في السابع من تموز (يوليو) 2024 يكون قد مرّ على بدء طوفان الأقصى تسعة أشهر بالتمام والكمال، وهي مدة كافية لتضع فيها كل ذات حمل حملها. لم يكن أحد يتصور في تقديري أن تستمر الحرب على غزة كل هذه المدة. ولعل الخيال الصهيوني المختل كان يتصور أنه في نزهة لا تتعدى بضعة أيام، يستعيد خلالها المحتجزين، ويدمر الأنفاق، ويقضي على حماس، ويخلي غزة من ساكنتها ويفرض عليها سلطانه وحصاره، ويعود إلى ما قبل الطوفان ليحقق مسلسل تطبيعاته. لكن الرياح سارت بما لا تشتهيه السفينة الصهيونية، فلم تستطع بعد الرسو على ميناء، وسادها الاضطراب الذي عرى سوءة ادعاءاتها، وكشف أوهام أسطورتها. لم يستسغ العقل والهوى والدين الصهيوني ما جرى، وأمسى لسان حاله، ضمنا ومباشرة، يقول: أنى لعصبة من المقاومة أن تفعل مفاعيلها، وأن تمرغ أنف الكبرياء الإسرائيلي في التراب، وتضع دولة إسرائيل، القوة الكبرى في المنطقة، في غفلة من مثل هذا الحساب، وهي التي أشاعت أنها فوق أي حساب، وتحسب لكل شيء ألف حساب؟ لا يمكن لمنطق القوة الرادعة أن يقبل هذا التحدي، وهذا الفعل الشنيع الذي أقدمت عليه المقاومة. ولن يكون الرد إلا فوق مستوى ما أقدم عليه طوفان الأقصى: الانتقام الأشرس ممثلا في التدمير، والتقتيل، والتهجير، والتجويع. وإذا كانت كل هذه الممارسات ضد «إرهاب» الغَزِّيين، فإن الضَّفيين، حيث السلطة الفلسطينية، لا يختلفون عن بني جلدتهم، وعليهم أن يؤدوا الثمن غاليا: الاغتيالات، والاعتقالات، والمداهمات، والسطو على منازلهم وهدمها، وتسليط المستوطنين عليهم لطردهم من بيوتهم ومزارعهم، وبناء مستوطنات جديدة محلها. وليصلِّ بن غفير في المسجد الأقصى، وليدعُ لنتنياهو بالنصر المبين، وليعلن الكنيست أن لا حل للدولتين، وليذهب الفلسطينيون إلى الجحيم، فجند الرب، وذخيرة أمريكا، ودعم الغرب، معهم في استعادة المحتجزين بالقوة العسكرية التي تفرض على حماس الصفقة التي يريدونها، والتي يتأكد من خلالها أن إسرائيل هي القوة، ولا مندوحة للمقاومة عن القبول بالصفقة إلا وهم صاغرون. الحرب غير متكافئة، بين الدولة الصهيونية والمقاومة الفلسطينية وعلى أي مستوى من المستويات. وما قامت به إسرائيل في غزة لا يناظر إلا ما تقدمه لنا هوليوود عن «القيامة» وأهوالها. ومع ذلك كانت المقاومة في مستوى التحدي الأكبر، وجرعت الصهيونية كؤوس المرارة والحسرة التي لا تنسى، رغم كل التضحيات والآلام التي عانتها أمام تغول إسرائيل ومعها أمريكا بدون مواربة ولا من وراء حجاب. لقد أعادت المقاومة فلسطين إلى الواجهة، وبينت أن القضية لن تموت نهائيا. كما أنها أبرزت أن الصهيونية حركة عنصرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وجعلت العالم الحر يرى هذه الحقيقة التي ظل الإعلام العالمي يتستر عنها باسم المحرقة، واللاسامية. لقد صارت المحرقة متصلة بالفلسطيني، واللاسامية مرتبطة بالعربي، وساهم هذا في تغيير الصورة النمطية التي هيمنت طيلة عدة عقود عن الدولة اليهودية، وبروز وعي جديد بحقيقة الصهيونية. هذا أولا. وثانيا كشف طوفان الأقصى أن إسرائيل وهي تشخص القضية الفلسطينية طورا في حماس، وتارة في السنوار، وأخرى في الضيف أنها تبرئ نفسها من الأفعال الهمجية التي تقوم بها ضد المدنيين نساء وأطفالا وشيوخا، وضد المؤسسات المختلفة، والبنيات التحتية، وتتخذها جميعا مسوغات، لا يكررها أو يعتمد