حاولت في مقال "تحليل سيكولوجية المواطن المستقر والعبودية المختارة.." تفكيك سيكولوجية و نفسية " مواطن الخبز " أو "المواطن المستقر" و توضيح منهجية تفكيره و تحديد ماهية إهتماماته التي تنحصر في مثلث يتكون من 3 أضلاع: * الضلع الأول – التدين الشكلي * الضلع الثاني – الخبز او لقمة العيش * الضلع الثالث – الهروب من الواقع وسأحاول في هذا المقال التركيز أكثر على الضلع الأول أي التدين الشكلي، وتوضيح أن سبب ما نعيشه ليس له صلة بالفهم الصحيح للدين الإسلامي ، فالإسلام جاء لتحرير الإنسان من قيود العبودية لغير الله ، وقبل الإسترسال في شرح وجهة نظري أجد من المناسب التفاعل مع تعليقات بعض القراء الأفاضل والتي تصب بكل تأكيد في جوهر الفكرة التي نحاول تفكيكها .. * طبيب ماليزي: ففي مقال "هدهد سليمان و الفكر المقاوم" علق أحد القراء الأفاضل مشكورا، والذي إختار تسمية نفسه ب "خبير إقتصادي" وقال في تعليقه : " طبيب ماليزي فاقت حكمته الاقتصادية كافة وزراء التخطيط والتنمية والتعاون الدولي في العالم العربي خلال العقود الخمسة الماضية" .. وإخترت الرد على هذا التعليق لأني أرى أنه يحتاج للمزيد من الشرح و التوضيح ، أتفق مع ما ورد في التعليق ، من زاوية أن مهاتير في الاصل طبيب وأنه نجح في فيما لم ينجح فيه أغلب وزراء التخطيط و التنمية في العالم العربي، ولكن ما أريد إضافته لهذا التعليق، أن هذا الطبيب "مهاتير" بدأ حياته السياسية بكتاب غالبا ما أكرر عنوانه " معضلة الملايو"، انتقد فيه بشده شعب الملايو واتهمهم بالكسل والرضا بأن تستمر بلادهم دولة زراعية متخلفة دون محاولة تطويرها، فقرر الحزب الحاكم حينها والذي يحمل اسم "منظمة الملايو القومية المتحدة" منع الكتاب من التداول رسميا نظرا للآراء العنيفة التي تضمنها… * عماد النهضة: أمن مهاتير محمد أن الشعوب هي عماد النهضة، فسعى إلى الارتقاء بمواطنيه وبناء الانسان الماليزي متسلحا بعقيدة راسخة أن الأمة التي تثق بقدراتها يمكنها بلوغ أهدافها مهما تعاظمت التحديات. يقول الدكتور مهاتير محمد: (إن استمرار الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وهيمنة الأغنياء على الثروة والمال والموارد، مع بقاء الفقراء ينزفون من آلام حياتهم البائسة يقود المجتمع إلى التصادم، والحال أكثر خطورة لماليزيا التي تتنازعها أعراق وديانات متناقضة ومتباينة".. * تفكيك الأزمة وما أن وصل مهاتير إلى سدة الحكم شرع بتطبيق فصول كتابه محاولا تفكيك الأزمة، واجتراح الحلول التي من شأنها خلق مجتمع نظيف ومتعلم. فانتقل بالبلاد من دولة زراعية تعمل على إنتاج المواد الأولية كالمطاط والقصدير والموز إلى دولة صناعية وخدمية رائدة، مما أدى إلى انخفاض معدل الفقر من 52 في المائة في بداية حكمه إلى 5 في المائة عام 2003، أما الدخل السنوي للفرد فارتفع من 1200 دولار إلى 10000 دولار، وزاد عدد الجامعات من 5 إلى أكثر من 400 جامعة ومعهد علمي حكومي وخاص.. * رمز للدولة: لكن هذا الإنتقاد و المكاشفة جعل الشعب الماليزي يغير سلوكه، و أصبح مهاتير رمز للدولة وأب للشعب بكل أطيافه، وإستمر في السلطة نحو 22 سنة، إذ تولى رئاسة الوزراء منذ (1981- 2003)، وإنسحب من السلطة وهو في أوج عطاءه. وقد نجح في نقل ماليزيا من دولة زراعية "مهملة" تعتمد على زراعة الموز والمطاط إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة، وزاد دخل الفرد السنوي من ألف دولار إلى 16 ألف دولار، وارتفع حجم الاحتياطي النقدي من 3 مليارات دولار إلى 98 مليار دولار، وقفز حجم الصادرات من نحو 15 مليار دولار إلى 200 مليار دولار. * تصحيح المسار: وعندما تفشى الفساد في البلاد قررت جموع المواطنين الإحتجاج أمام بيت مهاتير لتخرجه من وتقاعده السياسي وهو في سن 93 سنة، تعيده لحكم مجددا بعد فوز ائتلافه المعارض في الانتخابات البرلمانية، ليصبح أكبر سياسي منتخب في العالم، وأدى مهاتير محمد يوم الخميس 10 مايو 2018 اليمين القانونية رئيسا للوزراء، ليتسلم السلطة قبل نحو عامين من انتهاء خطة "2020" التي كان قد وضعها خلال فترة حكمه للبلاد، والتي بموجبها ستصبح ماليزيا بموجبها رابع قوة اقتصادية في آسيا بعد الصين، واليابان، والهند. * التقنية الغربية و الروح الإسلامية لكن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن نجاح مهاتير نابع من قدرته على المزاوجة بين التقنية الغربية و الروح الإسلامية..