يحتفل العالم اليوم 5 تشرين الأول – أكتوبر من كل سنة باليوم العالمي للمعلمين، فشكرا لكل من علمنا حرفا ، و تحية لكل المعلميين صناع النهضة و التنمية الحقيقين فبهم تتقدم الأمم و تصعد في سلم المدنية و التحضر، و بالرغم من أني أنتمي إلى سلك التدريس، لكن مع ذلك لست مؤهلا لحمل لقب المعلم، فنحن في الجامعة نتعامل مع عقول تم تكوينها و تعليمها أبجديات القراءة و الكتابة و المعرفة و التفكير و التحليل المنطقي، من قبل معلميين و أساتذه تحملوا عناءا و مجهودا أكبر مما يتحمله أساتذة التعليم العالي، و صدق أمير الشعراء عندما قال: قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا لكن للأسف هذا البيت الشعري الذي تعلمناه منذ الصغر لا يسري على واقع المعلم في أغلب بلداننا العربية فالمعلم أهانوه، و همشوه ، وتركوه صريعا للعوز والحاجة، وتحولت رسالته السامية إلى مجرد وظيفة ، بل إذا طالب ببعض حقوقه فإنه معرض للضرب و التنكيل من قبل من علمهم و علم أبناؤهم ، وما يحدث لرجال و نساء التعليم يذكرني بمقولة الأديب علي الطنطاوي، إذ أشفق على ولده من القيام بمهنة التدريس، مبينًا له مشقتها: " إن المعلم هو الشهيد المجهول الذي يعيش ويموت ولا يدري به أحد، ولا يذكره الناس إلا ليضحكوا على نوادره وحماقاته".. و الواقع أني دائما ما أواجه من قبل الطلبة و القراء و المتلقين عموما بهذا السؤال: ما سر نهضة الصين ؟ و الجواب على هذا السؤال صعب جدا، لأن نهضة الصين نتاج لتظافر عدة عوامل شرحتها بتفصيل في أكثر من مقال و محاضرة … لكن بنظري التعليم هو كلمة السر، وللتدليل على أهمية التعليم يكفي التدليل على مكانة المعلم بداخل المجتمع الصيني، فقد نشرت قبل فترة صحيفة الشعب الصينية، بعض الحقائق حول التعليم والمعلمين في الصين، وجاء فيها أن الصين تمتلك أكبر وأقدم نظام تعليمي في العالم يعود لأكثر من ألفي عام، ويمثل الاستثمار في التعليم حوالي 4٪ من إجمالي الناتج المحلي في الصين.. و يوجد بالصين حالياً نحو 16 مليون معلم، شكلت المعلمات الإناث نسبة 65% منهم، وبحسب ما أوضحته الصحيفة، ما بين كل 85 مواطناً صينياً هناك على الأقل يوجد مدرس واحد. ووجدت دراسة دولية أجريت مؤخراُ للمقارنة بين وضع المعلمين في 21 دولة حول العلم، أن المعلمين في الصين يتمتعون بأعلى مستويات الاحترام بين دول العالم، بل أنها المهنة الأسمى في البلاد. وتأسس يوم المعلم من قبل الحكومة الصينية عام 1985، بينما اليوم العالمي للمعلم لم يتم إعتماده إلا في سنة 1994، و رغم أن التدريس مهنة أكثر احتراماً على مر العصور، لكن الحكومة الصينية خصصت هذا اليوم كعطلة رسمية للبلاد، لإعادة ترسيخ مكانة التدريس بعد تدهور المساعي الفكرية خلال الثورة الثقافية. ويتم الاحتفال بيوم المعلم في جميع أنحاء الصين، وكذلك في المدارس الصينية في الخارج، من خلال عدد من العروض والأناشيد والخطب المادحة وتقديم الهدايا… أما في بلدان الجوار الصيني كسنغافورة مثلا التي عكست سلم الأجور لتضع المعلم في أعلاه، و نفس الأمر حدث في ماليزيا و اليابان وكوريا وغيرها من البلدان التي لم تكتفي بتكريم المعلم بالشعارات و الخطب و إنما بتحسين وضعه المادي و الإعتباري و جعله على رأس باقي المهن و الوظائف، بل إنه هو باني و مهندس النهضة ، وكيف أن الهند بدورها عملت على تقديس المعلم و هو ما كان له بالغ التأثير في نهضتها الاقتصادية ، وكيف استطاعت هذه البلدان ومن خلال المعلم والتعليم أن ترقى ببلدانها فكرياً ومعرفياً واقتصادياً مما جعل بلداناً أخرى تتطلع إلى نموذجها وتقتفي أثرها في هذا المجال.. لكن للأسف، في أغلب البلدان العربية مهنة المعلم أصبحت مصدر إستهزاء لدى البعض، و إستصغار لدى البعض الأخر، المعلم الذي قال فيه أمير الشعراء أحمد شوقي : قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى أَخرَجتَ هَذا العَقلَ مِن ظُلُماتِهِ وَهَدَيتَهُ النورَ المُبينَ سَبيلا وَطَبَعتَهُ بِيَدِ المُعَلِّمِ تارَةً صَدِئَ الحَديدُ وَتارَةً مَصقولا.. هذا المعلم أصبح يعنف في الشارع من قبل قوات مكافحة الشغب، أصبح راتبه من أدنى الرواتب التي يتم تحصيلها من قبل باقي العاملين في مهن أخرى بالمجتمع…. و ما يحدث في البلدان المتقدمة و في بلدان شرق أسيا نبهنا إليه الإسلام قبل 14 قرن، بل إن نهضة الأمة العربية و الإسلامية و نجاحها في تصدر المشهد الحضاري و العلمي و الثقافي طيلة العصور الوسطى كان بالعلم و بتقديس العلماء فقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله وملائكته ليصلون على معلم الناس الخير، حتى النملة في جحرها والحوت في البحر»، وهل بقي هناك من لا يدعو للمعلم، النملة في عالم الحشرات، الحوت في عالم المحيطات والأسماك والبحار، الملائكة في الملأ الأعلى، الله فوق العرش، لم يترك هذا الحديث أحدًا إلا وبين أثره في هذا المعلم….ولقد جمع القرآن الكريم بين دفتيه الكثير من الآيات التي تحض على العلم والسعي له، والاستزادة منه، فالعلم ركيزة من ركائز الإيمان بالله تعالى، وكلَّما ازداد المسلم علمًا ازداد إيمانه، ومن ثم قرن أهل العلم به سبحانه قال تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 18). لقد بدأت الرسالة المحمدية بفعل أمر هو: {اِقْرَأْ} فكان أول غيث الرسالة قوله تعالى : {اقرأ باسمِ ربِّكَ الَّذي خلَق* خلَقَ الإنسانَ من علَق* اقرأ وربُّكَ الأكرم* الَّذي علَّمَ بالقلَم* علَّم الإنسانَ ما لم يعلم} (العلق: 1-5). لا أحد منا يجادل في أن المعلم و أهل مهنة التدريس بكل مستوياته أصبحوا مهمشين و مضيق عليهم، فأستاذ الجامعة الذي كانت له مكانة سامقة أصبح يجد نفسه يدرس طلبة دون مستوى الإعدادي في نقاشهم و كتاباتهم ، بل و في قاعة تدريس لا تتوفر على الشروط الدنيا، و فرق شاسع بين الجامعة المغربية و الجامعة في كوريا الجنوبية أو الصين أو ماليزيا، نعم ساعات العمل أكبر في هذه البلدان لكن لا مجال للمقارنة على الإطلاق.. للأسف البنية التحتية و المنظومة التعليمية ككل أصبحت مهمشة و تدار بشكل إرتجالي.. فالمغرب كباقي البلاد العربية يعرف تخلفا شديدا في مجال التعليم و البحث العلمي و المؤشرات الدالة على هذا التخلف كثيرة نذكر منها مؤشر تدني نسبة الإنفاق على قطاع التعليم و البحث من ضمن إجمالي الناتج الخام الداخلي ف النسبة لا تصل إلى المتوسط العالمي، و كذلك عدم التناسب بين مخرجات التعليم و سوق العمل و ارتفاع نسب العاطلين من حملة الشواهد العليا… كما أن أحد مؤشرات نجاعة المنظومة التعليمية هو مدى حضور مؤسسات التعليم العالي ضمن مؤشر شنغهاي أو اليونيسكو ، فأغلب البلدان العربية لا وجود لها ضمن سلم 500 أفضل جامعة في العالم ..وحتى لا نطيل في توصيف الواقع فإننا سنحلل أبعاد تقليص الإنفاق العمومي على التعليم و تأثيره على المجال التنموي.. من دون شك أن أغلبية بلدان العالم أصبحت تتجه نحو التقليل من تدخل الدولة و توسيع دور القطاع الخاص في تقديم الخدمات العامة وهو ما يعرف في أدبيات التنمية بالدولة "الرشيقة" و هو توجه ذو طبيعة دولية بدأ مع "التاتشرية" و "الريغانية" و بلغ أوجه مع "النيولبرالية" المتوحشة. لكن في البلاد العربية الأمر اتخذ توجها متطرفا ففي ظل الخصاص المالي و انتهاج سياسات تقشفية تمس القطاعات الاجتماعية ذات الطلب الجماهيري، يتم التوسع في الإنفاق العمومي المظهري، فكيف لبلدان تعاني عجوزات مالية متنامية أن تتوسع في رفع أجور البرلمانيين و المسؤوليين العموميين مع غياب تام للحوكمة في التسيير و الإنفاق، ففي حالة المغرب و لما كانت المناسبة شرط فإن حجم البرلمان المغربي و مقدار ما يكلفه لا يتناسب