بالأمس وتحديدا في زمن الحماية، اعتمدت الحركة الوطنية الناشئة على عدة وسائل نضالية تتأسس على الخيار السياسي والسلمي، بعد أن توقفت المقاومة العسكرية التي استنفذت كل أدواتها وطاقاتها باستشهاد معظم الزعماء المقاومين أو باستسلامهم، ومن ضمن هذه الوسائل، الاعتماد على الصحافة (جرائد، مجلات ..) كمنصة نضالية لتوعية الشعب والدفاع عن قضايا الأمة، بمواجهة الاستعمار وفضح مؤامراته ومخططاته الظالمة، فتشكلت بذلك، الدعامات الصلبة لبناء صرح الصحافة الوطنية التي راهنت في بداياتها الأولى، على الجرائد والمجلات للوصول إلى الرأي العام الوطني والدولي، حاملة رهان الدفاع عن القضية الوطنية. وإذا كان لكل زمن رهاناته وتحدياته، وإذا كانت الصحافة في زمن الحماية، قد تحملت وزر الانخراط في "الجهاد الأصغر" (مقاومة الاستعمار) وقد كسبت الرهان، فإن صحافة اليوم التي تعيش على وقع الطفرة الرقمية التي أتاحت مساحات تواصلية هائلة، أمامها كسب رهانات وتحديات "الجهاد الأكبر" المرتبط بالأساس بفضح الفساد وتعقب المفسدين الذين يعيثون في الأرض فسادا وعبثا، وتوجيه الرأي العام نحو مختلف المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تقف سدا منيعا أمام الوطن وتحرمه من فرص التنمية الناجعة والارتقاء السليم، والانخراط الإيجابي والمسؤول في الدفاع عن قضايا الأمة وتوابثها وما يتربص بها من مخاطر وتحديات، وتسليط البوصلة نحو ما تعرفه الممارسة السياسية من عبث، وما يكتنف السياسات العمومية من ضبابية وغموض مكرس للارتباك والاحتقان، وقبل هذا وذاك، مشاكسة السلط الثلاث (التنفيذية، التشريعية، القضائية) ومساءلة عمل المؤسسات الدستورية التي يكاد لايسمع لها صوت ..
وهي مهام وتدخلات، لايمكن البتة، الانخراط فيها، إلا في ظل صحافة هادفة ومسؤولة، تلتزم بأخلاقيات المهنة وتحترم ما يؤطرها من تشريعات، وتقدر الجمهور وتضعه في صلب اهتماماتها، وتسخر كل طاقاتها ووسائلها لإثارة كل القضايا والمواضيع الجادة، التي تكرس "الصحافة" كسلطة رابعة قادرة على التأثير والإسهام في تجاوز سياسات الركود وتحريك عجلة التغيير المنشود .. صحافة رصينة، تتحمل مسؤولياتها الوطنية في التوعية والتثقيف وصون لحمة المواطنة وحماية القيم واحترام المشاعر الوطنية والدينية، وحسن اختيار القضايا والمواضيع والأخبار، البعيدة كل البعد عن مفردات "الحماقة" و"السذاجة" و"العبث"، وإثارة "الفوضى الناعمة" المثيرة للجدل الذي نحن في غنى عنه ..
وإذا كان لكل زمن رهانات، وإذا كان لكل حصان كبوة ولكل لسان زلات، فإن المشهد الإعلامي بكل انتماءاته، فيه "الصالح" و"الطالح"، فيه "الصحافة الجادة" و''المسؤولة" و"النزيهة" و"الموضوعية" التي تقدم صورة مشرقة لمهنة وصفت بصاحبة الجلالة لعظمتها ورقيها، وبالسلطة الرابعة لقوتها وقدرتها التأثيرية على السلط الثلاث .. وفيه أيضا "الصحافة" أو جانبا من الصحافة، التي لا ترتبط بالمهنة إلا ببطاقات الصحافة أو الانخراط في نقابة للصحفيين أو تأسيس جريدة أو موقع إلكتروني، يتحكم فيه هاجس الربح والخسارة ..
"صحافة'' صارت كالدمى، يحركها "صحفيون" أو "أشباه صحفيين" يقتاتون على "البوز" ويلهثون وراء "نسب المشاهدة أو المتابعة" .. صحافة" تسخر كل الطاقات والوسائل لحمل "معاول" الحفر والنبش في الحفريات، بحثا عن "خبر تافه" أو "شخصية تافهة" أو "كلام تافه"، قادر على إثارة الانتباه
والاهتمام، وإحداث الجدل والظفر بكسب رهان "البوز المزيف"، بدل أن تحمل أقلام الجرأة والنقد البناء، بحثا عن الثروة الغارقة في أوحال العبث، واللصوص وناهبي المال العام وعشاق الريع وصناع العبث ..
