لم يعد المغرب بعد 20 فبراير كما كان قبلها . ولن يبقى أي فاعل في الحقل السياسي المغربي كما كان قبلها ، سواء تعلق الأمر بالدولة وأجهزتها أو بالأحزاب السياسية والنقابات ومكونات المجتمع المدني الأخرى ، ومن لم يستوعب هذا المستجد الكبير في وقته سيجد نفسه بعد حين مرميا في مزبلة التاريخ . فالتغيير الذي أطلق ديناميته شباب حركة 20 فبراير ليس سياسيا فقط ، بل هو ثقافي أيضا وشامل للدولة والقوى السياسية والنقابية والجمعيات والمقاولات وللنساء والرجال ولمختلف الأجيال ولن يتأخر في توليد منظومة ثقافية وحضارية جامعة محفزة على التقدم ومحررة من العتيق والرجعي في ثقافتنا الاجتماعية ،وهذا هو الأهم بالنسبة للمغرب حاضرا ومستقبلا . ذلك أن خطاب هذه الحركة مند بيانها الأول، الذي قرأه الشاب أسامة الخليفي وتم بثه على يوتوب وتداوله عبر المواقع الاجتماعية والمايل والهواتف النقالة ، يعبر عن مجيئ جيل جديد، متعلم، حامل لقيم جديدة منفتحة على العصر والقيم التي تنتشر فيه ومتفاعل مع التغيرات الكبرى التي حفرت مجراها في مختلف أقاليم العالم المتقدمة والسائرة في طريق التنمية،ومطالب بالتحرر من أسر التأخروالاستبداد، وسيلته الأساسية إلى ذلك الأنترنيت والويب والمواقع الاجتماعية التي مكنته من الانعتاق من كثير من القوالب الجاهزة التي تصون و تكرس الوضع القائم وأكسبته الشجاعة على التعبير على ما يعتقده ويراه دون اعتبار لما تعارف المجتمع على اعتباره خطوطا حمراء وما نصبه من حواجز أمام الأنظاروالعقول بدعوى الخصوصية التي استعملت بفجاجة ورداءة على امتداد زمن طويل أخضع فيه الناس للخرافات وسلطها . ولعل أول تلك القيم وأكثرها بروزا في خطاب شباب 20 فبراير ، بل وقيمة القيم ، هي الديمقراطية ،وهذا جديد بالمقارنة مع الأجيال السابقة ، حيث يتضح أن هذا الجيل يعتبر إنهاء الاستبداد و إيجاد الحل المناسب لمشكلة الديمقراطية على أساس اعتماد معايير دستورية وقانونية وسياسية ومؤسسات متماشية مع ماهو متعارف عليه في البلدان التي بنت ديمقراطية حقيقية أولوية الأولويات و الباب الواجب ولوجه بدون تردد أو تأخير ، وبدون ترقيع أيضا ، لإيجاد حلول لباقي مشاكل المغرب التي استعصت على الحل مند الاستقلال ، سواء تعلق الأمربالفساد السياسي والقضائي والإداري أو باحتكار الثروة والسلطة أو باستغلال النفوذ أو بضعف النمو والتنمية أوبالفوارق الاجتماعية والمجالية أوبمستوى الخدمات الأساسية أو ...، وهي كلها مشاكل كانت حاضرة في خطاب وشعارات مسيرات 20 فبرايرومابعدها. إذ يعتبر هذا الشباب استمرار وصيانة مظاهر الاستبداد ، ومعها الثقافة المؤسسة والمبررة لها والسلوكات المترتبة عليها ، استهانة بالذكاء وحطا من الكرامة الإنسانية وإهدارا لفرص التقدم والرقي الجماعي وكلفة باهضة وإساءة للمغرب والمغاربة . وعلى عكس ما أبدته بعض الأحزاب الديمقراطية إلى وقت قصير من تردد في طرح الإصلاح الديمقراطي في شموليته متدرعة بالظروف والتمرحل وميزان القوى ،وهي درائع استعملها ودافع عنها البعض بدوافع مصلحية وذاتية ضيقة ، فإن شباب 20 فبراير كانت له جرأة الدعوة إلى إصلاح ديمقراطي شامل يقوم على أساس دستور ديمقراطي يحدد مسار البلاد على المدى البعيد نحو بناء ديمقراطي حقيقي ومتين وإصلاح سياسي شامل ينهي التحكم المخزني في الحياة السياسية ويجعل المساءلة وتقديم الحساب أمام الشعب المغربي قاعدة ذهبية ووضع نظام وطني للنزاهة لإنهاء الفساد والرشوة واستغلال النفود والممارسات الاحتكارية .