أشرت في مقال " في ذكرى ثورة الملك والشعب: المغرب في حاجة لكتلة تاريخية تخرج البلاد من السنوات العجاف…" إلى المثل القائل "الأعمش في قبيلة العميان ملك" مادام يرى ما يستحيل على البقية رؤيته، فلا مجال ولا أفق لأعمال ومشاريع ونماذج تتم في جنح الظلام أو من طرف نخبة من الذين أعمتهم مصالحهم السياسية والاقتصادية عن رؤية الصالح العام، بل إنه من بين من أسندت لهم في بلدنا العزيز مهام إدارة المرحلة الراهنة والاشراف على تحرير ما سمي بتقرير النموذج التنموي، قد سارع بتسليم المسودة الأولى للأعاجم والأغيار قبل اعتمادها من طرف أهل الدار!! هؤلاء يصح فيهم قول الله تعالى " لهم أعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها" وكذا مصالح ضيقة لا يستغنون عنها وولاءات وجنسيات وهويات ما أنزلت الأعراف الوطنية والدستورية بها من سلطان.. * لست معارض وإخترت هذا المقطع لأنه يعبر عن صلب الموضوع الذي أرغب في تناوله، فالبعض للأسف يرفض التنبيهات والتحذيرات التي يرفعها بعض الشرفاء والأحرار الخائفين على مستقبل وطنهم، و المنذرين بالأخطار المستقبلية، ويتحسسون المثالب التي تختفي وراء كثير من القرارات والسياسات العمومية..وعندما نتكلم أو ننتقد السياسات والقرارت العمومية فهذا لا يعني أننا معارضين أو غير وطنيين كما يصفنا بعض المستفيدين من الوضع القائم.. وعلى حد تعبير أستاذي الجليل المهدي المنجرة رحمه الله : "أنا لست معارضا بالمفهوم المعارض، لأنه ليس لي برنامج سياسي أو طموح سياسي لكي أعارض أي شيء، أنا مواطن يدافع عن شيء أساسي وهو الكرامة، أنا أدافع عن كرامة الإنسان في المغرب وخارج المغرب"، لكن ما يدفعنا إلى رفع الصوت هو الألم لمصير وطن و شعب نتمنى أن يكون في مقدمة الأمم المتقدمة والمتحضرة والأمنة ، والخوف من الانجراف خلف سياسات تدميرية ذات أجندة مشبوهة وسياسات لا وطنية تخدم مصالح أقلية داخلية و خارجية ..ومسؤوليتنا كأكاديميين ومثقفين ورجال علم وإعلام ليست الصمت أو التطبيل للحكومة، وإنما فضح هذه السياسات والتنبيه إليها لتشكيل رأي عام يمثل سلطة مضادة، ف"الساكت عن الحق شيطان أخرص" وكما يقول مالك بن نبي رحمه الله: " لا تصمت عن قول الحق أبدًا.. فعندما تضع لجامًا على فمك، سيضعون سرجًا على ظهرك.. " * تصريح عزيز غالي والواقع أن خلفية هذا الحديث تصريح السيد عزيز غالي رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان حول مشاركة رجال ونساء التعليم في عملية الإحصاء الوطني للسكان والذي سينطلق في المغرب في مطلع شهر شتنبر الذي يصادف بداية الموسم الدراسي 2024-2025.. وما قاله الرجل منطقي وموضوعي جدا إلى أبعد الحدود، فمكان الأستاذ في بداية شتنبر هو القسم.. وقد تابعت تعليقات مجموعة من الأصدقاء والزملاء الافاضل على تدويناتي ذات الصلة بتصريحات السيد عزيز غالي، وأتفق معه في أن المكان الطبيعي للأستاذ هو القسم، خاصة و أن الموسم الماضي تضرر كثير من التلاميذ من إضرابات رجال ونساء التعليم، وقد تضامن معهم غالبية أباء و أولياء التلاميذ، حرصا على تحسين وضعية هيئة التربية والتعليم باعتبار أن الكادر البشري العنصر الحاسم في تجويد المنظومة ككل .. ومن دون شك لا أحد عاقل يتعمد الإساءة للمعلم فنحن نؤمن بأن "من علمني حرفا صرت له عبدا"، وعلى