و قدرات المالية العامة و لا مردودية هذه المؤسسة الشكلية. إن التنمية لا تصنعها الرواتب السخية للنواب و الوزراء و المسؤوليين العموميين، و إنما يصنعها التعليم الجيد، ففي الوقت الذي تشهد فيه البلاد تخلف تنموي مريع و في الوقت الذي أصبح العالم يراهن على المعرفة كمحفز اقتصادي و تنموي، نجد البلدان العربية ترفع يدها عن التعليم و في ذلك ترسيخ و توسيع للفجوة المعرفية، و توسيع الفجوة بين الأغنياء و الفقراء فالصعود في السلم الاجتماعي أصبح مرتبطا بجودة التعليم و جودة التعليم مرتبطة بالقدرة على دفع تكاليفه وهو أمر غير متاح إلا للأغنياء و في ذلك استمرار للوضع القائم فأبناء الأغنياء يمسكون بزمام الثروة و السلطة وأبناء الفقراء عبيد للأغنياء.. لا يسعنا إلا نقد السياسات العمومية في المجال التعليمي، فهي طيلة عقدين لم تسفر إلا على المزيد من الفشل دون محاسبة المسؤوليين عن هذه الاختيارات ، فالمنظومة التعليمة تعاني و مخرجات التعليم لا تتناسب و حجم الإنفاق العمومي المسخر لهذا القطاع، وان كنا نعتبر أن ضعف الإنفاق لا يبرر ضعف الإنتاجية، فالموارد عنصر مهم لكن ثانوي إذا ما توفرت كفاءة التدبير و التخطيط ، فالفساد الإداري وضعف الكفاءة عامل رئيسي في تردي الأوضاع . للأسف السياسات التعليمية في العالم العربي خاطئة، و هذا الفشل عنصر أساسي في ما تعانيه المنطقة من تخلف اقتصادي و اجتماعي بل انه عامل رئيس في حالة اللاستقرار الأمني: فتسييس البرامج التعليمية و جعلها خادمة لشخص الحاكم أو لزمرة المستفيدين الماسكين بالسلطة و المال، بدلا من خدمة المجتمع و المشروع التنموي، جعل من مخرجات العملية التعليمية عاجزة عن الإسهام في عملية التنمية و هو ما يعني بالضرورة تعميق الفقر و التهميش، و من تم فتح الباب أمام الفهم المغلوط للقيم الدينية و غيرها، ومن تم التطرف و لما لا اللجوء للعنف. فالدولة بسياساتها التعليمية هي أول مفرخ للتطرف و الحقد، لكونها اختارت خدمة مصالح فئوية، وتهميش أغلبية المجتمع فخلقت نتيجة لذلك مجتمعا مفككا وغير منسجم . لذلك، فان التوجه نحو مزيد من تسليع التعليم هو إفساد للفاسد، فبدلا من تبني سياسات عمومية ناجعة تتوخي إصلاح المنظومة التعليمية بعيدا عن الحسابات السياسية أو الأمنية الضيقة . فالبلاد في حاجة إلى تعليم سليم باعتبار التعليم الوسيلة الفعالة لتحقيق الانتقال السلمي و الأمن للمجتمع، و لنا في التجارب الدولية نماذج تدعم ما نقول، فالتعليم كان لبنة أساسية في النهضة اليابانيةوالصينية و الشرق أسيوية، بل إن التعليم الجيد خلق تركيا القوية . صحيح أن عجز الموازنة يقتضي التقشف ، لكن التقشف ينبغي أن يتجه نحو تقليل الإنفاق على نزوات الحكم، فالمغاربة لا يهمهم مدى فخامة مراحيض أو سيارات السادة المسؤوليين بقدر ما يهمهم نجاعة السياسات العمومية و مدى تأثيرها الإيجابي في حياتهم اليومية . لكن لابد من القول أن فاقد الشيء لا يعطيه، فغياب الديمقراطية و الحكم الرشيد لن يقود إلا لمزيد من التفقير و التهميش و التجهيل . فالمشكلة الأساسية في البلاد العربية أن الشعوب لا تملك قرارها، و أن القرار بيد غير الأكفاء الذين سيطروا على الحكم و الإرادة العامة بطرق غير شرعية. فإعادة الهيكلة لا ينبغي أن تقتصر على تدبير النفقات العمومية وتعديل بنوذ الإنفاق . فالبلاد العربية في حاجة إلى إعادة هيكلة هذه المجتمعات ككل بدءا من رأس السلطة السياسية إلى أخر مواطن. و ليس هناك من مدخل أمن لتحقيق التحول السلمي إلا بإرساء الحريات السياسية والمدنية و التعليم الجيد و المجاني فالعقول المتعلمة محرك النهضة … و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.. إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق أسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة .