تعيش أغلب البلاد العربية حالة من عدم الاستقرار و غياب السلم الاجتماعي، ويعود ذلك لجملة أسباب، لعل أبهمها غياب الحكم الرشيد، و العجز عن تحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية وتحقيق الرفاه- أو بعبارة أشمل- توسيع خيارات و الناس و حرياتهم، لأن التنمية هي عملية توسيع للحريات الحقيقة التي يتمتع بها الناس، وهو ما يجعل من مسألة توسيع الحرية الغاية الأولية والوسيلة الأساسية للتنمية، وهو ماسماه " أمارتيا صن " بالدور التأسيسي والدور الأداتي للحرية في التنمية.. ويتعلق الدور التأسيسي للحرية بأهمية الحرية الموضوعية في إثراء الحياة البشرية، وتشتمل الحريات الموضوعية على القدرات الأولية من مثل القدرة على تجنب مظاهر الحرمان، كالمجاعات ونقص التغذية، والأمراض القابلة للعلاج والوفاة المبكرة، والحريات المقترنة بالقراءة والكتابة.. و لعل هذه الحريات في عالمنا العربي أصبحت تتلاشى و تتدهور بفعل السياسات الخاطئة، التي اختارت التأسيس لمفهوم الدولة الرشيقة، و التخلي قدر الامكان عن السلع العامة، و إخضاعها لمنطق السوق..و هو توجه مجانب للصواب وتبث فشله، و من ثماره ما نراه اليوم في مختلف بلدان العالم العربي من احتجاجات شعبية، وإسقاط لأنظمة حكم، صحيح أن الاستبداد السياسي و الفساد سبب رئيس في ما يحدث، لكن –بنظرنا- الفقر و الحرمان و عدم المساواة في توزيع الثروة و الخير العام، و فشل الاختيارات التنموية، أهم وقود لإشعال فتيل الاحتجاجات الشعبية، فالفقر وعدم المساواة لا يمثلان فقط انخفاضا في الدخل، بل إنهما حرمانا من القدرات الأولية، التي ينبغي أن يتمتع بها الأفراد في سياق عملية التنمية : فكلما تقلص هامش الفقر والحرمان، إلا وتمدد هامش التنمية وتوسع نطاق الحريات والقدرات والخيارات.. و لتدليل على ذلك، سوف يستحضر المقال تجربة الصين، و كيف أن النظام السياسي، بالرغم من انه لا يخضع لمعايير الديمقراطية وفق المنظور الغربي، إلا انه استطاع ضمان الاستقرار و توسيع حريات و خيارات شعبه.. لذلك، سيحلل المقال تطور قدرات الناس في الصين، بالاعتماد على بعض المؤشرات الكمية مثل التعليم والصحة.. فالصين منذ انطلاق إصلاحات 1978 التزمت بإعطاء أولوية للقطاعات الاجتماعية خاصة الصحة والتعليم، كما اهتمت بقضايا الطفل والمرأة والإقصاء الاجتماعي الذي تعاني منه بعض فئات المجتمع، وكذا بعض الأقاليم والمقاطعات الصينية. غير أن هذا التوجه توسع في الخطط الخمسية التي أعقبت سنة 2000، إذ بدأ الحديث عن تحقيق تنمية متوازنة بغرض بناء "المجتمع المتجانس" و تشكل فكرة "المجتمع المتجانس" خارطة طريق لتنمية اجتماعية محورها الإنسان، غير أن تأكيد أو نفي هذا التوجه لن يتم إلا بتحليل بعض المؤشرات المنتمية لقطاعات اجتماعية أساسية: كالتعليم باعتباره لبنة أساسية في تحرير الإنسان من قيود الجهل، وبالتالي توسيع نطاق خياراته (أولا)، وقطاع الصحة لتحرير الانسان من معاناة المرض والعجز (ثانيا). أولا – التعليم بوابة النهضة منذ تأسيسها حققت الصين انجازات رائعة في مجال التعليم، فقبل عام 1949 لم يكن سوى 20 ٪ من الأطفال الملتحقين بالمدارس، و 80 % من السكان أميين.