المستوى الشخصي فأنا انتمي لهذه الأسرة وأدرك جيدا وضعية التعليم وإختلالاته البنيوية ، خاصة وأن كاتب هذه السطور أتيحت له الفرصة للدراسة والتدريس بالمغرب وبالخارج .. فمكانة المدرس في البلاد التي حققت تقدما ملموسا، مكانة سامقة في المجتمع واستاذ الجامعة مقدر ومحترم بشكل لا يتصور، وهذا ما شهدته عن كتيب في ماليزيا وكوريا الجنوبية والصين، أما في المغرب فإني أرى ان التدريس مغرم لا مغنم .. * التجارة خير من الإجارة وقد سبق لي أخي القارئ، أن صرحت في أحد مقالاتي أني أفكر في ترك الكتابة والتدريس معا، بغرض التفرغ للتجارة وإلقاء محاضرات دورية في جامعات بعينها تتوفر فيها شروط العمل، فأنا على المستوى الشخصي أومن بأن الثروة مصدرها التجارة، أما الوظيفة العمومية فأفقها يظل محدود وليست مصدر لتحقيق الثروة و الغنى، اللهم إذا تم اللجوء إلى طرق غير مشروعة، فلو طبقنا في بلادنا المغرب مبدأ من أين لك هذا؟ : لكان غالبية الموظفين العموميين في السجن المركزي بالقنيطرة، لأن ما يملكونه يتعارض كليا مع أجورهم وإمكانياتهم التي يتيحها الأجر العمومي الرسمي.. لذلك، فإني أنصح الطلبة دائما بالابتعاد قدر المستطاع عن الوظيفة العمومية والبحت عن تنمية مهارتهم لمزاولة أنشطة تجارية وخدمية، والتنافس على مستوى العالم و ليس فقط المغرب، وعدم الربط بين التعليم والوظيفة العمومية، ففي الصين البلد الشيوعي، نجد أن أغلب العقول المتعلمة تفضل الاشتغال في القطاع الخاص بدلا من الاشتغال في القطاع العام، وهو الأمر الذي دفع الحكومة المركزية وحكومات المقاطعات إلى دفع أجور مرتفعة لجذب المتخرجين الجدد وخاصة في القطاعات التي تتطلب تكوين متخصص…بل إني أرى أن التعيين في الوظيفة العمومية ينبغي أن تكون بالتعاقد ولمدة محددة، وبموجب برنامج عمل المترشح و خاصة في المستويات العليا.. * إفساد منظومة التربية و التعليم وأكثر ما أثار إنتباهي في هذا النقاش هو حجم الإسفاف و التهديد والترهيب والسب والقذف الصادر عن فئة من المفروض أنها منبع التربية والأخلاق، وعندما يرى رجل الشارع هذا الإسفاف فمن حقه الخوف على فلذات أكباده، نقاش وجدال أقل ما يقال عنه أنه رديء جدا…لا يتناسب إطلاقا مع وظيفة ومكانة رجال التعليم، ورسل التنوير، ومن عهد إليهم صناعة العقل، وبناء الإنسان، وتنمية الفكر العقلاني، والتأسيس لثقافة النقد في المجتمع… ومن المؤكد أني لا اقبل الإساءة و "التنكيت" الذي يطال هذا الجسد بصالحه وطالحه ..و لكن علينا الاقرار ان بعض العلل و الممارسات، اصبحت تسيء لرجال و نساء التعليم.. و لا غرابة في وضع كهذا أن يصبح المعلم والأستاذ نكتة ويكفي الإحالة لسلسلة رمضانية أثارت جدلا كبيرا لأنها شكلت إهانة لرجال التعليم ..الواقع اني لا اتفرج في التلفاز و لذلك لا اذكر اسم السلسلة الرمضانية.. * فساد الكبار اما اننا لا نرى فساد الكبار فهذه فرية ومن السهل تنفيذها ببحث بسيط في الشيخ غوغل او على هذه الصفحة ، فمقالاتي الدورية برأي اليوم اللندنية وكتبي ومداخلاتي التلفزيونية على قنوات دولية شاهد على اني من الاكاديميين القلائل الذين لا يصمتون عن قول كلمة الحق مهما كان الظرف، وموقفنا هذا ندفع ثمنه من جيوبنا و مصالحنا الخاصة ..