من رحم المعاناة ينبثق الأمل، ومن مواجهة الجهل تولد الصحافة الحقيقية، فلا مكان للسخافة في بلاط صاحبة الجلالة، ولا مستقبل ل"الحسرافة" في مهنة تبحث عن مصداقية ضائعة. في المشهد الإعلامي اليوم، تتصارع رؤوس تتظاهر بالنزاهة، لكنها في الخفاء تتقاسم المصالح. رؤوس متفاوتة الأحجام، بعضها هش كبيوت العنكبوت، وأخرى غارقة في صمت الانتظار حتى يأتي دورها للنعي بكلمات منمقة، وكأن الصحافة لا تستفيق إلا عند إعلان الوفاة. في زوايا هذا المشهد، تتسلل عقول فارغة لا تصلح إلا "للتبخار"، تمامًا كرؤوس الخراف، تارة تؤسس جمعيات شبه وهمية بأسماء رنانة، وتارة تزين نفسها بألقاب دولية لا تسمن ولا تغني من جوع، على سبيل الثال: "حمان جيلالي بوعزة الوطني"، وأين المشكلة إن كتبت في اخر هذه الجمعية "حمان جيلالي بوعزة الوطنية والعالمية والدولية والتي تحكم البر والبحر، لن تخسر شيء، وكأن الغاية من الصحافة هي استعراض الألقاب بدل البحث عن الحقيقة. فعلا حقارة ما بعدها حقارة، مشهد مقزز. نحن لا ننحاز لهذا الطرف أو ذاك، لكننا ندرك أن هناك فرقًا بين النهر والبحر، بين الصحفي الذي يحمل قضية، وآخر يتخفى خلف جدار مزيف يدّعي محاربة الفساد وهو غارق فيه حتى النخاع، فمن باع القيم والمبادئ لا يمكن أن يبني صرحًا لمحاربة الفساد، بل هو أول من يشوه مهنة الصحافة ويُحيلها إلى مسخ مشوّه. حينما يُمنح "الميكروفون" لمن لا يستحق، ويُقال له : "وا سير دبر على راسك"، فينطلق بين الأزقة والحدائق بحثًا عن تصريحات غريبة تشوه سمعة البلد من المرضى النفسيين والمشردين لجلب المشاهدات، ولا تتذخل السلطات الامنية والقضائية لتوقف هذه المهازل، من يحمي هؤلاء؟، تصبح الصحافة بين "التحسريف" وسوق النخاسة الإعلامية ساعتها . عندها يصبح الإعلام سوقًا رخيصة للمزايدات، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المصالح الشخصية، تتحول الصحافة إلى "التحسريف"، وتضيع بين منابر لا همّ لها سوى التكسب على حساب معاناة الناس، تقتات على الإثارة الفارغة، وتبيع الوهم في سوق الإعلام المأجور. هنا يطرح السؤال نفسه: لماذا مثل هذه المنابر، التي تُموَّل من المال العام وفي "النوار" أيضا، لا تكشف الدولة عن حجم الأموال التي ضُخَّت لها؟، فمن حق الشعب أن يعرف أين تُصرف أمواله، ومن حقه أن يحاسب كل من استغل الصحافة لنهب المال العام تحت غطاء المهنية، الصحافة الحقيقية ليست دكاكين تُباع فيها المواقف، ولا مزادات تُساوم فيها الحقيقة، بل هي رسالة، فإما أن تحترم أصحابها، أو تتركها لمن يستحقها. إن الواقع الحالي جعل البعض يفضل التراجع إلى الخلف ومراقبة المشهد بصمت، فالأطماع قسمت الصفوف، وجعلت من الصحافة ساحة صراع على الغنائم بدل أن تكون منبرًا للحقيقة. في الدول الأوروبية، يحترم الصحفيون أنفسهم، ولا تُدار المؤسسات الإعلامية بالولاءات أو بحسابات شخصية، لا أحد يتصل بآخر ليسأله: " لماذا كتبت عن فلان؟"، ولا أحد يُملي على الصحفي ما يكتب أو يترك. أما عندنا، فقد صار التجار يختارون من يتحدث باسمهم، وتحولت الصحافة إلى مهنة لمن يدفع أكثر، وسط مشهد تغذّيه المصالح والدعم الوزاري، قوانين تُفصّل حسب المقاس، وإعلام يدار كما تُدار الصفقات. أما الجدار الذي يتحدثون عنه، فهو ليس سوى وهم، جدار تمزق مع أول اختبار، كغشاء بكارة زائف لم يعد يُقنع أحدًا، إلا إذا اختار أصحابه البحث عن ترميم جديد في مستشفيات تركيا أو النفاق الإعلامي المزيف، وتعرف كل شيء عن بكارتك يا ( جدار) .