، وبدل الطرق العتيقة ومفاوضات الكواليس التي بقيت القوى الديمقراطية رهينة لها في طرحها للإصلاح ، فقد اختار شباب 20فبراير التعبئة لطرح الإصلاح في الشارع عبر تنظيم مسيرات في مختلف أقاليم البلاد ودعوة المواطنين ، وكل القوى التي ترغب في التغيير الديمقراطي بلا استثناء ، إلى المشاركة فيها طوعيا وتلقائيا ، وهو ماخلق معطى جديدا في الساحة . ولايجب في هذا السياق مقارنة الوقفات أو المظاهرات التي نظمت من قبل بالوقفات والمظاهرات التي دعت إليها حركة 20 فبراير ، لأن الفرق جوهري . فالمسيرات والوقفات التي تنظم اليوم تطلق مبادرة ديمقراطية وحضارية جديدة تستعمل الإمكانيات الهائلة التي باتت تتيحها الإعلاميات والأنترتيت المواقع على الشبكة العنكبوتية وتروم الانتقال من السياسة التي تمارس من فوق على أساس المركزية والإطارات المغلقة التي تشغل آليات الإخضاع أو النبذ بناء على إيديولوجيات صاغتها تجارب واقعية ،ليبرالية واشتراكية وإسلامية...،تبدو مستنفدة في العالم أجمع اليوم إلى سياسة تشاركية تقوم على الإدماج واستيعاب التعدد تعيد الاعتبار للقيم الأصلية للديمقراطية، باعتبارها حكم الشرعية الشعبية ، وللمواطنة و المواطنين الحاضرين في الساحة – المدينة- الجماعة وحتى القرية المسؤولين ليس فقط على اختيار من يمثلهم وإنماعلى مراقبتهم أيضا عبر استعمال إمكانيات الإعلاميات والأنترنيت والمواقع الاجتماعية وغيرها ، أو مابات يعرف بالسيبر ديمقراطية ، مع إمكانية إسقاطهم عندما يتنصلون من التزاماتهم أو ينقطعون عن ناخبيهم أو يتحولون إلى أصوات في خدمة لوبيات مصلحية ضيقة الأفق. إنه تغيير كبير يبدأ اليوم. فحركة شباب 20 فبراير، وخلافا للقوى السياسية التقليدية المجترة لحزبية تعود إلى القرن التاسع عشر ، ليس في أجندتها الوصول للحكم أو التفاوض على مواقع فيه ،وإنما تسعى إلى تعبئة جماهيرية من أجل إنهاء الاستبداد والدخول فعليا إلى عهد جديد قائم على الديمقراطية واستيعاب مكاسب البشرية المتقدمة ، وهو ما يقوي مصداقيتها ، وما يجعل منها حركة تحريرية ديمقراطية تعلي من شأن الوطن ،مع التأكيد على التشبث بوحدته ، وتحترم ذكاء الشعب المغربي وتحفظ له كرامته وتترفع عن الطمع وحساباته الهابطة التي ورطت من خاضوا فيها في الوضعيات التي وجدوا فيها أنفسهم بعدما بدأت نتائج حركة 20 فبراير تظهر تباعا في شكل مكاسب تحتاج إلى الحماية والتطوير والاستكمال .