لان قول كلمة الحق واجب وزكاة العلم نشره وليس المتاجرة به .. والواقع أن هذا النمط في النقاش هو نتاج طبيعي لجهود إفساد منظومة التربية والتعليم، فسياسة إفساد التعليم وإضعاف رجال ونساء التعليم ليس وليد لحظة وانما نتاج لسياسات عمومية تم نبنيها منذ 60 و 70 القرن الماضي لدواعي أمنية وسياسية، واليوم قتل المدرسة العمومية وتسليع التعليم يتم تنفيذا لتوصيات مؤسسات دولية غايتها الأولى إفقار الشعوب والسطو على مقدراتها… المسألة اكبر بكثير من مجرد تدوينة عابرة وكلمة مؤثرة ذات حمولة رمزية وسيميائية، صادرة عن رجل اعرفه معرفة شخصية وله ايادي بيضاء على هذا الوطن، فقد شكل محورا في كشف ملفات فساد كبرى .. ودافع عن التعليم و اهله في مناسبات عدة .. ودفاعه عن حقوق التلاميذ ورواد المدرسة العمومية هذا في صميم اهتمامه الحقوقي .. * التعليم قاطرة التنمية شخصيا في ثلاثية النموذج التنموي المنشود او في رباعية المدرسة النبوية اليوسفية ركزت كثيرا على الصحة والتعليم باعتبارهما من أهم روافع التنمية وتوسيع خيارات الناس ..من العيب ان تناقش الاجور في وطن تفشت في البطالة والفقر والعوز والجوع الذي أصبح يطرق أبواب كثير من الأسر … التضخم والغلاء اضر بالطبقات الميسورة فكيف الحال لفقراء الشعب ومتوسطي الحال .. ومن باب الإنصاف والموضوعية الاستاذ غالي لم يتحدث عن التعليم فقط فهو كثير الكلام في مختلف قضايا الوطن والشعب وموافقه معروفة ومعلومة للقاصي والداني، وللعلم أني لا أتفق كثيرا مع قناعاته الأيديولوجية وخاصة في جزئية تحرير المرأة والإرث ومساواة الرجل بالمرأة وغيرها من القضايا الخلافية ، لكن الرجل له مواقف محمودة، لكن ان تجد شخصا لا يفتح فمه و لا يطلق لسانه بالنقد إلا عندما يتعلق الامر بأجرته او مصلحته الضيقة، بينما غائب عن كل قضايا المجتمع وماسيه فهذا نوع من الأنانية والجبن والخيانة للوطن وللشعب دافع الضريبة الذي يؤدي أجورنا من قوته وعرق جبينه.. فهناك ملايين من المعطلين من حملة الشواهد العليا يمكن تكوينهم والاستعانة بهم في هذه المهمة الوطنية..فلماذا نخشى النقد؟ ولماذا نتبنى مواقف عدوانية ضد كل من نبه لمخاطر ومثالب سياسات عامة ؟ هل رجال التعليم أقداس مقدسة لا يطالها النقد ؟ أليس رجال التعليم هم الموكول إليهم في القسم ترسيخ ثقافة الحوار، وثقافة النقد والاختلاف من قلب المؤسسات التعليمية وبرامجها التربوية ؟ أليست ثقافة الاختلاف والحوار من القيم الأصيلة التي يجب تصريفها في فعل التعلم؟ * قانون التدافع فالمعارضة و إختلاف وجهات النظر مسألة صحية جدا، و سنة التدافع من القوانين الربانية الصحية التي تمنع من تفشي الفساد و طغيانه ..فأهل الباطل يندفعون إلى باطلِهم ويلتفون حوله، ويعملون على ضبطه وشرعنته وتعميمه ، ومن المفروض أيضا أن أهل الحق أن ينتصروا لما يؤمنون به يقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]. ومن هنا فإن القران الكريم أصل لقانون التدافع قال تعالى : {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]، فالله تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض، فمفهوم التدافع يحمل معنى التنافس و الرغبة في التطوير و التجويد، و لولا هذا التدافع لفسدت الأرض ولكن الله ذو فَضْلٍ على العالَمين.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ... كاتب و أستاذ جامعي