و بين 1964 و 2000 ، انتقل متوسط سنوات الدراسة من 3.2 إلى 7.6 بينما انخفضت نسبة الأمية من %52 إلى 9.5%. والحكومة في عام 1993 اتخذت سلسلة تدابير لإصلاح التعليم وتطوير البرامج ، وقد سبق للحكومة أن حددت عام 2000 كسقف للقضاء على أمية الشباب وضمان تلقي جميع الطلاب تسع سنوات من التعليم الالزامى. وبحلول عام 2002، تحققت بالفعل هذه الأهداف في المناطق التي يقطنها حوالي 91 ٪ من السكان، وعلى 87 ٪ من جميع المقاطعات. وخلال نفس الفترة، خفضت الحكومة الأمية في صفوف المواطنين فوق سن 15 سنة إلى 9 %، وهو أدنى بكثير من المتوسط العالمي. كما حققت الصين تقدما ملحوظا في التعليم العالي فبحلول عام 1999، كان معدل التسجيل الإجمالي للتعليم العالي قد بلغ 15 ٪ . ولازالت الحكومة الصينية تضع مسألة الرقي بالتعليم وتحسين المنظومة التعليمية واحدا من أهم أولوياتها، على اعتبار أن جودة التعليم مسألة ضرورية لضمان النمو الاقتصادي المستدام وتحسين تنافسية الاقتصاد الصيني. حيث عملت على رفع حجم الانفاق العمومي على التعليم، والعمل على تأهيل الأطر التعليمية ، وتوفير البنية التحتية التعليمية الضرورية . وقد سجلت الصين تحسنا في مستوى الالتحاق بالمدارس والحد من التسرب، إذ انتقل متوسط التلاميذ الذين يحصلون على الشهادة الابتدائية من 94،4 % سنة 2000 إلى 99،9% سنة 2017، ومعدل الطلاب الذين انتقلوا من المدارس الإعدادية إلى مستوى أعلى انتقل من 51،1 %سنة 2000 إلى 89،3 % سنة 2017. كما عملت الحكومة الصينية على تأهيل الكادر البشري العامل في المنظومة التعليمية، ففي سنة 2007 حوالي 99،7% من المعلمين توفروا على مؤهلات تنسجم مع المعايير الوطنية لمزاوالة التعليم، أما نسبة أساتذة المدارس المتوسطة الذين تتطابق مؤهلاتهم مع المعايير الوطنية فقد انتقل 87% سنة 2000 إلى 99% سنة 2017. والرقي بجودة التعليم لم تقتصر فقط على تحسين جودة العاملين بهذا القطاع بل امتدت إلى تأهيل البنية التحتية، فقد استثمرت الصين في العقدين الآخرين في البنية التحتية إذ بلغت المساحة الإجمالية للمدارس الابتدائية والإعدادية سنة 2007 حوالي 35 .1 مليار متر مربع، بنمو بلغ في المتوسط حوالي 265 مليون متر مربع في الفترة الممتدة من 2001 إلى 2007. إلى جانب الاهتمام بتوفير التجهيزات الأساسية كالمختبرات في التخصصات العلمية، و توفير الملاعب الرياضية والمعدات الأساسيية للموسيقى والفنون بهدف تنمية وتطوير مدارك المتمدرسين . على العموم، إذا كانت الصين قد حاولت في السنوات الأخيرة تخصيص اعتمادات مالية مهمة للاستثمار في التعليم بهدف تدارك العجز، إلا أن ذلك يظل غير كافي لتغطية حجم الخصاص الذي يعرفه القطاع، لاسيما وأن الفجوة المعرفية بين الصين والبلدان الصناعية لازالت عميقة. لكن بالمقابل مقارنة الصين بباقي الدول النامية ومن ضمنها العالم العربي يدفعنا باتجاه التأكيد على أن ماحققته الصين في مجال التعليم كان استثنائيا، بل انه نموذج ينبغي الاستفادة منه.. وهي نفس الملاحظة التي سنستخلصها عند تناول تطور القطاع الصحي في الصين.. ثانيا- الصحة العامة والرعاية الطبية نتيجة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، شهدت الصين تحسنا في الرعاية الطبية، و"أصبح السكان أصح"، فبين عامي 1949 و 2000، ارتفع متوسط العمر المتوقع من 35 عاما إلى 71 عاما. معظم هذا التقدم انعكس أيضا في صورة تحسن صحة الأم والطفل. فبين عامي 1991 و 2017، وفيات الأطفال دون سن الخامسة انخفضت من 61 ٪ إلى 34 ٪ ، ومعدل وفيات الرضع من 50 % إلى 28 % ، ومعدل وفيات الأمهات من 0.8 ٪ إلى 0.5 ٪. التحسن في المؤشرات الصحية كان مصحوبا بتحسن التغذية، فبين عامي 1992 و 2004، انخفضت نسبة الأطفال ناقصي الوزن من 18.1 % إلى 7.8 % ومتوسط الطول للأطفال من سن 3 إلى 18 سنة، ارتفع بمقدار ثلاثة سنتيمترات. كما ان الحكومة بذلت جهود كبيرة لمعالجة فيروس الايدز، و تعهدت باستثمار 1.75 مليار يوان من عام 2003 إلى عام 2007. كما تعهدت الحكومة