ولعل أولئك الذين سارعوا إلى مطالبة شبابها بالاندماج في العمل السياسي الحزبي أو من يتعاملون مع هذا الشباب من منطلق حزبي مغلق ومنغلق أو يتهافتون على الاستقطاب وسطهم بطرق متقادمة لم يفهموا شيئا مما جرى ويجري في العالم العربي وما ستنتقل عدواه إلى خارج هذه الرقعة الجغرافية والثقافية التي تبين حجم المشترك بينها الذي لا يتحدد بالماضي فقط. ومن المؤكد اليوم أن حركة 20 فبراير قد جعلت مختلف القوى التي اندمجت بها أو ساندتها وتبنت مطالبها ، ومعها المواطنين الذين رأوا فيها تعبيرا عنهم ، سواء شاركوا في المسيرات والوقفات التي دعت إليها أم لم يشاركوا ، وكذلك القوى التي ترددت في التعبير عن المساندة ، تتغير ، مما يجعل منها ، في العمق ،ثورة ثقافية حقيقية سيكون لها أثر بعيد المدى على مستقبل السياسة والتفكير فيها وممارستها في المغرب . فالإسلامي مثل اليساري والوسطي مطالبين اليوم بتوضيح الموقف من الديمقراطية كما طرحتها حركة 20 فبراير وبالاستعداد للدخول إلى مرحلة جديدة سيكون على كل القوى التي ترغب، تلقائيا وبعيدا عن أي توجيه مخزني ،في ضمان حضور ومشاركة فيها الاستعداد للمساءلة وتقديم الحساب ، ذلك أن حركة الشباب أسقطت عدم تقديم الحساب والإفلات من العقاب وأنهت كل الممارسات التحكمية التي ترسخت على مدى 50 سنة وأدخلت الحزب المخزني الأغلبي الذي صنع للتحكم في الأغلبية والمعارضة في أزمة عميقة لامخرج لأصحاب أصله التجاري منهاغير إغلاق أبوابه وإعادة المفاتيح لوزارة الداخلية ، إذ انتهى الهمة والعماري ومن معهما سياسيا وكل محاولة لإعادتهما سينظر إليها على أنها ردة واستفزاز لرأي عام أدان إفساد حزب الأصالة والمعاصرة للحياة السياسية بدريعة التصدي للاسلاميين ،وأزمت وضعية الأتباع الذين راهنوا على اكتساحه للحياة السياسية والسيطرة على مصائر الشعب المغربي، ولن ينفع تكوين مايسمى بحركة 9 مارس ودعمها من طرف البوليس إلا في توريط من دعوا إليها في أم الفضائح . وسيكون على كل القوى الراغبة في الحضور والاستمرار كذلك وضع برامج مدروسة ومدققة للاستجابة لحاجيات المغاربة في مختلف الميادين ولمنح أبناء وبنات المغاربة نفس الحظوظ وللتقدم بالبلاد وتقوية حضورها في الجغرافيا السياسية الجهوية والعالمية وجلب المنافع وبالتالي الانخراط بقوة في مسار الحداثة والتقدم ، وهو ما يعني تغير الجميع وتكيف أجيال اليساريين والاسلاميين وغيرهم مع ثقافة جيل ديمقراطي يعود إليه فضل التحدي وإطلاق مسيرة التغيير ، فالانتخابات ، التي هي أساس الديمقراطية ، لا يمكن أن تجري كما كان عليه الأمر في الماضي ، ولن يكون مسموحا تعبئة الأعيان واستخدام الأموال غير المعروفة المصادر كما كان يجري من قبل ،والمؤسسات المنتخبة لايمكن أن تبقى مفرغة من المحتوى الديمقراطي وخاضعة للتوجيه من فوق ، والحكومات لايمكن تكوينها بالطرق المتبعة اليوم بوزراء سيادة بلا لون ولاطعم أو برداء حزبي مفروض في آخر لحظة على أحزاب بلا استقلالية ولا إرادة ، لأن أي عودة إلى هذه الممارسات الاستبدادية سيكون معناها الرغبة في مصادرة الإصلاح أو الالتفاف عليه ، وسيستدعي الأمر عودة الشباب للدفاع عن الديمقراطية بالوسائل الجديدة لحمايتها من لصوص الإرادات والمتاجرين بكل شئ . ويبدو اليوم أن الملك قد استمع