"صحافة'' تبدو كالشياه المتهورة التي لا ترعى، إلا في براري "الحموضة" و"الميوعة" .. تتواجد متى كانت "التفاهة" وحيثما حضرت "السخافة''، وتهرول أينما كان هناك "شخص تافه"، جاعلة منه "نجما" مزيفا، في زمن يتم فيه "تغييب" النجومية "الحقيقية" القادرة على إشاعة ثقافة التميز والرقي والإبداع والجمال .. وهي وضعية مثيرة للقلق، لاتمس بقدسية المهنة وأخلاقياتها ومهامها النبيلة فحسب، ولكن أيضا تؤسس لعقول معطلة ومعاقة، ولقلوب يكتسحها "هوى" الميوعة والانحطاط، وتساهم بتفاهتها، في صناعة "أجيال" ينخرها ورم "السخافة"، وما أحوجها اليوم إلى مفردات "المواطنة" و"القيم" و"الرقي" و"التميز" و"الذوق" و"الجمال" ..
وليس المجال هنا للرشق أو القصف المجاني أو إثارة النعرات في البيت الصحفي، لأننا لا نمتهن "الصحافة'' ولاتربطنا بها أية رابطة ولاء أو انتماء، وعلاقاتنا بالمشهد الإعلامي، لاتتجاوز حدود ما نكتبه من مقالات رأي، تنشر في عدد من الجرائد والمنابر الإعلامية على قدم وساق، إسهاما منا في التفاعل مع القضايا الوطنية وإثراء النقاش الرصين بشأنها، كما أننا متحررين من أي انتماء حزبي أو نقابي أو جمعوي، من شأنه كبح جماح القلم وتوجيه الفكر وتقليم أظافر الرأي، وما أبديناه من رأي في الصحافة، مرده ما نتلمسه -كمتلقين ومهتمين- من بعض الأعمال التي لا تكرس إلا مفردات "الحموضة" و"التفاهة" و"السخافة"، بعضها يمس بالتربية وبعضها الثاني يتحرش بالقيم وبعضها الثالث يتربص بالمشاعر الدينية والوطنية المشتركة، مما يمس بقدسية المهنة وبأدوارها ورسائلها النبيلة، التي تتأسس سطورها العريضة حول الإسهام الواعي والمتبصر في تحولات المجتمع وإشاعة ثقافة التميز بكل مفرداته ..
ما أبديناه من رأي، حركته رغبة جامحة في تلمس صحافة مواطنة، يتأسس خطها التحريري على حب الوطن، وتضع خدمة الوطن على رأس أولوياتها، صحافة راقية تدرك أن "البوز الحقيقي" ليس في إثارة موضوع أو خبر تافه أو البحث عن شخصيات سخيفة وإلباسها ثوب النجومية لكسب جمهور عريض، ولكن في القدرة على صناعة منتوج رصين يتأسس على الالتزام بأخلاقيات المهنة واحترام المتلقين .. "البوز الحقيقي" هو القدرة على تجاوز "الرداءة" والإقلاع عن عادة "الحموضة"، والانكباب عما يتخبط فيه المجتمع من مشكلات ومعضلات في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والشغل والسكن ..
"البوز الحقيقي" يقاس بمدى الكشف عن سوءة المفسدين والعابثين بأمن واستقرار الوطن، وبالقدرة في الإسهام في تقديم الحلول للمشكلات المستعصية .. "البوز الحقيقي" هو كل "قلم حر" وكل "صوت مشاكس"، يجعل من الصحافة، منصة لخدمة الوطن والدفاع عن قضاياه وثوابته، بمهنية وجرأة وموضوعية وحياد، ومن يراهن على "بوز التفاهة"، لسرقة الأضواء المزيفة، فهناك طريق وحيد وأوحد للنجومية وكسب حب الجمهور، هو"الجدية" و"النزاهة" و"الانضباط" و"الموضوعية" و"المهنية"، وهذه بعض سمات ومواصفات "الصحفي" الناجح الذي يعطي للصحافة معنى، كسلطة رابعة "تعلو ولا يعلى عليها"..
بقيت الإشارة في خاتمة هذا المقال، أنه لامناص اليوم، من الارتقاء بالمشهد الإعلامي وإنقاذه من "أنفلوانزا" الميوعة والانحطاط، بشكل يؤسس لإعلام حر وهادف وموضوعي ونزيه، ولمنابر إعلامية جادة ومسؤولة، تتنافس على الإنتاج المهني الرصين القادر على كسب ود الجمهور، وتتبارى من أجل إشاعة ثقافة التميز في واقع زحف ويزحف عليه "جراد" الانحطاط من كل صوب أو اتجاه، والمسؤولين عن المؤسسات الإعلامية من
مدراء عامين ومدراء النشر ورؤساء التحرير، أمامهم كسب رهان "الجودة" من أجل سمو المهنة ونشر مفردات الرقي والتميز والجمال، وقبل هذا وذاك، من أجل "وطن" لايمكن الارتقاء به، إلا بإعلام "راق" و"مسؤول".. فطوبى لمن يبني صرح "الإعلام الراقي" من أجل "وطن" سئم من العبث .. وطوبى لكل "إعلامي" يسخر كل قدراته وكفاياته، من أجل "وطن" ضاق ذرعا من "الانحطاط"