أشرت في مقال أمس إلى أن عودة "ترامب" الهوليودية لن توقف عجلة التاريخ ، و أن أمريكا إلى أفول ، و أن من يراهن على ترامب و عودة أمريكا لعصرها الذهبي ، إنما يراهن على "الرِيح" ، فالعالم يعيش لحظة تاريخية فاصلة، و عنوانها الأكبر صعود المستضعفين من جديد على المسرح الإقليمي و الدولي، و فضحهم لحقيقة الإستغلال و الاحتكار و الدمار ، و كشفهم لخطر الأوليغارشية العالمية المتحكمة في الموارد و الإعلام و صناعة القيم، هذه الأوليغارشية التي لا ترى في غزة سوى شريط ساحلي قابل للإستثمار السياحي المجدي و توطين الشركات ذات الأبراج العالية ، و لا يرون في غزة حضارة شعب محتل و سلبت حقوقه ، منذ ان قرر بعض المتحكمين في مقدرات عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى ، خلق كيان إستيطاني إسمه "إسرائيل" بقلب العالم العربي و الإسلامي ، ليلعب دور وظيفي محدد ، بمعنى منع المارد الأخضر من النهوض مجددا ، لكن رغم كل القيود و السدود و الوعود إلا أن الغلبة ستكون من نصيب أهل الحق ، وهذا ما أكدته غزة و طوفانها العظيم .. * المنطق الترامبي: فمنطق ترامب و من يدور في فلكه ، منطق قائم على الصفقات و تحويل كل شيء إلى دولارات في تجسيد واضح و صريح لعقيدة العجل الذهبي التي شرحتها في وقت سابق، و هذا المنطق ليس مرده أن الرجل تاجر و رجل أعمال ، و لكن الأمر أكبر و أعمق من ذلك بكثير ، فالرجل لا تاريخ له و لا يحمل في عنقه أمانات الماضي و لا مواثيق و عهود أسلافه، فأمريكا دولة حديثة النشأة و لا تاريخ لها ، فأمريكا النسخة المكررة و الكبرى لإسرائيل ، فكلاهما قام على أساس الإرهاب و السلب و الإبادة .. * نشأة أمريكا: فأمريكا بدأت أولى خطواتها بأقسى أنواع الإرهاب وأبادت الملايين من السكان الأصليين للبلاد وارتكبت بحقهم أبشع المجازر وأذاقتهم صنوف التعذيب والمعاناة، ثم بعد ذلك كله كتموا المذابح وأخفوا الحقيقة التاريخية عن الجماهير، لتبقى صورة الهنود الحمر هي ذاك الرجل البدائي الذي لا يفقه شيئا من الحياة..فقد سمح المستعمر القادم من وراء البحار لنفسه باستعمار قارة بأكملها، باستخدام و توظيف خطاب تنويري و ديني، فقد إعتمد على ذات الحجج التي استعملها المستعمر الصهيوني لإحتلال فلسطين و من ذلك تخلف سكان المكان و الرغبة بتطويرهم ، أو عدم وجود بشرٍ أصلًا ، كما إستخدم شعارات دينية و معتقدات مقدسة لتبرير القتل و الإبادة فالنهب عند البيض عقيدة، وقتل الآخرين عبادة.. * الديمقراطية في أميركا: فالولايات المتحدة حديثة النشأة، لكن ذلك لا يمنع من أن لها شعب متعدد و متنوع و مجتمع مدني قوي و قد شرح المؤرخ والسياسي الفرنسي ألكسي دو توكفيل (1805-1859) في كتابه " الديمقراطية في أميركا" منهجية عمل المؤسسات الأميركية، وكيف تأسس المجتمع الديمقراطي الليبرالي القائم على المساواة الاجتماعية، و أهم ما أثار انتباهه في أميركا هو تساوي المراتب، وأنه اكتشف ما لهذا التساوي من تأثير مذهل في توازن المجتمع يتجاوز القوانين.. ويبيّن دو توكفيل تصوره للمجتمع الذي يطمح إليه، وهو مجتمع يرى الفرد فيه أن القانونَ صنيعُه، يستحسن أحكامه ويرضخ له دونما مشقّة، وإذ يمتلك حقوقًا ويطمئن إلى احتفاظه بها من دون منازع تنشأ ثقةٌ متينة بين الطبقات قاطبةً، وتسامح متبادل مجرد من الغرور أو الوضاعة، عندئذ تحل المشاركة الطوعية للمواطنين محل النفوذ الفردي للنبلاء، وتغدو الدولة بمنأى عن الطغيان، وفي مجتمعها مقدار أقل من البؤس، والرخاء فيه أعم وأشمل من الكدر، والجهالة أندر من العلوم، والمشاعر أقل احتدامًا، والعادات ألطف، والجرائم أقل شيوعًا من الرذائل. ولأن كل إنسان مساوٍ للآخر بضعفه، سيشعر بحاجة مساوية إلى أمثاله، وأن مصلحته الخاصة مقترنة بمصالح العامة ويقول في