"حاصرت" الحرب وأهوالها الصحفي المغربي عبد الرحيم التوراني في بيروت الجريحة، وهو الذي تعود التردد عليها والإقامة بين أهلها كلما زار أهله هناك، لكن الحرب التي باغتت اللبنانيين وحاصرت بلدهم من الجو والبر والبحر، فرضت عليه المكوث هناك في انتظار ساعة الفرج والنجاة. ومع مرور الوقت وجد التوراني نفسه في قلب تجربة صعبة، وهو الانسان المبدع والمبدئي الذي لم يٌخف هواه يوما لبيروتوللبنان بكل يقاعه ولأهله بمختلف أطيافهم، فخط َّ مجموعة الخواطر التي ننشرها هنا، وهي عبارة عن لحظات ولقطات مسروقة من وقت مستقطع ما بين غارة وأخرى، تحكي لنا عن اليومي والإنساني والوجداني والذاتي والموضوعي.
*** *** **ّ لا يكاد يمر نهار أو ليلة من دون حدوث هذا الترهيب الناتج عن دوي عالٍ شبيه بالانفجار.. كل يوم يتكرر "خرق جدار الصوت"، في عملية ترهيب نفسي مروعة، بسرعة تفوق سرعة الصوت.. عندما يغيب هذا "الخرق" أتساءل في سري كيف لم يحدث..؟ وكلما تكرر الخرق ينتصب معه رد الفعل الأول نفسه.. خصوصا إذا كان قريبا من سمائك.. ستحس وتشعر أن القصف فوق سقفك ورأسك تماما.. وإذا كانت النوافذ مقفلة فإن صوت ارتطام الزجاج سيكون قويا إن لم يتعرض للكسر أو إلى التصدع.. أركض نحو النافذة.. ثم أتوقف قبل أن أقترب منها بحذر.. أرفع ببطء جانبا من قماشة الستارة.. أتطلع إلى السماء باحثا عن أثر دخان.. أريد أن أتأكد.. هل الدوي المرعب ناتج عن ضربة صاروخية أم مجرد خرق لحاجز الصوت؟!.. أتنفس لما يصل إلى سمعي هدير طائرة حربية إسرائيلية.. أتطلع أمامي.. أصادف أحد الجيران واقفا على شرفة شقته في الطابق الثالث من المبنى المجاور.. على شفتيه سيجارة تحترق.. يلبس تي- شيرت أبيضَ وسروالاً قصيراً.. هنا الصيف لا يزال يتحكم في عقارب ساعات الخريف… يكتمل المشهد بالتحاق طفلين صغيرين يقفان جنب والدهما في البلكون.. ثم تمتلئ باقي الشرفات الأخرى المجاورة.. نساء ورجال.. الكل يراقب السماء.. مثلما أفعل أنا.. والجميع ازدحمت عيناه بنظرة استكشاف وغضب وأمل يرفض أن يهزم ويصارع اليأس… لم تكن غارة إذن.. لكن من أين تأتي هذه الرائحة النفاذة لجثث آدمية.. أحسها تتخثر في أنفي.. أُصَابُ بالدُّوار.. أستلقي فوق الكنبة.. لا أحتمل أكثر.. أستجير بعدم الفهم.. إني لا أريد أن أكون أسيرا سهلا للهواجس القاتلة.. وقد أصبحت من شهود العيان على جرائم الصهاينة الغادرة.. ما من شك أني أعاني من اضطراب ما بعد الصدمة.. دوي خرق جدار الصوت الذي فوق سقف المبنى كالزلزال.. مع دوي انفجارات القصف الإسرائيلي التي تصل من الضاحية الجنوبية، ومن النبطية في الجنوب، وغيرها من المناطق الموجودة بجبل لبنان وبإقليم الشوف.. *** يتواصل الهجوم على مناطق لبنان ولا يتوقف القصف، وعدد الضحايا في تزايد مستمر.. لا زال الشعب اللبناني يتذكر فظائع الحرب الأهلية، ما بين عامي 1975 و1990. لبنان لم يتعافَ بعد من ويلات تلك الحرب وما تلاها من حروب مع إسرائيل.. الناس لا ترغب في تكرار عيش تلك التجربة. إرث الحرب الأهلية