بلاغة الإهانة في أفعال ترامب وأقواله، والاستجابة العربية المطلوبة يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مصمم على المضي في مخططه المهين للعرب، فتصريحاته وخرجاته الإعلامية تنطق بمنسوب مرتفع من الاحتقار لقادة دول الشرق الأوسط في مقابل مغازلة غير مسبوقة للكيان الصهيوني وزعمائه. لم يكتف ترامب بالقول، بل تجاوزه إلى الفعل، وقد استهل مساره هذا ب"استقدام" العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، مقدما إشارات واضحة، تترجم فكره ونظرته العدائية للعرب، وتكرس منهجه الاستغلالي الذي يضعهم في دائرة الرغبة الملحة في ابتزازهم وإخضاعهم لمنطق استغلالي خالص ممهور بأسلوب الشماتة المعلنة والصراحة الوَقِحَةِ. اختار ترامب أن يُجْلِسَ ملك الأردن أرضا، بخلاف تعامله مع نتنياهو الذي قدمه واقفا في ندوته المشتركة معه، وهذان الموقفان يختزلان نظرته إلى الطرفين، فهو يعمل بكل السبل والطرق من أجل تقوية الكيان الصهيوني، وجعله القوة الضاربة الوحيدة في منطقة شرق المتوسط، ويسعى في المقابل إلى طرح العرب أرضا وتمريغهم في أوحال الإهانة. لهذا المشهد بُعْدٌ آخر، يجعل من الرئيس الأمريكي مستنطقا لملك الأردن، يأخذ منه الأقوال والتصريحات، ويدقق النظر فيه لإرغامه على تقديم التنازلات، حتى إذا استجاب لذلك، تحول معه إلى أستاذ، يعزز إجابته ويثني على اجتهاده، واللحظة التي كشف فيها العاهل الأردني عن استعداد بلاده لاستقبال 2000 طفل فلسطيني تصور بجلاء هذه العلاقة، فاستجابة ترامب كانت كمن ظفر بشيء ثمين، وأحس أنه نجح في ترويض مخاطَبه، وتصريحه أنه لم يسمع هذا الكلام من قبل، يعبر عن خبث ظاهر، فقبل انعقاد الندوة، جرى حوار بين الطرفين، وكان الأولى أن تُطرح الفكرة في هذا الحوار، وليس في الندوة العلنية، وقد أدرك ترامب أنه أربك جليسه، وجعله يستجيب لابتزازه بنظراته التي كانت مركزة، وبحديثه المتكرر عن التهجير، ولم يترك الفرصة تمر دون أن يسجل ذلك، بوصفه انتصارا له ونجاحا لجلسة "تحقيقه" هذه. حضر العلم الإسرائيلي في ندوة نتنياهو وغاب علم الأردن في ندوة الملك عبد الله، وثنائية الحضور والغياب هذه تعكس تصورا مفارقا لمفهوم السيادة، فالرئيس الأمريكي يسارع إلى التأكيد على الاحترام الزائد للكيان الصهيوني، وعلى حقه في بسط نفوذه وتوسيع أرضه، ويقدم نفسه بوصفه خادما فوق العادة للشعب اليهودي، وهو في الوقت نفسه يستهين بسيادة الدول العربية، ويراها مجرد قطع أرضية لا قيمة لها إلا إذا قدمت ثرواتها إليه، أو استقبلت الفلسطينيين وآوتهم، وبوقاحة زائدة يقرر ويعلن ذلك في حضرة المسؤول الأول عن واحدة من الدول المعنية، دون أن يرف له جفن…، فتغييب العلم الأردني كان مدروسا، والموقف السياسي المعلَن يؤكد النية السيئة والدوافع التي تقف وراء هذا التوجه. شعلة النار التي ظهرت في الخلفية لم تكن مجرد وسيلة تدفئة، بقدر ما كانت اختياريا أيقونيا موازيا للمواقف المعلنة من لدن الرئيس الأمريكي الذي لا يتوقف عن تكرار لازمة إحراق الشرق الأوسط، ويتعامل مع "حلفائه" من قادة المنطقة بأسلوب التِّنِّينِ الذي لا يعرف إلا نفث النار إن اعترض سبيله معترض مهما كانت دوافعه، ولايؤمن بحق أحد منهم في أن يرفع عقيرته بقول "لا" في حضرته، لأنه ينظر إليهم لا بوصفهم رؤساء دول لها سيادة، بل أتباعا، له عليهم فضل حماية عروشهم وبقائهم في هرم السلطة. استهل الرئيس الأمريكي حديثه بسردية العلاقة القوية التي تربطه بالملك عبد الله، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد علاقة شخصية بين فردين، وليس بين رئيسي دولتين، وهذا يتساوق مع نهجه القائم على التسلط والابتزاز، فالتذكير بهذه العلاقة يستضمر تهديدا مبطنا بقطعها، وهذا المآل يعني بالنسبة إليه شيئا واحدا، يتمثل في إمكانية إزاحته من عرشه، ولعل