حالة تمني وتطلع: " من دون أدنى شك أننا، عاجلًا أم آجلًا، سنبلغ المساواة شبه التامّة في المراتب على غرار الأميركيين، رغم أني بعيد عن الاعتقاد بأنهم اهتدوا إلى شكل الحكومة الوحيدة الذي قد توفّره الديمقراطية لنفسها." * جيل ستاين: هذا ما كتبه دوكتفيل بعد سفره لأمريكا سنة 1931، و الواقع أن أمريكا 2024 تستحق إدارة سياسية أفضل من الإدارات التي تعاقبت على حكمها خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كما أن ساكنتها و مواطنيها يستحقون توسيع خياراتهم السياسية، و عدم الارتهان للونين الأحمر و الأزرق.. فهناك من لا يعلم ليومنا هذا تحت تأثير الضغط الإعلامي، أن هناك أحزاب و ألوان سياسية أخرى بهذا البلد، و أهم هذه الأحزاب التي لتحظى بتغطية إعلامية غير كافية، حزب الخضر الأمريكي و الذي تتزعمه السيدة "جيل ستاين" و التي حصلت على حوالي نصف أغلب أصوات المسلمين الأمريكيين.. هذه السيدة التي عبرت عن مواقف نبيلة و مشرفة ، و أدانت موقف إدارة بايدن من جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بسلاح أمريكي و قد قالت في إحدى تصريحاتها قبل الانتخابات الأخيرة: " حتى تصبح فلسطين حرة ، لا يمكن لأي أحد أن يكون حرا ، فما يحدث في غزة يؤثر علينا جميعا و نحن ننظر على تطبيع تعذيب و قتل الأطفال على نطاق صناعي هذا لا يغتفر تماما، هذا يشبه قمة الإمبراطورية و ما الخطأ في الإبادة الجماعية؟ ما الخطأ في حكم القلة؟ ما الخطأ في الإستعمار؟ ما الخطأ في الفاشية ؟ هذا كله يجتمع في هذه الإبادة الجارية في غزة و هذا هو تتويج ما يقرب من قرن من الاحتلال و التطهير العرقي و دولة الفصل العنصري في "إسرائيل" و إذا ما سمحنا بحدوث هذا فإننا نسمح بتدمير حقوق الإنسان و القانون الدولي كما يحدث في غزة فإنه يؤثر فينا جميعا، هل نريد أن يبدو المستقبل هكذا؟ لا بالتأكيد لا يمكننا النظر إلى هذا الأمر ليوم واحد و الأمر هو أن إسرائيل لا يمكنها فعل هذا ليوم واحد بدون دولاراتنا الضريبية و تدخل حكومتنا لدعم نتنياهو لذا يمكننا إيقاف هذا من غير المعقول تماما أن يحدث هذا بأموال ضرائبنا و بإسمنا ، يمكننا إيقاف هذا، الشعب الأمريكي بالفعل يريد إيقافه و شكرا لأولئك الذين يقفون مع فلسطين أولئك الذين يقفون ضد الإبادة الجماعية ، الشعب الأمريكي قد اقتنع ، لذا فإنه يبدو أن الديموقراطية قد انتصرت الفعل هنا، المشكلة هي أننا لا نملك ديموقراطية و قيادتنا الإجرامية الحربية تنفذ هذه الإبادة نحن الشعب نرفض السماح بحدوث هذا هم يحاولون تلفيق الموافقة إنهم يشغلون بشكل جنوني الدعاية الخاصة بهم و الشعب الأمريكي لا يشتري ذلك ، لذا فإن المسألة تتعلق فقط بوقوفنا و مطالبتنا بإيقافه، و الإيقاف هو سهل كالاتصال الهاتفي .." * الاحتكار السياسي : فأحداث غزة كشفت حقيقة الديموقراطية الأمريكية و الغربية العرجاء ، فالشعوب في واد و الحكومات في واد أخر، فقطاعات واسعة من الشعب الأمريكي خرجت للإحتجاج و عبرت عبر مختلف الوسائل عن رفضها لجرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بدعم من حكومة بلادهم ..لذلك، فأمريكا في حاجة إلى تغيير سياسي ينسجم مع تطلعات هذا الشعب الذي يستحق حكومة و إدارة سياسية أفضل ، وتجاوز الاحتكار السياسي الذي يمارسه اللون الأحمر أو الأزرق ، و الحد من سطوة المال و الإعلام في صناعة إختيار النخب السياسية..فصوت المتضامنين مع غزة يعبر عن تطلع لأمريكا خضراء لا حمراء و لا زرقاء، أمريكا المتصالحة مع البيئة و الإنسان ، بعيدا عن الثلوث البيئي و السياسي و خرافات غزو المريخ و استيطان الكواكب الأخرى و ضمان السيطرة على مقدرات العالم موارده … و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.. كاتب و أستاذ جامعي مغربي