إلى آلِ الأحمَدي -1- أمام كثرة القيلِ والقالِ في ما آلت إليه القضية الفلسطينية، مرحلياً وحتى إشعار آخر، إشعار بالاستقلال، (الذي يرونه بعيداً ونراه قريباً)، وبعد كتابة رسالتين لابنتي في المهجر (الأولى في الشهر الأول من المعركة: "في الشأن الفلسطينيّ: رسالةٌ إلى ابنتي في المهجَر"؛ والثانية بعدها بشهرين: "عودٌ على بدءٍ: في الشأن الفلسطينيّ وابنتي") غالبتني نفسي بضرورة العودة إلى الكتابة لتقويمِ أوّلي، تقويم مبدئي، في أفق تبين بعض ملامح ما يخبِّئه الغد وما تمّ ابتذاله تحت تسمية "اليوم التالي". -2- منذ أن دخل المقاومون المعركة ودخلها معهم المتتبعون لقضيتهم، لم يعتقد أحد منهم، ولا لحظة، ولم يكن لأحدٍ منهم أن يعتقد/ يتوهّم انتصارا، بله انتتصار مطلق لقضيتهم، انتصار عجزت عنه حتى الماكينة الحربية الأمريكية، لا الإسرائلية، التي كانت على الحقيقة في الميدان. وأنّى لهؤلاء المقاومين أن يتصوّروا ذلك، والانتصار، معنى الانتصار، يحدّده الوضع الذي كانت عليه القضية حين حدوث الحدث. فماذا كانت عليه الحالة عندئذ يا تراه؟ -3- بالمختصر، كانت القضية قد أُقبرت، وكانت غزة سجنا تحت قبة السماء؛ كان الحصار المطبق قد ضُرب على القضية في المحافل الدولية؛ ثم، أخيرا وليس آخرا، تم تكريس هذه الوضعية وتتويجها بهجمة تطبيع بالجملة غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. وفوق هذا وذاك كان الكلّ الفاعل في هذا الملف يُسابق الزمنَ لدقِّ المسمارِ الأخيرِ في نعش القضية بدخول المملكة السعودية جوقة المُطبِّعين! -4- من ثمة لم يكن ولم يبق بيد المسجونين، جحافل المسجونين، إلا أن يُقبِروا البقيةَ الباقيةَ من آمالٍ بفكِّ قيدهم ورفع الأغلال عنهم. لم يكن ولم يبق بأيديهم سوى "التقاط أيديهم" (على حد قول شاعر القضية محمود درويش) وضرب عدوهم بما بقي من يدهم، بما بقي في يدهم (الصورة الأخيرة للسنوار أمام قاتليه وهي الصورة التي كانت قبلُ صورة شعرية، فأسست بذلك لجدلية الشعر والوجود، لشعرية الوجود، شعرية تؤسس لمعنى آخر للانتماء، وللعيش المشترك الذي نعيشه اليوم)! -5- لم يكن متاحاً للمُقاومين، منذ البدايةِ، منذ النكبةِ ومنذ الهجومِ الاستعماريِّ في 48، إلا أنْ يكونوا في ردودِ أفعالٍ مؤجلةً، دوما مؤجلةً، على حدثٍ سابقٍ ومُؤسِّسٍ لسرديتهم الحديثة: حدثٌ اسمه الاستعمار، سرقةُ الأرض والسَّطو عليها. لم يكن للمقاومين، لا الحقُّ ولا الوقتُ، أن يَحسبوا الربحَ والخسارةَ، مدى الرّبحِ والخسارةِ، هُمُ الذين خسروا كلَّ شيءٍ، وما بقيَ، بعد تتالي انفراطِ عقد المُحبِّين والمتعاطفين أمام الهزائم التي تعرفها قيمُ العدالةِ، كونياً أمام التوحُّش المتنامي للرأسمال، ما بقي لا يَعدو حلماً بإمكانِ الربح، بإمكانِ عدم الخسارة، مطلق الخسارة، خسارة المحكوم بالمؤبد، بالموت البطيء: أبغض أنواع الموت التي تتطلع الإنسانية أن تستَصدر فتوى إبداله بالموت الرحيم! -6- لم يكن لهم أن يحسبوا مَنْ هو عدُوُّهم على الحقيقة بعدما خبروه طوالَ هذا العمر. عرفوه، منذ البداية: إنّه الصهيونيةُ العالميةُ مسنودَةً بحاضنتها الغربية، مسنودةً بكلِّ العتاد الغربي، (وللإشارة، فهذه ليست