّلَ الأوطان إلى مزارع فاسدة وشركات للنهب والتهريب. لكن يصعب أن نجد نظاماً سياسياً ديموقراطياً يُشَارُ إليه بِالبَنَانِ، لأن فلسفة الحكم الديموستبدادي تنزع روحه (المواطنة) وتُشوِّه جوهره (الحرية) فتمسخه وتحتفظ بالجلد المسلوخ (الإجراءات الشكلية) لِيُوائِمَ أولويات الحاكم الديموستبدادي في شَرْعَنَةِ نظامه السياسي ثم الهيمنة على دوائر السلطة بتدجين المؤسسات الاسمية الدستورية وإحداث مجالس وطنية ولجان قومية يُعَيَّنُ المُتَمَجِّدُونَ لحراستها!. وتُسْتَغَلُّ جميع أدوات الضبط والتحكم اللامتناهيين في الحياة السياسية لتحصين سلطان الرئيس وفصل الإنسان عن محيطه السياسي بزرع الخوف والتخويف. فهذه المنظومة التوليفية لنظام الحكم بين الديموقراطية الاسمية المُشَوَّهَةِ المَمْسُوخَةِ المَسْلوخَةِ المُفَرَّغَةِ من المضمون والحكم المطلق الاستبدادي تُنْتِجُ نظاماً سياسياً هجيناً هو الحكم الديموستبدادي الذي يمزج فيه الرئيس والسلطان مزجاً مِكْيَافِلِّياً بين ميكانيزمات ديموقراطيته الممسوخة وطبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. فلا تُعْرَفُ فيه حُدُودٌ لسلطات الحاكم الذي يستخدمها كما شاء، وكيف ومتى شاء باسم الشعب ولصالح الأمة!!. 2- إذاً، يصبح رئيس النظام الديموستبدادي مصدر السلطات ومنبع الحقوق والحريات، يهبها لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء. له الأمر من قبل ومن بعد. يختزل الرئيس سيادة الشعب وإرادته في ذاته المقدسة الهلامية، بل يصادرهما، فهو "مصدر سلطة التشريع ومصدر السلطة التنفيذية ومصدر السلطة القضائية". تفيض سلطات الحاكم الديموستبدادي، التي يمكن أن يُوَكَّلَها لموظفي حكومته وسدنة نظامه المُتَمَجِّدين المُسَبِّحِين بحمده وشكره. وكذلك هو الحاكم المقدس المُحَصَّنُ ضد المراقبة والمحاسبة، لا يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسألونَ ويُحَاسَبُونَ. فلا يمكن انتقاد السلوك السياسي للرئيس والسلطان المعصوم والمُنَزَّهِ عن الخطأ، ولا يجوز إثارة الجدل أو رصد مفارقات خطابه الدوغمائي أو أخطائه السياسية، لأنه صاحب الرأي السديد، وهو المُلْهَمُ والمهيمن والعالم بكل شيء أوَّله وآخره، لا يَعْزُبُ عنه شيء!!. وهذا يَسْلُبُ عقول البعض ويعتبره سلوكاً خارج التاريخ والمنطق أن يتولى السلطان والرئيس السلطة ويتحمَّل المسؤولية ويفتي في الشاذة الفاذة، وتتسبب سياساته وبرامجه في خراب الوطن ودمار الإنسان ولا يخضع للمحاسبة والمساءلة. وربما بَطُلَ عَجَبُ هؤلاء، فالحاكم الديموستبدادي ظل الله في الأرض!. لا يمكن أن تعلو سيادة الشعب عن إرادته ومشيئته!!. 3- هذه الذات المقدسة للحاكم الديموستبدادي تجعل الشعب لا يرى إلا ما يراه مولانا الإمام طوعاً أو كرهاً، فهو صاحب المشروع الديموقراطي المنقذ للبلاد من التخلف والتطرف والضلال... وهو صاحب المشروع الديموقراطي الذي انتقل بالبلاد من حكم الحزب الوحيد والرئيس الخالد إلى نظام ديموقراطي تعددي أرسى قواعده وبنيانه، حيث تُتَدَاولُ فيه السلطة... وصاحب مشروع الدولة المدنية الحديثة... والنموذج الديموقراطي التنموي... وصاحب مشروع المجتمع الحداثي الديمقراطي الذي انتقل بالبلاد من الحكم السلطوي إلى النظام الديمقراطي...(لنلاحظ الإبداع في نحت مصطلحات جوفاء!). وكل من ينتقد "إنجازات" الحاكم الديموستبدادي فهو إما متطرف أو عَدَمِيٌّ يُروِّج لثقافة اليأس والإحباط أو صاحب أجندة خارجية يُطعَنُ في وطنيته، وهو يتآمر على الرئيس والوطن والأمة. ولما يهتزُّ عرش السلطان بالاحتجاجات والمظاهرات التي تطالب بالإصلاح السياسي أو تدعو الحاكم الديموستبدادي بالرحيل يكتشف المحتجون الغاضبون هشاشة نظامه بعد أن اكتشفوا زيف خطابه السياسي وحقيقة الشعارات التي لم تكن سوى أوهام لا يصدقها غير الرئيس والمُتَمَجِّدِين المُرَوِّجِين لِسَفْسَطتِه. ولا يَتَوَرَّعُ الحاكم الديموستبدادي في الجهر بالحقيقة يوم يضيق عليه الخناق (فهمتكم...مطالب مشروعة...وتطلعات مشروعة...). فيؤكد السلطان الجملوكي الهمام بعظمة لسانه ودون حياء أمام المُتَمَجِّدين شعراء مجلس الشعب أن الديموقراطية لم تكن يوماً إحدى أولويات المرحلة الراهنة!!. فهو مشغول بالتصدي للمؤامرات الخارجية والداخلية (بوعو الإسلاميين)، وكذلك بتحرير الأرض متزعماً جبهة الممانعة!. وهذا فعلاً كلام صادق يتواءم مع أهواء وأوهام كل حاكم مهووس ببناء نظامه الديموستبدادي وتحصين قلعته. فلا ديمقراطية أرسى ولا وطناً حمى، إذ لم يطلق رصاصة واحدة على المُحْتَلِّ الغَاصِبِ للأرض... لكنه يستحل دماء شعبه إذا طالب بحقوقه وتفكيك منظومة حكمه الديموستبدادي، حيث يبذل جهده ويُسَخِّرُ مُقدِّرات البلاد ليُجَرِّفها من الحاملين لكل مشروع يهدد سلطته. فيخلق أعداء وَهْمِيين مُتآمِرين وَجَبَ مُحاربتهم ومطاردتهم فرداً فرداً، ويُخَوِّفُ العالمين من خطرهم. 4- "يخلق" السلطان الديموستبدادي حزبه السياسي و"يصنع" على عينه رجال نظامه ونخبته ومثقفيه وطبقة رجال الأعمال والهوليدنغات والمنظمات المدنية والأندية الرياضية، ويحتوي الدكاكين السياسية (الاستقلالية والاشتراكية...) التي استطاب زعماؤها المُنْبَطِحُون القرب من الحاكم الديموستبدادي ورَوَّجُوا لموت الاستبداد وألفوا السكون وتآلفوا مع مسلسل الانتقال والدوران في حلقاته المفرغة حتى إذا هبت نسائم الثورات قالوا: كنا من السابقين الأولين الذين رفعوا رايات الإصلاح والتغيير. وما نرى لكم علينا من فضل!!. إذاً، لا "يَقْنَعْ" الحاكم الديموستبدادي بهؤلاء المُتَمَجِّدِين المُنْبَطِحِين الذين أصبحوا يُمَسِّكُونَ بتلابيب النظام و"يَتَشَعْبَطُونْ" بجلبابه بعد أن تداخلت المصالح وتشابكت، فيُؤسِّس الرئيس الحزب السلطاني وهو خط الدفاع الأول عن نظامه، فلا يؤمن سوى بحراسة الذات المقدسة من كيد الكائدين المتآمرين والأعداء الحاقدين والمتطرفين الضالين الذين يركبون على مطالب حركات التغيير. ولا شأن للحزب بالبناء الديموقراطي أو التنمية السياسية أو التعديلات الدستورية، لأن مشروعه السياسي هو تحصين النظام الديموستبدادي بالامتداد في كل المؤسسات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والمؤسسات المدنية والرياضية (...). وبيَّنت الأحداث التي عاشها العالم العربي منذ الرابع عشر من يناير الماضي تاريخ الثورة التونسية أن هذا الخيار كان أحد أوهام الرئيس الديموستبدادي الذي استيقظ بعد 23 عاماً على احتجاجات هزت أركان نظامه فأصبح مشرداً طريداً في الأمصار وقد حوَّل البلاد إلى حقيبة سفر. فلم ينفعه حزب الدولة ولا كتائبه الأمنية ولا مثقفوه ولا بطانته التي انفضت من حوله ولا المُتَمَجِّدُون. تفتت الحزب وذاب أنصاره!!. فما بُنِيَ على وَهْمٍ انتهى إلى وَهْنٍ...فَخَرَابٌ وَدَمَارٌ... 5- لن يجد الحكم الديموستبدادي وسيلة أفضل من الإعلام لتسويق خطابه السياسي عن أوهام الديموقراطية الممسوخة، فيُحَوِّلها (وسائل الإعلام الرسمية) إلى منابر دعائية لحزب السلطان تُبرِّر وُجُودَه وتُشَرْعِنه وتُشِيدُ بطروحاته السلطوية وتُندِّد بخصومه، ويُجَنِّدُ كلاب الحراسة لخدمة أجندته. لذلك ينبث هذا الإعلام عن محيطه السياسي والاجتماعي، لأن الحكم الديموستبدادي يُدرك أهمية وظيفته الإخبارية في تنوير وتكوين الرأي العام. فلا تسمع ولا ترى إلا ما يخدم مشروع الرئيس الديموستبدادي، وقصص مؤامرات الفئات الضالة ضد نظامه وأخبار المتطرفين المتحالفين مع المغضوب عليهم!!. وهو الخطاب الذي لم يعد يقنع أحداً، إذ صرف الجمهور اهتمامه عن وسائل إعلام الحاكم الديموستبدادي إلى وسائط الاتصال الحديثة لإشباع احتياجاته السياسية والمعرفية. وهناك تكوَّن وعيه السياسي وأسَّس جمهوريته ومملكته، وتشكلت أحلامه وآماله في كنس الأنظمة الديموستبدادية وبناء نظام سياسي ديمقراطي. وعندها استيقظ السلطان الديموستبدادي الذي ظل يعيش أوهام أحلامه ظلاً لله في الأرض فاكتشف هشاشة نظامه فسارع لاحتواء ما يكمن احتواءه بالمبادرات.. لكن الروح السياسية الجديدة التي سرت في عروق الناس تجاوزت حساباته الخاطئة.