تابعنا عبر وسائط التواصل الاجتماعي في المغرب مشهد التدخل العنيف لأحد أعوان السلطة بالعاصمة الرباط ضد الأساتذة المحتجين، و عون السلطة كان يرتدي لباس مدني و ليس بزي رسمي معروف لدى العموم ، و الواقع أننا ندين مثل هذه الممارسات الغير أخلاقية، بغض النظر عن صفة أو زي عون السلطة،فرجال التعليم هم بناة المستقبل، فبمثل هؤلاء الرجال و النساء تبنى الأمم و يتغير مستقبلها للأفضل، فرجال التعليم هم صناع القادة و النخب، لكن أن يتم التطاول عليهم بهذا الشكل السافر، فذلك أمر مؤسف ويدعو إلى الرثاء، و يتم هذا في وقت تعمل فيه الدولة المغربية على تقديم الدعم لعدد غير محدود من صناع التفاهة و اللهو، و دعم مواقع إلكترونية و صحف بملايين الدراهم في قلب جائحة كورونا، فما الذي قدمته هذه الجهات خدمة لدافع الضريبة المغربي مقارنة بالأساتذة الذين يتم التنكيل بهم بشتى الطرق…ففي البلدان التي تحترم نفسها لا تتعامل مع رجال و نساء التعليم بهذا الشكل العدواني و المهين، بل تعمل على تشريفهم و تكريمهم ، فأفضل الأجور في اليابان و ماليزيا و كوريا الجنوبية من نصيب الأساتذة و المعلمين، فالراتب السنوي لأستاذ الجامعة المبتدئ في ماليزيا أو كوريا الجنوبية يعادل راتب الأستاذ الجامعي في المغرب لمدة عشر سنوات و نيف… قد نتفهم أن موارد الدولة المغربية غير كافية، و لكن بالنظر إلى سلم أولويات الإنفاق العمومي نجد أن الوضع مغاير تماما، فتعويضات و أجور المسئولين العموميين جد مرتفعة و مبالغ فيها مقارنة بأداءهم، لكن الأستاذ و المعلم هو المنتج الحقيقي للثروة، لأننا نؤمن أن الثروة الحقيقة هي رأس المال البشري، و لتنمية هذه الثروة لابد من العناية بالأستاذ و المعلم، فالغاية ليس الاستثمار في الحجر و إنما تنمية البشر… لكن للأسف، في المغرب يهان رجل التعليم و تمتهن كرامته، وموقفي هذا لا يعني تأييد أو معارضة مطالبهم التي تظل مشروعة، فالحق في الأمن الوظيفي و المساواة في الحقوق و الواجبات مع باقي الأساتذة و الأطر التعليمية الخاضعة للنظام الأساسي للوظيفة العمومية مطلب مشروع، خاصة وأن منظومة التعليم بكل مستوياته، تعاني نقصا في الكادر البشري، كما أن حماية حقوق الأستاذ، و توفير البيئة السليمة للعمل، شرط ضروري لتجويد وتحسين مخرجات العملية التعليمية .. و بعيدًا عن الجدل الدائر حول نظام التعاقد في التعليم، وما مدى مشروعيته و فعاليته في تحسين كفاءة المنظومة التعليمية والتربوية؟! فإننا نرى أن الأمر أكثر عمقا من مجرد ضرب الإستقرار الوظيفي لرجال و نساء التعليم، أو إضاعة الزمن الدراسي على التلاميذ و تهديد مستقبلهم، فالأمر بنظرنا، هو تعبير عن فشل السياسات العمومية في مجال التعليم، و عجز خطط و برامج الإصلاح و فشلها الذريع في تنزيل منظومة تعليمية فعالة ومنتجة…فالمغرب يعيش حالة من الفوضى في مجال التعليم و ما توالي البرامج الإستعجالية و المخططات الإصلاحية، إلا تعبير عن غياب الرؤية و عدم سلامة المنهجية… و بخلاف الرؤية السائدة فإن الصراع الدائر بين الحكومة و الأساتذة ليس حول مشروعية التعاقد من عدمه ، و لا يعبر عن تعنث الأساتذة و إنقلابهم على ما سبق و قبلوه عن مضض، فالواقع أننا نعرف حالات كثيرة،قبلت بالتعاقد لأنها لم تجد بديلا عنه ، فالبطالة المتفشية في المغرب و نذرة فرص العمل،خاصة في صفوف حاملي الشهادات