بتوفير الأدوية المجانية للأشخاص المصابين أو الفقراء في المناطق الريفية. فالنظام الصحي في البلد حقق نتائج ايجابية حظيت بإعجاب أخصائي الصحة في العالم، وقد شرعت الحكومة في إجراء سلسلة من الإصلاحات، بتبني نظام جديد للتأمين الصحي في المناطق الريفية، ومخطط طبي و شبكة أمان جديدة لسكان المناطق الريفية، وإحداث شبكة لمراكز مكافحة الأمراض. كما قامت الحكومة باتخاذ سلسلة من التدابير الرامية إلى تعزيز الخدمات الصحية طيلة السنوات الماضية، ولم تجعل الخدمات الصحية خاصة والسلع العامة خاضعة لمنطق السوق و التسليع.. و الخلاصة التي نستفيدها من استحضار أحد جوانب الأداء الجيد في الصين، أن التنمية لا تصنعها الرواتب السخية للوزراء و المسؤوليين العموميين، و إنما تصنعها السلع العامة المنخفضة الكلفة على عموم الناس و السياسات العمومية الجيدة و الفعالة..فالتعليم و الخدمات الصحية ذات الجودة العالية والكلفة المنخفضة أحد ركائز توسيع خيارات الناس، ففي الوقت الذي تشهد فيه أغلب البلاد العربية تخلفا تنمويا مريعا، و في الوقت الذي أصبح العالم يراهن على المعرفة كمحفز اقتصادي و تنموي، نجد أن أغلب البلدان العربية ترفع يدها عن التعليم إستجابة لإملاءات صندوق النقد و البنك الدولي، و في ذلك ترسيخ و توسيع للفجوة المعرفية، و توسيع الفجوة بين الأغنياء و الفقراء، فالصعود في السلم الاجتماعي أصبح مرتبطا بجودة التعليم، و جودة التعليم مرتبطة بالقدرة على دفع تكاليفه، وهو أمر غير متاح إلا للأغنياء، و في ذلك استمرار للوضع القائم، فأبناء الأغنياء يمسكون بزمام الثروة و السلطة وأبناء الفقراء عبيد للأغنياء..نفس المنطق يسري على الخدمات الصحية فالأغنياء ينعمون بصحة وخدمات صحية جيدة، لأنهم يستطيعون دفع تكاليفها، بينما أغلب الفقراء ينخرهم المرض و يعجزون عن الحد من معاناتهم، لأنهم لا يملكون ثمن خدمات صحية أصبحت خاضعة لمنطق العرض و الطلب. للأسف، السياسات العمومية في أغلب البلاد العربية خاطئة، والتوجه العام نحو تسليع الخدمات العمومية هو إفساد للفاسد، فالبلاد العربية في حاجة إلى تعليم سليم باعتبار التعليم الوسيلة الفعالة لتحقيق الانتقال السلمي و الأمن للمجتمع، و لنا في التجارب الدولية نماذج تدعم ما نقول، فالتعليم كان لبنة أساسية في النهضة اليابانية والصينية و الشرق أسيوية، بل إن التعليم الجيد خلق تركيا القوية . صحيح أن عجز الموازنة يقتضي التقشف ، لكن التقشف ينبغي أن يتجه نحو تقليل الإنفاق على نزوات الحكم، فالشعوب العربية من المحيط إلى الخليج لا يهمها مدى فخامة مكاتب أو سيارات السادة المسؤوليين بقدر ما يهمهم نجاعة السياسات العمومية و مدى تأثيرها الإيجابي في حياتهم اليومية… لكن لابد من القول أن فاقد الشيء لا يعطيه، فغياب الديمقراطية و الحكم الرشيد لن يقود إلا لمزيد من التفقير و التهميش و التجهيل ، فالمشكلة الأساسية في البلاد العربية أن الشعوب لا تملك قرارها، و أن القرار بيد غير الأكفاء الذين سيطروا على الحكم و الإرادة العامة بطرق غير شرعية..فإعادة الهيكلة لا ينبغي أن تقتصر على تدبير النفقات العمومية وتعديل بنوذ الإنفاق، فالبلاد العربية في حاجة إلى إعادة هيكلة هذه المجتمعات ككل بدءا من رأس السلطة السياسية إلى أخر مواطن، و ليس هناك من مدخل أمن لتحقيق التحول السلمي إلا بإرساء الحريات السياسية والمدنية و و تعزيز دور الدولة في تقديم السلع العامة لتوسع خيارات و حريات مواطينها.. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون… أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية.