لم يكن أمرا مفاجئا البتة، ونحن نتابع موقفا هجينا وفاقدا لأي مصداقية.. وقد بدا للبعض في الوهلة الأولى أشدّ غرابة وقتامة؛ لكن سرعان ما سيتساقط عن ستائره الغبار وينقشع، ليتضح المشهد بالكامل عاريا كرقصة "استربتيز" بذيئة.. ولينكشف الهدف من وراء إثارة رخيصة، مثقلة بأصداء الفضيحة النابحة، ومكللة ب "ديباج الوصمة"، حسب تعبير شاعرنا المبدع أحمد بنميمون في إحدى قصائده القديمة… عندما خرج الآلاف من المغاربة، يوم الأحد الماضي بالرباط (6 أبريل 2025)، في مسيرة وطنية حاشدة، شكلت طوفانا بشريا حقيقيا، للتعبير بصوت واحد عن تضامنهم اللامشروط، والجهر بإدانة حرب الإبادة التي يتعرض لها أشقاؤهم الفلسطينيون في غزة، بواسطة المجازر الوحشية والهمجية التي يرتكبها جيش الاحتلال الصهيوني… في مسيرة رفعت لافتات واضحة، وهتفت بلسان صريح، من أجل إسقاط التطبيع مع الكيان العنصري المجرم المفترس المتوحش… لما تابع العالم هذا الحدث التضامني الكبير، الذي لم يحد عن الموقف التاريخي الثابت للشعب المغربي في دعم القضية الفلسطينية، أطلت زُمْرَةٌ من كوة العتمات المظلمة.. زمرة بئيسة لطالما ظلت تراهن يائسة على ألا ينجح نداء "الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع"، الجهة الداعية للتظاهر السلمي وإلى المسيرة الشعبية، وألا تلبي الجموع الغفيرة – التي أتت من كل مناطق المغرب – نداء تجديد الدعم الشعبي المغربي للمقاومة الفلسطينية، وحق تقرير مصير الشعب الفلسطيني وبناء دولته الديمقراطية المستقلة.. غير أن "الصدمة كانت قوية"، حين أحس بعضهم وكأن رماده ينتثر فوق رماد خرقة الكيان التي جرى إحراقها نهارا وجهارا… كما غنى ذات يوم المطرب عبد الهادي بلخياط عن عاشق مغبون تهاوى تحت حديد سكة قطار سريع.. (الصدمة كانت قوية.. حرقت مشمومي في يديَّ.. وطاح رمادو فوق رمادي)… فبدل الحديث عن نجاح المسيرة الكبرى وتداعياتها… والأصداء التي خلفتها شرقا وغربا، ألفينا من يحاولون عبثا تبديل القصد والمعنى، وتغيير الأنظار عن الحقيقة الصارخة، من أولئك الذين ينطبق عليهم مضمون الآية القرآنية الكريمة: "يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ…"… وقد رأوا وسمعوا ما لا يحبون وما لا يرضون، هم ومن يحرك خطاهم الكسيحة وخيوطهم القراقوشية، فلم يبق أمامهم إلا تعمد خداع الرأي العام والجمهور.. لحسن الحظ إننا نعيش ثورة العصر الرقمي وانتشار التكنولوجيا الحديثة، لذلك بقي خلفنا بمسافات بعيدة، قد تحسب افتراضا بالقرون، زمن هيمنة واحتكار الإعلام الرسمي بتلفزيوناته وإذاعاته وصحفه الصفراء.. إنهم لا يستطيعون اليوم تزييف الصورة أو تقزيم المشهد، ولو استعانوا بغسيل العقول التي تعرض خدماتها للبيع برخص الأسعار في منصات "عكاظ" مدائح الذكاء الاسترزاقي … فما العمل غير اقتصاص المشهد من سياقه الحقيقي.. بفبركة مشهد مختلف، وتحريف الوقائع والأحداث التاريخية المعروفة، إن لم يكن الإتيان بما يناقضها تماما.. بابتكار عملية استغفال مفضوحة وقصص خيالية تتغيى التضليل، حتى يضيع التصنيف بين الضحية والجلاد المعتدي. مثل من جاءنا بكلام مستحدث ومخالف لما تتضمنه الوثائق الاستخباراتية التي كشفت عنها مصالح الموساد و"C.I.A"الأمريكية.. عن صلات تاريخية رابطة بين الرباط وتل أبيب منذ السنوات الأولى لتأسيس الكيان الصهيوني. كما أفصحت عن ذلك بوضوح، السينمائية اليهودية المغربية سيمون بيتون، في أحد حواراتها مع قناة "فرانس 24″، لما قالت "إن التطبيع لم يأت بجديد سوى أنه كشف للعالم ما كان خفيا في السر". ولمن يحاولون صنع تاريخ نضالي مجيد للضحية المزعومة، نقول لهم ما يقوله المغاربة لمن يرغبون في الحصول على شرف كاذب، إجابة ذاك الأب الذي رد على ابنه: "يا ولدي لا يمكننا ادعاء النسب إلى الشرفاء حتى يموت جميع من يعرفوننا"… *** لا شك أن الأساليب التحريفية والمضللة، غير المبنية على حقائق واضحة وملموسة، هي صورة جلية من تدهور القيم وأزمة المجتمع، غير أنه لا يمكن عبر مثل هذه الأساليب إعداد أو تكوين قناعات حقيقية، ما دامت الحقيقة شاخصة أمام أعين الرأي العام، الذي من السهولة عليه أن يدرك جيدا المساعي الفاشلة لتزييف اهتمامات الناس، بشن حملات ممنهجة مضللة. لقد أظهرت مسيرة السادس من أبريل مدى تماسك الشعب المغربي وشدة شعوره بوحدته وموقفه الداعم للقضية الفلسطينية، الشعور ذاته الذي يؤمن به المغاربة فيما يتصل بقضية الوحدة الترابية لبلادهم… وبما أن الزُّمرة إياها، لن تتوقف عن زرع الفتنة وبث الرعب والتفرقة، فإنها مهما اجتهدت وأجادت في حركاتها البهلوانية، ستظل مفتقدة لمهارة القفز بين اشتعال اللغم ولحظة انفجاره… والمصير معروف.. ويا لها من فضيحة انتحارية… لقد تطورت أشكال التضليل وتقنياته، غير أن التضليل والتعتيم يظل شكلا من أشكال القمع.. وقبل 50 عاما جهر بها الشهيد عمر بنجلون.. إن لم يكن التضليل والتعتيم أخطر وأشهد ضراوة… *** بعض القدماء ممن "بدلوا تبديلا"، أصبحوا لا يختلفون عن أؤلئك الذين يعمدون إلى الاحتيال في عمليات غسيل الأموال من خلال تبييض ماضيهم، واستخدام بيانات اعتماد جديدة.. لعلهم يفلحون… هي إعلانات توبة…؟! لمَ لا.. وقد قيل "إن الوطن غفور رحيم".. غير أن التاريخ قاسٍ لا يرحم ولن يغفر أبدًا…