يعيش المغرب منذ بداية الموسم الدراسي الحالي على وقع إحتجاجات رجال و نساء التعليم ، أو ما أصبح يعرف بالأساتذة المتعاقدين، و قد تصاعدت وثيرة هذه الإحتجاجات في الفترة الأخيرة بفعل تصلب موقف الحكومة و رفضها لمطالب المحتجين، بل إن السلطات غلبت- في بعض الأحيان- منطق القوة و العنف، على الحوار في تعاطيها مع مسيرات و إعتصامات الأساتذة.. و نقطة الخلاف بين الحكومة و الأساتذة هو الشروط التي فرضتها الوزارة الوصية على الأساتذة بموجب عقود الولوج للوظيفة ، وحالة التمييز التي أفرزها نظام التعاقد الذي تم تبنيه منذ نحو ثلاث سنوات، إذ هناك تمييز بين الأساتذة الخاضعين لمقتضيات الوظيفة العمومية، و بين الأساتذة المتعاقدين ، و يندرج نظام التعاقد في التعليم، كما أعلنت الحكومة المغربية في إطار "إرساء الجهوية المتقدمة من خلال استكمال اللامركزية واللاتمركز في قطاع التربية الوطنية وملاءمة وضعية الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين بصفتها مؤسسة عمومية مع مستلزمات القانون رقم 69.00 المتعلق بالمراقبة المالية للدولة على المنشآت العامة وهيآت أخرى.." و بعيدًا عن الجدل الدائر حول نظام التعاقد في التعليم، وما مدى مشروعيته و فعاليته في تحسين كفاءة المنظومة التعليمية والتربوية؟! فإننا نرى أن الأمر أكثر عمقا من مجرد ضرب الإستقرار الوظيفي لرجال و نساء التعليم، أو إضاعة الزمن الدراسي على التلاميذ و تهديد مستقبلهم، فالأمر بنظرنا، هو تعبير عن فشل السياسات العمومية في مجال التعليم، و عجز خطط و برامج الإصلاح و فشلها الذريع في تنزيل منظومة تعليمية فعالة ومنتجة…فالمغرب يعيش حالة من الفوضى في مجال التعليم و ما توالي البرامج الإستعجالية و المخططات الإصلاحية، إلا تعبير عن غياب الرؤية و عدم سلامة المنهجية… و بخلاف الرؤية السائدة فإن الصراع الدائر بين الحكومة و الأساتذة ليس حول مشروعية التعاقد من عدمه ، و لا يعبر عن تعنث الأساتذة و إنقلابهم على ما سبق و قبلوه عن مضض، فالواقع أننا نعرف حالات كثيرة، قبلت بالتعاقد لأنها لم تجد بديلا عنه ، فالبطالة المتفشية في المغرب و نذرة فرص العمل، خاصة في صفوف حاملي الشهادات يجعل من خطاب الحكومة والوزارة الوصية فيه مجانبة للصواب.. كما أن شعارات الأساتذة -بكل موضوعية و تجرد- تعبر عن بعض من الأنانية في التعاطي مع الموضوع، من خلال الحرص على الإدماج في الوظيفة العمومية ، و إهمال مطالب تحديث منظومة التعليم و إصلاحها، و تغيير الوضع السياسي العام بالبلاد، و هذا الموقف لا ينفي أن شعارات من قبيل "الحق في التعليم" و "رفض ضرب مجانية التعليم" من الشعارات المرفوعة، إلا أنها تظل ثانوية مقارنة بمطلب الإدماج في الوظيفة العمومية… و بنظرنا، فإن الحق في الأمن الوظيفي مطلب مشروع، و على الحكومة أن تستوعب هذا الأمر ، كما أن التوظيف السيء للتعاقد و إستغلاله من قبل بعض المسؤولين لإقصاء بعض الأساتذة بحكم إنتماءاتهم السياسية أو النقابية، فهذا أسلوب مرفوض و ينبغي التصدي له. و الإشكالية الحقيقية، التي ينبغي أن تكون محل نقاش عمومي، هو محاولة الحكومة المغربية رفع يدها عن التعليم و الإتجاه الممنهج نحو تخصيص العملية التعليمية و جعل مسؤولية التمويل على عاتق الأسر، في الوقت الذي تتوسع في الإنفاق المظهري على المهرجانات و المشاريع للثانوية، فكيف يعقل في ظل الخصاص و الشح المالي، أن يتم تخصيص أجور و إمتيازات لكبار المسؤولين العموميين و الإستثمار في مشاريع لا تخدم إلا القلة، و لا تخدم جهود التنمية الحقيقية؟ فقد بلغت المديونية العامة للبلاد ما يفوق 91 ٪ من الناتج الإجمالي للبلاد، و هو رقم لم يسبق حدوثه من قبل ، و يجعل المغرب يغرق في دوامة المديونية و خدمة القروض لعقود قادمة، الأمر الذي سيكون له تأثير سلبي و مدمر على مستقبل الجيل الحالي و المقبل، وهذا العجز يسجل في ظل سنوات ما يسمى بالطفرة التنموية والنموذج التنموي المغربي ألم نسمع عبارات تشيد بالتقدم الذي تحقق في البلاد من قبيل عبارات" اللهم كثر حسادنا" و المغرب " دولة صاعدة و رائدة في إفريقيا".. الواقع الحالي للبلاد مقلق و الجهود تتجه بسرعة نحو تسليع الخدمات العمومية، فقد تدهور قطاع الصحة و التعليم ، و إرتفعت معدلات الفقر و البطالة والحرمان الإقتصادي و الإجتماعي، و الت0كل الشديد في القدرة الشرائية لأغلبية المواطنيين، نتيجة للتضخم و محدودية الدخل… فهذا الاختيار يعبر عن حقيقة الوجه القبيح للسياسات العمومية في المغرب و توجها الأرثودوكسي في خدمة أجندة المؤسسات الدولية و خدمة لوبي المال المحلي ، مع إهمال حاجيات الأغلبية من الشعب والتي تعاني التهميش و التجهيل و التفقير . و الجدير بالذكر، أن هذا التوجه يمس غالبية القراء في العالم العربي فما يعرفه المغرب ينطبق على باقي البلاد العربية، لذلك فاقتصارنا على الحالة المغربية هو دراسة حالة، دون أن يمنع ذلك من تعميم الحكم على باقي البلاد العربية. لا أحد منا يجادل في ضعف البنية التحتية و المنظومة التعليمية ككل. فالمغرب كباقي البلاد العربية يعرف تخلفا شديدا في مجال التعليم و البحث العلمي و المؤشرات الدالة على هذا التخلف كثيرة، نذكر منها؛ مؤشر تدني نسبة الإنفاق على قطاع التعليم و البحث من ضمن إجمالي الناتج الخام الداخلي، فالنسبة لا تصل إلى المتوسط العالمي، و كذلك عدم التناسب بين مخرجات التعليم و سوق العمل، و ارتفاع نسب العاطلين من حملة الشواهد العليا... كما أن أحد مؤشرات نجاعة المنظومة التعليمية هو مدى حضور مؤسسات التعليم العالي ضمن مؤشر "شنغهاي" أو "اليونيسكو" ، فأغلب البلدان العربية لا وجود لها ضمن سلم 500 أفضل جامعة في العالم ..وحتى لا نطيل في توصيف الواقع فإننا سنحلل أبعاد تقليص الإنفاق العمومي على التعليم و تأثيره على المجال التنموي.. من دون شك، أن أغلبية بلدان العالم أصبحت تتجه نحو التقليل من تدخل الدولة و توسيع دور القطاع الخاص في تقديم الخدمات العامة وهو ما يعرف في أدبيات التنمية بالدولة "الرشيقة" و هو توجه ذو طبيعة دولية بدأ مع "التاتشرية" و "الريغانية" و بلغ أوجه مع "النيولبرالية" المتوحشة. لكن في البلاد العربية الأمر اتخذ توجها متطرفا ففي ظل الخصاص المالي و انتهاج سياسات تقشفية تمس القطاعات الاجتماعية ذات الطلب الجماهيري، يتم التوسع في الإنفاق العمومي المظهري، فكيف لبلدان تعاني عجوزات مالية متنامية أن تتوسع في رفع أجور البرلمانيين و المسؤوليين العموميين مع غياب تام للحوكمة في التسيير و الإنفاق، ففي حالة المغرب فإن حجم البرلمان المغربي و الحكومة و الجهاز البيروقراطي، و مقدار ما يكلفه لا يتناسب و القدرات المالية العامة و لا مردودية هذه المؤسسات الشكلية في الغالب… إن التنمية لا تصنعها الرواتب السخية للنواب و الوزراء و المسؤوليين العموميين، و إنما يصنعها التعليم الجيد، ففي الوقت الذي تشهد فيه البلاد تخلف تنموي مريع، و في الوقت الذي أصبح العالم يراهن على المعرفة كمحفز اقتصادي و تنموي، نجد المغرب وأغلب البلدان العربية ترفع يدها عن التعليم و في ذلك ترسيخ و توسيع للفجوة المعرفية، و توسيع الفجوة بين الأغنياء و الفقراء فالصعود في السلم الاجتماعي أصبح مرتبطا بجودة التعليم ، و جودة التعليم مرتبطة بالقدرة على دفع تكاليفه، وهو أمر غير متاح إلا للأغنياء، و في ذلك استمرار للوضع القائم، فأبناء الأغنياء يمسكون بزمام الثروة و السلطة وأبناء الفقراء عبيد للأغنياء.. لا يسعنا إلا نقد السياسات العمومية في المجال التعليمي، فهي طيلة عقدين لم تسفر إلا على المزيد من الفشل دون محاسبة المسؤوليين عن هذه الاختيارات ، فالمنظومة التعليمة تعاني من العجز و العشوائية و الإرتجال و عدم الإستقرار ، و مخرجات التعليم لا تتناسب و حجم الإنفاق العمومي المسخر لهذا القطاع، وان كنا نعتبر أن ضعف الإنفاق لا يبرر ضعف الإنتاجية، فالموارد عنصر مهم لكن ثانوي إذا ما توفرت كفاءة التدبير و التخطيط ، فالفساد الإداري وضعف الكفاءة عامل رئيسي في تردي الأوضاع . للأسف السياسات التعليمية في المغرب خاطئة، و هذا الفشل عنصر أساسي في ما تعانيه البلاد و عموم المنطقة، من تخلف اقتصادي و اجتماعي بل انه عامل رئيس في حالة اللاستقرار الأمني: فتسييس البرامج التعليمية و جعلها خادمة لشخص الحاكم، أو لزمرة المستفيدين الماسكين بالسلطة و المال، بدلا من خدمة المجتمع و المشروع التنموي، جعل من مخرجات العملية التعليمية عاجزة عن الإسهام في عملية التنمية، و هو ما يعني بالضرورة تعميق الفقر و التهميش، و من تم فتح الباب أمام الفهم المغلوط للقيم الدينية و غيرها، ومن تم التطرف و لما لا اللجوء للعنف. فالدولة بسياساتها التعليمية هي أول مفرخ للتطرف و الحقد، لكونها اختارت خدمة مصالح فئوية، وتهميش أغلبية المجتمع فخلقت نتيجة لذلك مجتمعا مفككا وغير منسجم . لذلك، فان التوجه نحو مزيد من تسليع التعليم هو إفساد للفاسد، فبدلا من تبني سياسات عمومية ناجعة تتوخي إصلاح المنظومة التعليمية بعيدا عن الحسابات السياسية أو الأمنية الضيقة . فالبلاد في حاجة إلى تعليم سليم باعتبار التعليم الوسيلة الفعالة لتحقيق الانتقال السلمي و الأمن للمجتمع، و لنا في التجارب الدولية نماذج تدعم ما نقول، فالتعليم كان لبنة أساسية في النهضة اليابانية والصينية و الشرق أسيوية، بل إن التعليم الجيد خلق تركيا القوية . صحيح أن عجز الموازنة يقتضي التقشف ، لكن التقشف ينبغي أن يتجه نحو تقليل الإنفاق على نزوات الحكم، فالمغاربة لا يهمهم مدى فخامة مكاتب أو سيارات السادة المسؤوليين بقدر ما يهمهم نجاعة السياسات العمومية و مدى تأثيرها الإيجابي في حياتهم اليومية… لكن لابد من القول أن فاقد الشيء لا يعطيه، فغياب الديمقراطية و الحكم الرشيد لن يقود إلا لمزيد من التفقير و التهميش و التجهيل ، فالمشكلة الأساسية في البلاد العربية أن الشعوب لا تملك قرارها، و أن القرار بيد غير الأكفاء الذين سيطروا على الحكم و الإرادة العامة بطرق غير شرعية..فإعادة الهيكلة لا ينبغي أن تقتصر على تدبير النفقات العمومية وتعديل بنوذ الإنفاق، فالبلاد العربية في حاجة إلى إعادة هيكلة هذه المجتمعات ككل بدءا من رأس السلطة السياسية إلى أخر مواطن، و ليس هناك من مدخل أمن لتحقيق التحول السلمي إلا بإرساء الحريات السياسية والمدنية و التعليم الجيد و المجاني، فالعقول المتعلمة هي محرك النهضة ... *إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي