مضى على استقلال معظم البلدان المغاربية أكثر من ستين سنة. وتعتبر ليبيا الأقدم، تاريخيا، بموجب القرار الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1949، الرامي إلى منح هذا البلد، المقسّم بين القوى الاستعمارية، استقلاله في موعد حُدِّدَ في ثلاث سنوات، بل وكَوَّنَت لذلك لجنة قصد تنفيذه من خلال نقل السلطة إلى حكومة ليبية مستقلّة. ومعلوم أن هذه حالة خاصة تماماً، انتهت بأن أُعْلِنَ الحكم الملكي السنوسي في البلاد، وبقي إلى أن أطاحه العقيد معمّر القذافي في 1969. بينما يمكن القول، من دون خطأ تقريبا، إن استقلال باقي البلدان المغاربية تبلور، في الحقيقة، من خلال صيغة "الاستقلال الذاتي" الذي حافظت فرنسا بموجبه على أهم الامتيازات والمصالح التي كانت لها في نطاق الحماية (المغرب، تونس، موريتانيا) أو الاستعمار المباشر (الجزائر باعتبارها ولاية فرنسية)، ولم تُبْنَ الدولة الوطنية الحديثة إلا في المراحل الأولى التي شهدت أعنف المواجهات الكبرى على السلطة وعلى المصالح المرتبطة بالسيادة والسيطرة. يُقال هذا لأنَّ ما تفرّع عن وجود حياة سياسية مستقرّة تَمَيَّزَ في العهد (الوطني)، إلى هذا الحد أو ذاك، بإزاء ما كانت تبعث عليه المرحلة من قلاقل واضطرابات، بظاهرة بالغة العنف والقوة يمكن تسميتها التّحكم المطلق، بحيث صار عنوان التوجّه السلطوي في مختلف الأجهزة، المخابراتية والإيديولوجية في المقدمة، التي ارتبطت بوجوده واعتماده بعد انقضاء عهد الحماية والاستعمار. والمستفاد من ذلك أن قيام الدولة نفسها، مفهوماً وبنية سياسية، أوجد شكلا من أشكال التنظيم الاجتماعي، يقوم على المراقبة والاستثناء، يتمتّع فيه المحلي، سلالياً أم مناضلاً وطنياً أم عميلاً، بأرفع الدرجات والامتيازات التي خوّلها لنفسه بدعوى الأحقية التاريخية المُبَرَّرَة بالنضال، أو بالمساندة والدعم، أو بغير ذلك من متطلبات التبرير الكثيرة، الفئوية والذاتية، التي ازدهرت في العهد "الوطني"، وكانت في أساس صراعاتٍ كثيرة، وبعضها دموية رهيبة، في المراحل الأولى للاستقلال. الواضح في هذا أن الديمقراطية بصفتها تصوّراً استراتيجياً ليبرالياً مبنياً على التعاقد بين الحاكم والمحكوم، فضلا عن آلياته ومتطلّباته المعتمدة في تدبير السلطة والنهوض بواقع الأمة، لم تكن من عناصر التفكير، ولا من شروطه في بناء الدولة العصرية الحديثة، ولا في التعاطي مع التناقضات التي ولّدها الحصول على الاستقلال، أو الاستقلال الشكلي حسب بعضهم، الذي كانت مصالحه وأطماعه المختلفة واضحة، مدركة في الأفق السياسي والاقتصادي المرتبط بوجود نظام رأسمالي تبعي لا محيد عنه في التصوّر لعمليتي التطور والخروج من التخلف. ومن هذه الزاوية العامة، أي قيام الدولة الوطنية البديلة، والتحكّم المطلق في شؤون الحياة العامة، ظهرت الحاجة السياسية إلى بناء سلطة مختلفة، لا تكون على منوال ما كانت عليه السلطة الحمائية الاستعمارية، ومن المفروض أن تتأسّس، في المقابل وليس بديلاً، على رؤى مرتبطة، في العموم، بالتناقضات