يجعل من خطاب الحكومة والوزارة الوصية فيه مجانبة للصواب.. كما أن شعارات الأساتذة -بكل موضوعية و تجرد- تعبر عن بعض من "الأنانية" في التعاطي مع الموضوع، من خلال الحرص على الإدماج في الوظيفة العمومية ، و إهمال مطالب تحديث منظومة التعليم و إصلاحها، و تغيير الوضع السياسي العام بالبلاد، و هذا الموقف لا ينفي أن شعارات من قبيل "الحق في التعليم" و "رفض ضرب مجانية التعليم" من الشعارات المرفوعة، إلا أنها تظل ثانوية مقارنة بمطلب الإدماج في الوظيفة العمومية… و بنظرنا، فإن الحق في الأمن الوظيفي مطلب مشروع، و على الحكومة أن تستوعب هذا الأمر، كما أن التوظيف السيء للتعاقد و إستغلاله من قبل بعض المسؤولين لإقصاء بعض الأساتذة بحكم انتماءاتهم السياسية أو النقابية، فهذا أسلوب مرفوض و ينبغي التصدي له.. و قد سبق لي أخي القارئ، أن صرحت في أحد مقالاتي أني أفكر في ترك الكتابة و التدريس معا، بغرض التفرغ للتجارة و إلقاء محاضرات دورية في جامعات بعينها تتوفر فيها شروط العمل، فأنا على المستوى الشخصي أومن بأن الثروة مصدرها التجارة، أما الوظيفة العمومية فأفقها يظل محدود و ليست مصدر لتحقيق الثروة و الغنى، اللهم إذا تم اللجوء إلى طرق غير مشروعة، فلو طبقنا في بلادنا المغرب مبدأ من أين لك هذا؟ : لكان غالبية الموظفين العموميين في السجن المركزي بالقنيطرة، لأن ما يملكونه يتعارض كليا مع أجورهم و إمكانياتهم التي يتيحها الأجر العمومي الرسمي.. لذلك، فإني أنصح الطلبة دائما بالابتعاد قدر المستطاع عن الوظيفة العمومية و البحت عن تنمية مهارتهم لمزاولة أنشطة تجارية و خدمية، و التنافس على مستوى العالم و ليس فقط المغرب، و عدم الربط بين التعليم و الوظيفة العمومية، ففي الصين البلد الشيوعي ، نجد أن أغلب العقول المتعلمة تفضل الاشتغال في القطاع الخاص بدلا من الاشتغال في القطاع العام، وهو الأمر الذي دفع الحكومة المركزية و حكومات المقاطعات إلى دفع أجور مرتفعة لجذب المتخرجين الجدد و خاصة في القطاعات التي تتطلب تكوين متخصص…بل إني أرى أن التعيين في الوظيفة العمومية ينبغي أن تكون بالتعاقد و لمدة محددة، و بموجب برنامج عمل المترشح و خاصة في المستويات العليا.. و بمناسبة التعنيف الذي تعرض له الأساتذة المتعاقدين، فإني أرى أن الإشكالية الحقيقية ،التي ينبغي أن تكون محل نقاش عمومي و مجتمعي تتمحور حول محورين أساسين : المحور الأول: محاولة الحكومة المغربية تسليع التعليم : الإشكال الحقيقي الذي ينبغي أن يكون محل نقاش عام هو التوجه العمومي الرسمي نحو تسليع التعليم و رفع الدولة المغربية يدها عن التعليم و الإتجاه الممنهج نحو تخصيص العملية التعليمية و جعل مسؤولية التمويل على عاتق الأسر، في الوقت الذي تتوسع في الإنفاق المظهري على المهرجانات و المشاريع الثانوية، فكيف يعقل في ظل الخصاص و الشح المالي، أن يتم تخصيص أجور و إمتيازات لكبار المسؤولين العموميين و الإستثمار في مشاريع لا تخدم إلا القلة، و لا تخدم جهود التنمية الحقيقية؟ فالتنمية لا تصنعها الرواتب السخية للنواب و الوزراء و المسؤوليين العموميين، و إنما يصنعها التعليم الجيد، ففي الوقت الذي تشهد فيه البلاد تخلف تنموي مريع، و في الوقت الذي أصبح العالم يراهن على المعرفة كمحفز اقتصادي و تنموي، نجد المغرب وأغلب البلدان العربية ترفع يدها عن التعليم و في ذلك ترسيخ و توسيع للفجوة المعرفية، و توسيع الفجوة بين الأغنياء و الفقراء، فالصعود في السلم الاجتماعي أصبح مرتبطا بجودة التعليم ، و جودة التعليم مرتبطة بالقدرة على دفع تكاليفه، وهو أمر غير متاح إلا للأغنياء، و في ذلك استمرار للوضع القائم، فأبناء الأغنياء يمسكون بزمام الثروة و السلطة وأبناء الفقراء عبيد للأغنياء.. لذلك لا يسعنا إلا نقد السياسات العمومية في المجال التعليمي، فهي طيلة عقدين لم تسفر إلا على المزيد من الفشل دون محاسبة المسؤوليين عن هذه الاختيارات ، فالمنظومة التعليمة تعاني من العجز و العشوائية و الإرتجال و عدم الإستقرار ،و مخرجات التعليم لا تتناسب و حجم الإنفاق العمومي المسخر لهذا القطاع، وان كنا نعتبر أن ضعف الإنفاق لا يبرر ضعف الإنتاجية، فالموارد عنصر مهم لكن ثانوي إذا ما توفرت كفاءة التدبير و التخطيط ، فالفساد الإداري وضعف الكفاءة عامل رئيسي في تردي الأوضاع .للأسف السياسات التعليمية في المغرب خاطئة، و هذا الفشل عنصر أساسي في ما تعانيه البلاد و عموم المنطقة، من تخلف اقتصادي و اجتماعي بل انه عامل رئيس في حالة اللاستقرار الأمني: فتسييس البرامج التعليمية و جعلها خادمة لشخص الحاكم، أو لزمرة المستفيدين الماسكين بالسلطة و المال، بدلا من خدمة المجتمع و المشروع التنموي، جعل من مخرجات العملية التعليمية عاجزة عن الإسهام في عملية التنمية، و هو ما يعني بالضرورة تعميق الفقر و التهميش، و من تم فتح الباب أمام الفهم المغلوط للقيم الدينية و غيرها، ومن تم التطرف و لما لا اللجوء للعنف. فالدولة بسياساتها التعليمية هي أول مفرخ للتطرف و الحقد، لكونها اختارت خدمة مصالح فئوية، وتهميش أغلبية المجتمع فخلقت نتيجة لذلك مجتمعا مفككا وغير منسجم . لذلك، فان التوجه نحو مزيد من تسليع التعليم هو إفساد للفاسد، فبدلا من تبني سياسات عمومية ناجعة تتوخي إصلاح المنظومة التعليمية بعيدا عن الحسابات السياسية أو الأمنية الضيقة . فالبلاد في حاجة إلى تعليم سليم باعتبار التعليم الوسيلة الفعالة لتحقيق الانتقال السلمي و الأمن للمجتمع، و لنا في التجارب الدولية نماذج تدعم ما نقول، فالتعليم كان لبنة أساسية في النهضة اليابانيةوالصينية و الشرق أسيوية، بل إن التعليم الجيد خلق تركيا القوية . صحيح أن عجز الموازنة يقتضي التقشف ، لكن التقشف ينبغي أن يتجه نحو تقليل الإنفاق على نزوات الحكم، فالمغاربة لا يهمهم مدى فخامة مكاتب أو سيارات السادة المسؤوليين بقدر ما يهمهم نجاعة السياسات العمومية و مدى تأثيرها الإيجابي في حياتهم اليومية… لكن لابد من القول أن فاقد الشيء لا يعطيه، فغياب الديمقراطية و الحكم الرشيد لن يقود إلا لمزيد من التفقير و التهميش و التجهيل ، فالمشكلة الأساسية في البلاد العربية أن الشعوب لا تملك قرارها، و أن القرار بيد غير الأكفاء الذين سيطروا على الحكم و الإرادة العامة بطرق غير شرعية..