لتعبيرات الشباب وتجاوب مع عدد من المطالب التي عبر عنها فيما يتعلق بإصلاح الدستورفي خطاب 9 مارس ، غير أنه يتبين أن هذا التجاوب ، الذي يحتاج إلى الدعم بمبادرات أخرى تجعل الأفق واضحا بشكل لاغبار عليه ،إذا كان قد أرضى بنسبة ما المتطلعين إلى الإصلاح والتغيير في اتجاه بناء نظام ديمقراطي وجعلهم ينتقلون إلى مرحلة تدقيق المطالب أو المقترحات ، فإنه لم يرض بعض من يرون أن المغرب يفلت من قبضتهم ومن نفوذهم وشططهم ، ولذلك يخشى أن يناوروا بكل الوسائل كي "يتمخض الجبل فيلد فأرا" ، خصوصا وأنهم منتشرين في المحيط القريب من الملك و السلطة والأجهزة البوليسية والأوساط المغتنية بالريع وأحزاب الإدارة .. ، ويخشى أن يعملوا بكل الوسائل لجعل ثقافتهم العتيقة والمتأخرة تدحر الثقافة الوليدة الديمقراطية التي مكنت من تعبئة قطاع عريض من الشباب ، ومن غير الشباب أيضا ، وخلق الشروط المناسبة لهم للدفع في اتجاه تراجع منظم أو غير منظم حتى ولو أدى ذلك إلى تعفين الأجواء وخلق أوضاع بالغة الخطورة . هذا ما يفرض اليوم، وبإلحاح ، استمرار التعبئة وتقويتها وسط المجتمع في المرحلة المقبلة ، لضمان الالتزام بما ورد في الخطاب الملكي، الذي أبقى الباب مفتوحا، من طرف اللجنة المحدثة لمراجعة الدستور ومن طرف الأحزاب السياسية كي لا يتأتى للقوى المحافظة أن تحرف المسار أو أن تفرض التراجع أو تنسف كل شئ ، كما وقع لدى إحداث لجنة الدستور في بداية ستينات القرن الماضي ، ولضمان استكمال الإصلاح والتجاوب مع مطالب الشعب المغربي في هذه المرحلة، وفي مقدمتها مطلب الملكية البرلمانية بطبيعة الحال ، وأيضا لضمان استمرار عملية التحويل الثقافي الذي بدأ في اتجاه الانخراط في الحداثة ،التي لايستقيم البناء الديمقراطي بدونها ، وهو عنصر بالغ الأهمية في كل ما حدث وما سيحدث ، وهو مالم يلتقطه أولئك الذين مازالوا ينظرون إلى العالم من منظور مانوي ويتصرفون بعشوائية واضحة تحركها الأحقاد أكثر مما يحركها التحليل المنطقي العقلاني . إن أجهزة بوليسية وسلطوية وإدارية وسياسية غارقة في تأخرها تفضح حقيقتها اليوم كأجهزة لاتعرف شيئا آخر غير سلوك التدمير وزرع الشلل والانتقام تشجع و تباشر قمعا شرسا ضد الوقفات والمسيرات السلمية، مرفوقا بتسخير أقلام وأصوات في خدمة البوليس وجهات نافدة ،تهدف من ورائه إلى تخويف المجتمع وتنيه عن دعم حركة 20فبرايرومبادراتها النضالية من جهة وإلى الدفع نحو التطرف من جهة أخرى ، لكنه من الواضح أن لعبتها هذه ستنقلب ضدها ، لأن الشباب يمتلك من الوعي مايؤهله لفهم كل المناورات وإفشالها ، خصوصا وأنه استطاع أن يفشل مناورات كبرى قبل 20فبرايركشفت عن كلخ مبين لأصحابها. لقد بدأ التغيير ولن يكون بمقدور أحد توقيف عجلته . ويمكن لمن يرغب في تأسيس حركة 9مارس أو غيرها ان يقوم بذلك وأن يعتمد على المقدمين والشيوخ والقياد والباشوات والعمال وأجهزة البوليس لكي يعبأوا له الناس ويحضروهم له في الشاحنات المقرصنة ، لكنه لن يجني من وراء ذلك غير العار ، لأن 20 فبراير أحدثت مفعولها بشكل لارجعة فيه .