في التوصية باصطحاب ولي العهد الأردني إلى البيت الأبيض تلميح واضح بتهديد قطع سلسلة الحكم الهاشمي، وكأن لسان حاله يقول له: هذا ابنك مقبل على الجلوس على العرش، فإياك أن تعارض إرادتي، وإلا ستتسبب في حرمانه من مبتغاه ومبتغاك. فإحضار ملك الأردن إلى البيت الأبيض كان مؤطرا بخلفية التعامل معه، لا بوصفه رئيس دولة، بل رب أسرة، يشرف على أرض بلا سيادة، ومطلوب منه أن يقدم المطلوب منه وإلا أُبْعِدَ عن أرضه، وجنى على نفسه وأسرته. بالمقابل، لاحظنا في الندوة المشتركة مع نتنياهو، استهلال الرئيس الأمريكي كلامه بتقديم نفسه خادما للدول العبرية، وقد تحدث بضمير جمع المتكلمين (نحن) الذي يدل على اندماج الذاتين وانصهارهما في بعضهما، ونهوضهما بفعل واحد، وتقاسمهما هما مشتركا. لم يتحدث ترامب في مستهل كلامه عن علاقته الشخصية بنتنياهو، وإنما عن علاقته الوطيدة بالكيان الصهيوني، وقد أسهب في تعداد خدماته لصالح هذا الكيان (الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل – الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان – السلام الإبراهيمي – محاربة أعداء إسرائيل…). نتجت عن هذين الموقفين المتناقضين، استجابتان مختلفتان كل الاختلاف، فبالنسبة إلى الملك عبد الله لاحظنا اضطرابه من خلال عينيه اللتين لم تتوقفا عن الحركة، ورؤيته التي ظلت في أغلب الفترات مركَّزة في وجه ترامب، كأنه يبحث عن خلاص في صورة ابتسامة أو إيماءة بالرضا، تريحه من قلقه وضيقه الذي تفسره كذلك حركة أصابع يديه، فقد ظل في أغلب الوقت مشبكا إياها، مما يعني إحساسه بقيد اللحظة الثقيل، وشعوره بعدم القدرة على الفعل، وإدراكه بأنه مقيَّد برباط ثور هائج، يوشك أن ينطحه. في المقابل لاحظنا انشراحا كبيرا وابتسامة دائمة لدى نتنياهو، وكأنه شعر أن المتحدث ليس الرئيس الأمريكي، وإنما مجرد مسؤول ملحق بحكومته الصهيونية، يسعى لطلب رضاه، ويجتهد لنيل شرف خدمته، وقسمات وجهه وحركات يديه كانت تنطق طيلة الندوة بإحساسه بالانتشاء بلحظة منفلتة من قيد الزمن، وبقدرته على تطويع رئيس أكبر دولة، وإلحاقه في صفوف الخدمة المفتوحة للكيان الصهيوني. تدل كل هذه المؤشرات على شيء واحد ووحيد، يتمثل في نرجسية غريبة، لا يكتفي صاحبها بالإذلال وتحقيق مطلبه، بل يحرص على إذاعة فعله وإشهاره، وتسويق نفسه في صورة المنتصر المذِل للجميع، وهذا "الإحضار تحت الإكراه" للعاهل الأردني مظهر صارخ للأنا النرجسية المتضخمة للرئيس الأمريكي الجديد، فمعلوم أن الزيارات الرئاسية المرتبطة بالقضايا الكبرى تسبقها لقاءات وزارية بين وزارء ومسؤولي الدولتين، وزيارة الرئيس تكون فقط لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق الحاصل والتوقيع عليه، والندوة الصحفية تأتي لبسط عناصر هذا الاتفاق وإظهار فوائده وإيجابياته على الطرفين، وإن حدث خلاف، تلغى الندوة الصحفية. في حالة ترامب وعبد الله الثاني، أَحْضَرَ الأولُ الثاني، وقفز على المفاوضات التي يجب أن تجري بين مسؤولي الدولتين، وأرغمه على سماع أشياء كثيرة خادشة للسيادة، وتحدث في حضرته بوقاحة عن تخصيص جزء من أرض الأردن لتوطين الفلسطينيين، وأشار بكثير من الصفاقة إلى حتمية نجاح إسرائيل في ضم الضفة الغربية، ومعلوم أن هذه القطعة من فلسطين مجاورة للأردن، وكل تهجير لأهلها سيكون على حساب الأردنيين وأرضهم. يبدو أن شريط الإذلال سيستمر مع هذا الثور الهائج، ولا مناص لوقفه إلا بتقوية الجبهات العربية الداخلية، ووعي الحكام والشعوب بالمصير المشترك، فالحاكم يجب أن يدرك أن شعبه هو الضامن لقوته وممانعته، والشعوب لابد أن تعي أنها في لحظة مفصلية، وأن من واجبها أن تساند حكامها وتقف إلى جانبهم، والمسؤولية ملقاة على الجميع من أجل مصالحة تاريخية، تزول فيها كل الألوان، ويبقى فيها فقط لون الوطن.