التي استمرت على مدار 15 عامًا، قتل حوالي 144 ألف شخص، وأصيب 200 ألف آخرين. وتشير تقديرات مستقلة إلى أن 17 ألف لبناني قد اختطفوا أو "اختفوا"، وقد فشلت السلطات في اتخاذ إجراءات لتوضيح مصيرهم. اليوم، مسلمون من السنة ومن الشيعة أيضا، ومعهم مسيحيون موارنة، يرفضون استمرار وقوع بلدهم في أتون الحرب مرة جديدة.. إنهم يتذكرون، من بين أمور أخرى، مخاطر الحرب الصعبة عام 2006، قبل 18 عاما، عندما تم تدمير البنية التحتية في البلد. ليست كل القوى السياسية تؤيد الحرب مع إسرائيل.. لكن فرص تهدئة التصعيد تتضاءل كل مرة.. لوحات انتشرت قبل الحرب وبعدها بشوارع وطرقات لبنان *** في قطاع غزة، ينظر الناس إلى الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر من العام الماضي، باعتباره خطأً أدى إلى تدمير البنية التحتية المدنية ومقتل عدد لا يحصى من المدنيين. في لبنان اليوم، يظهر أن شعبية حزب الله في تذبذب، بل إن هذا التذبذب أو التراجع بدأ منذ مشاركة حزب الله في الدفاع عن نظام بشار الأسد في سوريا.. ولا يستبعد بعض الخبراء والمحللين أن الاختراق الاستخباراتي الذي حدث في أجهزة الحزب بدأ منذ تلك اللحظة.. وتراجع شعبية الحزب اليوم هي بوتيرة فاقت ما نتج بعد مصرع الزعيم السني رفيق الحريري المعارض لحزب الله ولسوريا، بعد أن أشارات الأدلة إلى تورط سوريا مع حزب الله في عملية الاغتيال.. *** بتهجير أعداد هائلة من الشيعة من بلداتهم الجنوبية، يفقد الحزب حاضنته الشعبية، وفي مناطق الشمال يتوجس كثير من السكان من تواجد أحد أعضاء حزب الله بين ظهرانيهم.. في إحدى المناطق المسيحية، أجبر السكان نازحا من حزب الله على مغادرة منطقتهم… *** نجحت إسرائيل في اختراق حزب الله واغتيال قادته الميدانيين وتصفية زعيمه حسن نصر الله، لا ريب أن هذا شكَّل ضربةً أكيدة للحزب.. إلا أن إسرائيل لم تحصل بالضرورة على التأثير المطلوب، ولم يتحقق هدفها بالكامل بإضعاف معنويات مقاتلي حزب الله وصواريخه التي لا زالت تصل شمال دولة الاحتلال.. *** خلال ما يعرف ب "ثورة تشرين" في لبنان 2019، كنت أحرص على النزول بشكل منتظم إلى وسط بيروت.. إلى ساحة الشهداء، حيث كانت تتجمع الحشود الكبيرة من الشباب اللبناني ومن النشطاء والمثقفين، المطالبين بالتغيير وبإسقاط دولة الطوائف وإبعاد أمراء الحرب الأهلية عن مقاليد السلطة.. كانوا يجيئون بأعداد كبيرة، عائلات بكبارها وصغارها، مناضلون مستقلون، من تيارات مخنلفة، منها تيار "اليسار الديمقراطي"، مناضلو منظمة العمل الشيوعي، وقتها كان محسن ابراهيم، المؤسس والقيادي التاريخي للمنظمة، طريح الفراش في احتضار طويل..، منشقون عن الحزب الشيوعي الذي رضخت قيادته لحزب الله، حتى انطبقت عليه العبارة الساخرة (الحزب الشيوعي لصاحبه حزب الله)، بعد أن أصبحت القيادة الشيوعية تحتفل بذكرى الحسين في الحسينيات.. عدد من الفنانين والمثقفين شاركوا في فعاليات هذا الحراك الشعبي.. وكنت شاهد عيان على هجوم من يسمون بأصحاب "القمصان السود" من شيعة حركة أمل وحزب الله ضد المتظاهرين بالعصي والهراوات.. *** مرة تساءلت بصوت مسموع، ونحن جلوسا بمقهى قريب من ساحة رياض الصلح كيف أني أشارك بحضوري المستمر بين جموع المتظاهرين دون أن يتم إيقافي من أي جهة أمنية، الأمر الذي كان لا بد أن يحصل لو شارك أي أجنبي في تظاهرة احتجاجية في المغرب؟ وجاءني الجواب سريعا من الصديقة عالمة الاجتماع دلال البزري أن لبنان ليس دولة بوليسية.. اليوم أتأكد بأن آلام وأدواء لبنان أكثر من أوجاع نظام دولة بوليسية… *** منذ الآن بدأت تطرح الأسئلة حول ما بعد الحرب الدائرة اليوم… ومنها: هل يمكن أن يتغير حزب الله؟ ومن الذي سيقود عملية التغيير داخله؟ وكم ستأخذ عملية التغيير من وقت؟ وعلى أي أساس سيتم هذا التغيير؟ ومن الذين سيكونون وقودها وضحاياها؟ وهل أن حزب الله قيادة وجسما تنظيميا قابلا للتغيير؟ أسئلة كثيرة يطرحها الآن بعض اللبنانيين من النخبة السياسية والأطر المثقفة.. الذين يعترفون أن الأجوبة عنها موجودة داخل الحزب، وربما في إيران أيضا.. هناك شيء كبير انكسر، وأشياء كثيرة تحطمت، وليس من السهل استدراكها ومعالجة تداعياتها وإيجاد الحلول المستدامة لها! *** أرقام في أرقام: أعلن مكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في لبنان أن أكثر من 830 ألف شخص غادروا منازلهم في لبنان بسبب العمليات القتالية وتدهور الأوضاع في الشرق الأوسط. وجاء في تقرير المكتب الأممي، اليوم الخميس: "منذ 8 أكتوبر 2023، تم تسجيل 834746 نازح داخلي، 52% منهم من النساء". ويقيم 189298 شخصا من هؤلاء النازحين في 1100 مركز إيواء، وقد وصل 935 منها (84%) إلى الحد الأقصى للإشغال. وأكد في مقابلة تلفزيونية، أمس الأربعاء، أن "هدفنا حماية لبنان" ووقف القصف الإسرائيلي. وتابع: "اتصلت بالموفد الأميركي أموس هوكستاين وهو في طريقه إلى المنطقة ونأمل أن نتوصل إلى وقف لإطلاق النار في وقتٍ قريب". واعتبر أن "تحرك هوكستاين هو إشارة أمل أتمنى أن تؤدي إلى وقف لإطلاق نار، وهو أبلغني بأن الأمور اليوم أفضل من الأمس". *** للشاعر المغربي محمد بنميلود، المقيم في بلجيكا، نص كثيف يلخص فيه لحظة الحقيقة الجاثمة أمام طول الأمل: – علينا أن نودع بعضنا باستمرار، أن نتبادل الوداع كل حين، بكثير من الصمت، والحنو، والنظرات الطويلة إلى الأبواب، أن نألف الوداعات، كما نألف أسرّة نومنا. – كل من يخرج ويغلق الباب، قد لا يعود. – كل من يذهب إلى مخبزه في الصباح الباكر، مبتهجاً بيومٍ جديد، قد لا يعود إلى قهوته التي ستفيض على النار. – كل من يذهب إلى المطبخ، في عمق الليل، فقط ليشرب، قد لا يعود أبداً إلى أحلامه – كل من ينام بعد أن يقول لنا : تصبحون على خير، قد لا يستيقظ أبداً. – كثيرون خرجوا مبتسمين، ولم يعودوا في المساء، ولا في أي مساء. – كثيرون انعكسوا في صفاء دموعنا وهم يبتعدون من دون التفات… – عادت الفصول في أوانها، عادت الطيور من الهجرات، أزهر الأصيص عند النافذة، ولم يعودوا… (بيروت الخميس 31 أكتوبر 2024)