ثوريات لغوية، بل مآس تمت بيد الغرب، بكل ما ملكته يمينُ العمّ سَام من عُدَّةٍ وعَتادٍ)، عرفوا الصهيونية التي أنشأها الغرب وأنشأ لها المستعمرة الفلسطينية للتكفير عن الذَّنبِ التاريخيِّ، عقدة أوديب الغرب التي تُنَغِّصُ عليه وجودَه. -7- لم يكن لهم أن يحسبوا مَن معهم، مع قضيتهم، عدالةِ قضيتهم، مِن الحكام العرب المهرولين للتطبيع، خصوصا بعد التكالب الإمبريالي على الربيع العربي وتقطيع أوصال الأمة، ما بقي من الأمة وما بقي من أوصالها. وبما أنّ الكوارثَ لا تأتي فُرادى، فقد جاءت الأزمةُ الصحية الجائحة لتسعفَ في إحكام القبضة على شعوب المنطقة. فلم تُخمِد الجائحة كلّ عُنفُوانِ الثوراتِ فحسب، بل أجهزت على البقية الباقية من الجسم العربي المتآكل وقدَّمتُه للسلطويات القائمة التي أوقفته الحاجةُ على الدواء، دواء الموت، من الارتهان مطلقا إليها. فأحكموا ما بقي من قبضةٍ على المؤسّسات الوطنية وساقوا الشعوب قطعاناً مُذعِنةً نحو التطبيعِ الكلّي مع إسرائيل. حتى أنه، في تتالي هذه المآسي، صار بعضُ الغربِ، القريبِ منا، إسبانيا مثلا، صار أَرأَفَ بالقضية من المحسوبين عليها، من ذويها ومن أولي قرباهم! -8- كل هذا وغيره لم يكن للمقاومين أن يحسبوه، لم يكن لهم إلا أن يسلّموا به ويتعايشون معه. إلا أن الجديد، الجديد كلّ الجدّة، و ما لم يكن ليخطر ببال حتى الأكثر تشاؤماً من المقاومين والمتعاطفين مع عدالة قضيتهم، هو أن ينقلب الغرب، كلّ الغرب، ضد تاريخه، ضد المؤسسات التي أفرزها تاريخه الطويل، ضدّ قيمه، ضدّ ما حارب من أجله، ضدّ ما ساد المعمورة باسمه لأكثر من أربعة قرون! هنا تحول مركز القضية الفلسطينية من مركزٍ محلّيٍ جهويٍ، إلى مركز كونيٍّ، مُنبِئا بالتحوّلِ التاريخيّ الذي يعكس عمقَ الأزمةِ الوجوديةِ للغرب في علاقته بهذا الكَيان اليهوديّ المُكوِّن لتاريخه. هذا التحوّلُ هو ما أَلْبَسَ على الناس، عموم الناس قبل خاصّتهم، إشكال حساب الربح والخسارة. وهنا يلزم اعتماد نظر ثاقب، نظر مؤرخ من طينة هايدن وايت، وصَفَهُ مقدم كتابه ما بعد التاريخ (1973)، ب ''أهم مؤرخ عرفه النصف الثاني من القرن الأخير''. -9- فبعد أن يقفَ المؤرخ الأمريكي (1928- 2018) على الإبادات الجماعية السالفة التي عرفها القرن التاسع عشر، في الكونغو، تحت الاستعمار البلجيكي، أو في المستعمرات الألمانية: في الكاميرون، في الطوغو أو ناميبيا، تساءل وايت عن ما يميز هذه الإبادات عن إبادة "الحل النهائي" الذي قام به الألمان تجاه اليهود في أربعينيات القرن العشرين؟ يخلُصُ المؤرخ إلى ما يلي: ''إنّ هذه الإبادات لم تَخلُق لدى الوعيِ العامّ الإنسانيّ نفس الصدمة التي خَلَقَتْها المحرقة. هذه الصدمة، غير المسبوقة حقا، هي التي تفسر لماذا تُثير الأدبياتُ الموثَّقة، وبصفة عامة كل الوثائق المتعلقة بالمحرقة، كلّ هذا الكم من الإشكالات العملية والنظرية في نفس الآن''. "فرادة" المحرقة، "جدّتها" (الكلمتان لهايدن وايت) تكمن أقل ما تكمن في جدة الوسائل (التقنية) التي توسل بها الألمان للقيام بها. ''جِدَّتها تكمن في الأضرار (الخسائر) التي أحدثها اكتشافها والتي طالت القيم الاجتماعية والثقافية التي يفترض أنها تخصُّ الغربَ (وتُمَيِّزهُ)''. لقد كانت الإبادات الجماعية السابقة حقا "صادمة"! إلا أنّها لم تكن "لا تُصدَّق"، "لا تُتَخيَّل" و"لا يُعجَز التعبير عنها"، وهي المفاهيم التي استعملها المؤرخون لوصفها، وكذلك الناس الذين تحمَّلوا مسؤوليتها. هذا الطابع الفريد للمحرقة هو ما يجعل منها، بالمعنى الأساسي للكلمة، ''مسألةً نظريةً''. معنى يستوجب إعادة النظر في المناهج المستعملة عادة للوقوف على الأحداث العامّة. وهو ''ما جعل مسألة "الحل النهائي"، مثلا ، تستدعي إعادة النظر، من جهة، في مفهوم "الحدث التاريخي" نفسه، وتستدعي، من جهة أخرى، إعادة النظر في الطريقة التي تُرتب بها وتُقيم الأدلة التي نتوفر عليها لدمج هذا الصنف أو ذاك من الاحداث تحت "الذاكرة التاريخية" المشتركة''. لقد وقف العالمُ كلُّه، بالصوت والصورة، على الكم من المرات، طوال الخمسة عشر شهراً لهذا الصراع، التي وجدت فيها دولُ الغرب، وقد نكَّلَت برؤساءِ جامعاتِها، كبار مُثقَّفيها ورُموزها، كلها قبل أن ترغمها شعوبها على تغيير موقفها، فتجدُ أمريكا، الحاملة للواء الديموقراطية وحقوق الإنسان، تجدُ نفسَها وحدَها، وجهاً لوجهٍ أمام رأيِها العامّ، أمامَ الرأيِ العامّ العالميّ، أمام المُنظّمات التي قامت لتُحَضِّرَ بها العالم وتُنظِّمه بعد الحرب (البين غربية) الحرب العالمية الثانية! بهذا المعيار تَبُزُّ القضيةُ الفلسطينيةُ القضيةَ اليهوديةَ، أو على الأقلّ تَعْدِلُها! -10- إلا أنّ ما سيصعُبُ علينا، كمقاومةٍ وكمتعاطفينَ معها، بل ما سيصعب علينا كبشرٍ تصوُّره (إلا أنه واردٌ ويشهدُ له تاريخ التحولات التاريخية: كلّ شهداءِ الرأي، كلّ المناضلين الحقوقيين، كلّ الذين سقطوا في الأقبية والسجون دون أن يَنْعَمُوا بالاستقلالات والرَّفَه الذين سقوه بدمائهم)، هو أن نتعالى، في منطق الربح والخسارة هذا وما يستوجبه، عن اشتراط أن يكون ما حققناه، عن ما تمّ تحقيقه على أيدينا، بنبل قضيتنا ودماء شهدائنا، عائدا علينا، نحن أولا، بالمنفعة الملموسة الآن وهنا؛ الأصعبُ هو أن لا نقطفَ، أو لا نكونَ أوّلَ من يقطفُ ويَجني أرباحَ معركته! ما يُربك، ويُضيفُ طابعَ الدراما على قضيتنا، هو أن تكون معركتنا ربحا للإنسان وللإنسانية بتوسيع قضية الحرية، العدالة والكرامة، إلا أنها كانت هي وكان أصحابها هم القربانُ، الضحيةُ والشهيدُ الذي كان لزاما أنْ يموت لتحيا الحياة، الحياة في إبائِها وسمُوُّها؛ الدراما التي نَقفُ عليها هذه الأيام هو أن نكون الشمعةَ التي كان لزاماً أنْ تحترقَ وتذوبَ لتضاء للإنسانية سبلٌ أرحب وأوعى بالإنسان! هنا سأقلعُ عن الكلام، سأنغلبُ لنفسي التي استدرجتني للكتابة. فمقام الترسل الذي جمعني بابنتي في المهجر، على مرأى ومسمع من عمومِ القُراء، والذي أتيت على تقييد خطوته التالية، وآمل، الأخيرة، لا يتحمل الاسترسال في الكتابة، لأنه سيفجّر حدودَ الرسالةِ، سيستلزمُ دراسةً وبحثاً لمقاربةِ دهاليزِ هذا الأفق/ اللاأفق! ''كما لو أنَّ الكتابةَ مَلجأٌ كلَّما استحالَ الكلامُ'' (ولنسمع هذه الكلمةَ، يُتابعُ رولان بارت صاحبَها، كما لو أنَّ قائِلَها طفلٌ). *أستاذ الفلسفة في جامعة القاضي عياض