فالرجل لم ينطلق في صياغة نموذجه التنموي من محاربة الدين وقيمه بل حاول توظيف الدين و قيمه النبيلة و البناءة في عملية التنمية و توسيع خيارات الشعب، وهذا هو الفهم الذي احاول التركيز عليه في أغلب كتبي و مقالاتي .. وهذا المعنى هو ما أشار إليه الاستاذ الفاضل أحمد الدلابيج من الاردن في تعليقه على ذات المقال قائلا : " هذا مقال رائع جدا من أستاذنا الفاضل الدكتور طارق ليساوي.. وحقيقة اكثر ما يشدني لقراءة مقالات الدكتور ليساوي هو قدرته الفكرية والسياسية بعدم فصل الخطاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي عن الخطاب الديني الإسلامي الذي جاء به سيد البشرية محمد صل الله عليه وسلم..نعم إنها حقيقة لايمكن لنا النهوض واستعادة دورنا البشري إلا بالرجوع الى كتاب الله وسنة نبيه محمد صل الله عليه وسلم..".. * نقاش عام وعليه فإن هدفي من نقل مثل هذه التعاليق و إتاحتها للنقاش العام و تعميم الفائدة و إثراء النقاش في قضايا أساسية، أرى بان من الواجب فهمها و تشخيصها التشخيص السليم بغرض إيجاد العلاجات الضرورية لها.. * الضرورة تقدر بقدرها: وغالبا ما لا ارغب في الرد على التعليقات و خاصة بالفضاء الأزرق، لكن عندما أرى أن الفكرة تخدم صلب الموضوع الذي أعالجه فإني أتفاعل بموضوعية بل و قد أخصص مقالا لذلك، و غالبا ما يكون المقال فصل او جزء في كتاب أشتغل عليه ..و عدم الرد الدوري على كثير من التعليقات لا يعني اني لا أطلع عليها او اني اتجاهلها عن عمد ، ولكن كما يقول المناطقة الضرورة تقدر بقدرها ، فبقدر الإمكان احاول ان يكون تفاعلي على وسائط التواصل الاجتماعي محدودا، لأن هذه المنصات يختلط فيها الصالح بالطالح، واحيانا نجد أنفسنا أمام ذباب إلكتروني غايته التشويش .. * المعجزة الاسيوية : ونحن نحلل تجربة مهاتير ينبغي ان نضع في إعتبارنا أن تجربة صعود ماليزيا وباقي البلدان الأسيوية ، يتميز بسيادة قاسمين مشتركين: الأول وفرة نسبية في اليد العاملة والثاني نذرة نسبية في الموارد الطبيعة، ومعظم هذه البلدان صاغت سياساتها الاقتصادية والتنموية على هذا الأساس، لكن ونحن نحلل تجربة هذه البلدان علينا ألا نهمل أهمية العوامل الخارجية والتي كان لها تأثير بالغ الأهمية في تحقيق "المعجزة الاسيوية".. * العنصر الحاسم: لكن تجارب هذه البلدان تدفعنا إلى التأكيد على أن العنصر الحاسم لعل في الصعود و الخروج من دائرة التخلف والفقر والحرمان، هو الاهتمام بالعنصر البشري والاستثمار فيه ما أمكن، عبر زيادة الإنفاق في التعليم وتوفير الخدمات بأسعار مناسبة للجميع، وتوسيع خيارات الناس عبر توسيع دائرة الحقوق المدنية والسياسية و احترام كرامة الانسان… * تعليم يخدم النهضة وبدون تعليم يضاهي المعايير العالمية لا يمكن الانخراط في الاقتصاد المعرفي.. لكن تعليم ينسجم مع البيئة الثقافية والحضارية المحلية، تعليم بلغة البلد لا بلغة الغير، فإهمال التدريس باللغة العربية في أغلب البلدان العربية جريمة تنموية وثقافية و حضارية بكل المعايير، فاليابان تدرس باليابانية والصين تدرس بالصينية، ولعل المبدأ الياباني القائم على قاعدة "التقنية الغربية و الروح اليابانية " هو الوصفة السرية والقاسم المشترك بين أغلب التجارب التنموية الناجحة في أسيا وغيرها ، وللأسف تخلف البلدان العربية نابع من إهمال البعد الحضاري والخصوصية الثقافية للشعوب العربية ، والسعي الحثيث لاستنساخ الصالح والطالح من الغرب، وهو ما سنحاول التوسع فيه أكثر في المقال القادم إن شاء الله تعالى … والله غالب على أمره ولكن أكثر لناس لا يعلمون.. كاتب و أستاذ جامعي