فإعادة الهيكلة لا ينبغي أن تقتصر على تدبير النفقات العمومية وتعديل بنوذ الإنفاق، فالبلاد العربية في حاجة إلى إعادة هيكلة هذه المجتمعات ككل بدءا من رأس السلطة السياسية إلى أخر مواطن، و ليس هناك من مدخل أمن لتحقيق التحول السلمي إلا بإرساء الحريات السياسية والمدنية و التعليم الجيد و المجاني… المحور الثاني: الردة الحقوقية التي يشهدها المغرب : التعنيف و التضييق الذي تعرض له الأساتذة المتعاقدين خاصة، و الاحتجاجات الشعبية عامة التي عرفتها العديد من المدن المغربية طلية السنوات الماضية، و تحديدا بعد حراك الحسيمة و مرورا بالاحتجاجات اللاحقة و أخرها إحتجاج سكان مدينة "الفنيدق"،هذه الاحتجاجات التي أصبح يتم التعامل معها بعنف و إنزال أمني كثيف، و إعتقال بعض المحتجين ، رغم أنها احتجاجات محدودة و سلمية، فحق التعبير و التظاهر السلمي مكفول بموجب دستور 2011 و بموجب المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب.. هذا الأسلوب الأمني في التعاطي مع الاحتجاجات يعد ردة حقوقية، خاصة وأن المغرب قبل إنفجار أحداث الربيع العربي، إستطاع أن يملك الجرأة لطي صفحة سنوات الرصاص وتم تعويض الضحايا ماديا ومعنويا، وقدمت الدولة شبه إعتذار عن الانتهاكات الجسيمة طيلة عهد الراحل الحسن الثاني، وتم الإقرار والتعهد بالقطع مع هذه الممارسات، والإلتزام باحترام حقوق الإنسان ، وهو ما ترسخ في دستور 2011، لكن الممارسات في السنوات الأخيرة تعيد البلاد مجدادا إلى سنوات الرصاص وتمت الردة عن مسار إصلاحي كان جيدا في مطلع القرن 21...فمن المستفيد من هذه الردة ؟ وهل التوجه الإنتكاسي للخلف، يحقق هيبة الدولة وحماية وحدتها؟ وهل ذلك يتم بالاعتداء على حقوق مواطنيها وفي مقدمة هذه الحقوق الحق في الحياة والكرامة؟! فالذي لا يريد النظام السياسي المغربي الإعتراف به، هو أن مسلسل الاحتجاجات هو نتاج طبيعي، لفشل السياسات العمومية وضعف مخرجات التنمية، فالاختيارات السياسية والتنموية خاطئة، ولا تخدم مصالح عامة الشعب المغربي، فالتوجه العام يصب في خدمة مصالح الأقلية المحتكرة للثروة والسلطة في البلاد، والقوانين والتشريعات تصب في حماية هذه الأقلية وضمان سيطرتها، وهو الأمر الذي يقود إلى ما نراه من إندحار نحو المجهول ..ويَنْضَاف إلى ذلك، سوء الإدارة وعدم كفاءة المسؤوليين العموميين وتغليب الولاء على الكفاءة وانتشار الفساد والاستبداد وغياب أدنى شروط الحكم الرشيد، من حيث المساءلة والمحاسبة والشفافية ووقف نزيف هدر المال العام..وبنظرنا، بالرغم من سوداوية الواقع المغربي إلا أنه لازال بالإمكان تدارك الموقف، وأعتقد أن غالبية الشعب المغربي تتطلع إلى التغيير و الإصلاح السياسي الجاد، فالدولة المغربية في حاجة إلى إعادة هيكلة جذرية من الرأس إلى القاع و الإصلاح السياسي و الدستوري مطلب ضروري للخروج من الأزمة... فالمنهجية المتبعة في إدارة الدولة لا تنسجم مع الكلفة والتحديات الناشئة، فالمغرب لا يحتمل هذا الترف السياسي ومؤسسات ديموقراطية مزيفة: حكومة شكلية لا تملك من الأمر شيئا، و برلمان بغرفتين لا دور له يذكر في ضمان السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، وإنتخابات شكلية يقاطعها غالبية المغاربة، وبيروقراطية إدارية مترهلة على المستويين المركزي واللامركزي...غايتها تحقيق ريع سياسي وإغناء بعض النخب وضمان ولاءها، وأصبح نتيجة لذلك، العمل السياسي مصدرا لتحقق المكاسب والمغانم ، وتزداد المأساة عمقا مع إنتشار الفساد وغياب المحاسبة والمساءلة، والطامة الكبرى زواج السلطان بالتجارة والذي يشكل سبب رئيس في الخراب الذي نراه... و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون .. إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..