والمصالح التي تولدت عن بروز الدولة الوطنية واستقرارها، والأهمية القصوى لضمان الاستقرار (بالشرعية التاريخية أو من دونها) وفق الاختيارات المحدّدة سلفا من الطبقات، أو الفئات الاجتماعية، ذات المصلحة الكبرى في كل ذلك، أي من دون تعارضاتٍ ممكنة، أو سُلَطاتٍ منافسة، أو اختيارات أخرى يمكن أن تبلورَ أشكالَ مقاومةٍ جديدةٍ تُنْقِضُ مفهوم المقاومة بالمعنى الذي كان له في الفترات السابقة، أي ضد العدو الأجنبي (لا الوطني). اعتقادي أن الإجراءات الوقائية المختلفة التي قامت بها السلطة التونسيةالجديدة بزعامة الحبيب بورقيبة، وبعضها كان من العنف ضد الحركة اليُوسفية ما لم تشهد تونس مثيلا له من قبل. ومثل ذلك ما نتج عن الانقلاب العسكري الذي قاده هواري بومدين وصحبه في الجزائر، بعد أقل من ثلاث سنوات على الاستقلال، بحيث أصبحت التصفية السياسية، من دون مبرّر تقريبا، عنصراً جوهرياً في القضاء على الخصوم من بناة جبهة التحرير والمقاومة، فضلا عن الشيوعيين الذين جُرّدوا بالعنف والمطاردة من كل شيء. أما المغرب فقد عاش، منذ الأيام الأولى لاستقلاله، على إيقاع تصفيات مختلفة، طابعها العنف والحدّة الشديدة في أكثر من موقع، وَتُوِّجَت بما عرفته البلاد، ابتداء من 1965، بحالة الاستثناء الفظيعة التي قتلت مختلف مظاهر الحياة السياسية وأشكال المعارضة بصورة نهائية فترة ليست يسيرة بالتأكيد. ما يراد استنتاجه هنا يمكن إيجازه بالقول: بصرف النظر عن الطبيعة السياسية للنظام الحاكم (رئاسي، وراثي)، ولكن في ارتباط وثيق مع أهدافه واختياراته العامة لإدارة البلاد وسياستها، فإن تجارب السُّلطات، في معرض بناء الدولة الوطنية الحديثة، اعتمدت بصورة خاصة على قيام الحزب الواحد الوحيد ودوره (حتى في إطار التعددية)، في وقت كان هذا الحزب الواحد الوحيد بالضبط ركيزة أساسية من ركائز مواقع تلك السُّلطات والمتنفّذين فيها بصورة خاصة، وفي أحيان كثيرة، تحت نفوذ شخصيةِ رئيس السلطة وتوجيهاته في عموم تجارب البلدان المغاربية (جبهة التحرير الوطني في الجزائر، الجبهة من أجل الدفاع عن المؤسسات الدستورية في المغرب، حزب الشعب في موريتانيا، الحزب الاشتراكي الدستوري في تونس… إلخ). يمكن الاعتراض على هذا بأن المغرب أفلح في صوغ التعدّدية وأقرّها، فنجا بنظامه السياسي من أحبولة الاستبداد على نحو ما، ولعله كان بذلك أيضا يقطع الطريق، بتقدير معيّن، على حزب سياسي عتيد قدّر الباحث الفرنسي ريزيت عدد أعضائه، في أوائل الخمسينيات، بأكثر من مليون منتسب، إلا أن التعدّدية المغربية لم تكن اختيارا، بل "توليفة" سياسية لحصر التعدّد السياسي الوطني تمهيداً للقضاء عليه، وإنْ بالإبقاء الشكلي لوقتٍ معين، في بعض الأحيان، على رموزه التاريخية لتسويغ التحكّم المُطلق لمؤسّسة الملكية. الواقع أن ميلاد الدولة الوطنية الحديثة جرى بالذات من داخل العوائق السياسية والأيديولوجية التي برَّرَت مقاومة الأجنبي في مرحلة، والاستقلال معها لاحقاً، فكانت مظاهرها العامة، بعد زوال التناقض الأساسي مع الحماية والاستعمار، ظاهِرَةً في الصراع البيّن بين الأطراف ذات الحضور السياسي في العملية الاستقلالية نفسها، ثم، بصورة أكثر تحديدا، في وجود أحزابٍ تاريخيةٍ بارزة كان لها دور في العملية الاستقلالية سلباً أو إيجاباً، ثم، بالنظر إلى سياق التطور، بروز المصالح الجديدة، والرؤى المختلفة لعملية بناء الاستقلال والتحكّم في السلطة وضمان الاستقرار. ويمكن أن نتصوّر بيقين أن سلطة الدولة الحديثة سعت إلى بناء تصوّر جديد للشرعية، بما في ذلك الشرعية الدينية، أو المبرّرة دينيّاً، حسب الأهمية أو الدور المطلوب، لأنها عماد استقرارها. وزادت في ذلك بأنْ أرسَت دعائم أجهزتها القمعية، بعضُها موروث، ووفّرت الشروط المناسبة لبناء جيش (وطني، كما سمّي في تجارب معينة) بِأَنْ سَلَّحَتْهُ وَدَرَّبَتْهُ تدريباً متقناً. أما ما حَصَدَت، من خلال مختلف العمليات الاقتصادية المخطّط لها من خلال برامج ظرفية وارتباطات بالمؤسّسات المانحة، فتقديره من الأرباح مربكٌ في الحساب. ومع ذلك، يمكن تقدير فائدته الرأسمالية في الاغتناء، لأن الاستغلال العام كان هو نهجها وأسلوب مراكمتها الثروة. كلفة ذلك كبيرة جدا: من الضحايا السياسيين المباشرين آلاف ممن قتلوا أو سجنوا أو أصبحوا في عداد مجهولي المصير، وبعض منهم حيكت في سبيل القضاء عليهم مؤامراتٌ لم تترك خلفها أثراً ولا بصمة. ولن أتكلم عن عامة الناس، ولا عن النخب الاقتصادية والمالية التي أدركت أن بقاءها واستمرارها رهينان بالارتباط العضوي الذي يجب أن يكون لها مع أصحاب القرار السياسي، ولا عن الحركات السياسية الثورية من الشيوعيين واليسار الجديد الذين قُمعوا بعنف وشراسة، في مختلف البلدان المغاربية، بسجن أعدادهم الغفيرة، أو نفيهم، أو قتلهم عنوة، أو تكفير الأحياء منهم، حتى وَهُمْ في عطالةٍ نضالية، بفتاوى دينية موجبة لكل عدوان. من المفهوم أنّ في الكلام عن ذلك، كله أو بعضه، قول كثير، وَمَعِينُه التاريخي لا ينضب، إلا أن القول الحق يجب أن يكون عن الديمقراطية، بِأَيِّ مَفْهُومٍ كَان إلّا في ما يرجع إلى الحريات وللحقوق الأساسية النابعة من فصل السلطات شرطاً، بالمعنى الذي يفيد بأن هذه القضية الكبرى لم تستقرّ في أي وضع، رغم أنها كانت في الذهن، ربما لأن الدول المغاربية، رغم أنها كانت محتلة من دُوَّل "ديمقراطية"، لم تكن على أي مستوى، نظرياً وعملياً، من مستويات الثقافة الديمقراطية، وهي الدرجة الحضارية المُثلى الواجبة. وربما أيضاً لأن الدين لعب، في تكوين الدولة الوطنية الحديثة، العنصر الأساسي في بناء القوة المادية و"الشرعية" النابعة من التأويل الرادع كل مخالف أو ضالّ أو كافر… إلخ. ولذلك، استبعاد التصوّر الديمقراطي ذي القِوَام الليبرالي ظَهَرَ للمسلم أيّامَهَا، كما هو الظهور حاليا لإسلامويين سلفيين كثيرين، لائكياً يتعارض جذرياً مع الدين والإيمان، مع الاعتبار بالتعليل الذي يقومان عليه من حيث طبيعته الأسطورية، وارتكازه على ذهنيةٍ ذات خصيصة سحرية متعلقة بالغيب والظن. المصدر: عن "العربي الجديد"