عليها لإدانة المقاومة إلا من كان في قلبه مرض، لممارسة الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي. وخير دليل على ذلك ما نراه فيما يقوم به المستوطنون، أيضا، في الضفة الذين تم تسليحهم، وتوظيفهم لطرد الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم. هذا التشخيص يُبين أن المراد ليس الأشخاص، «رؤوس الفتنة»، ولكن القضية الفلسطينية برمتها التي هي قضية وجود يتعارض مع الزعم الصهيوني الذي يقضي بأن وجوده رهين بمحوها. وما اختلاق مختلف المبررات، واصطناع الأكاذيب للتدمير والتقتيل، والتهرب في كل مرة من الحديث الجاد عن الهدنة، أو توقيف الحرب، أو عدم الإنصات إلى دعوات عائلات المحتجزين، أو الأصوات العالمية المتعالية لوقف الحرب، أو قبول المقاومة للتفاوض، سوى دليل على هذا الهاجس المتمثل في إنهاء القضية الفلسطينية نهائيا. ثالثا يبدو لنا الأثر الذي تولد مع هذه الحرب على وجود نوعين من الضحايا: الفلسطينيون في غزة والضفة الذين قضي على عشرات الآلاف منهم، عدا المصابين والمفقودين، ومع ذلك نجدهم، رغم كل المعاناة، ينخرطون بمعنويات عالية في التصدي لمختلف ممارسات التدمير والتقتيل وبأدوات بسيطة. بينما نجد لدى الطرف الآخر تزايد الإرهاب لدى البعض منهم ضد كل ما هو فلسطيني، وتفكير البعض الآخر في الخروج نهائيا بدون التفكير في العودة. وهذا المؤشر دال على طينة المستوطنين التي تختلف عن إيمان من احتلت أرضه بالقوة، وأخرج منها بالسلاح والتآمر. وفي الإطار نفسه نسجل كيف أن السعي إلى إقحام الحريديم في التجنيد ما يكشف لنا عن طبيعة هذا المجتمع، وأن الحرب فرضت عليه التخلي عن صورته النمطية، وأنها استنزفت قواته، وبينت هشاشة المجتمع، واختلاف أجهزة الجيش والدولة. ويمكن تسجيل الملاحظة نفسها حين نقارن بين الجندي الصهيوني المدجج بالأسلحة الجديدة والمتطورة، والأدوات التي توظفها المقاومة لمواجهة الآلة الجهنمية العتيدة، والتي رغم بساطتها ألحقت الأضرار البالغة بالجيش ومعنوياته وقدراته. نستنتج من كل هذا الفرق الشاسع بين من له قضية وجود حقيقي وتاريخي، ومن يبني على الأساطير قضية وجود لم يصطنعها إلا الاستعمار القديم، والتي يدعمها، بكل الوسائل، الاستعمار الجديد والمتجدد مع أمريكا وحلفائها. رابعا: إن من يبني موقفه من المقاومة في غزة باسم الدين الذي يسمه بالإرهاب لا يلتفت إلى الإرهاب الديني الذي تمارسه الصهيونية بكل وقاحة وجرأة، وأقطابها يعلنون ذلك صراحة، وهم يدنسون الأماكن المقدسة للمسلمين والمسيحيين في فلسطين، ويتحدثون بصلافة ودجل عن إسرائيل الكبرى. فهل يمكن لمن لا يريد رؤية الصورة الحقيقية للصهيونية أن يظل مؤمنا بأن إسرائيل واحة الديمقراطية، وأن ما يدعون إليه من حوار ديني كفيل بنشر الأمن والسلام في الشرق الأوسط، وهم يسمعون ويرون بجلاء، ليل نهار، الإرهاب الحقيقي الذي تمارسه اليهودية المسيحية؟ وأخيرا، مرّ الآن أكثر من تسعة أشهر على الطوفان، وعدد الضحايا الفلسطينيين على عتبة الأربعين ألفا، وكلما ظهر الحديث عن الهدنة والصفقة ضاعفت إسرائيل من غاراتها واغتيالاتها بدعوى أنها تحقق بذلك الانتصار الوهمي الذي يجعلها تفرض شروطها، بينما العالم كله، إن صدقا أو كذبا، يطالب بإنهاء الحرب، ومن بينها المقاومة الفلسطينية. من يُردْ صفقة مع طرف بدون رؤية للسلام معه، يفكرْ في الإبادة لا في السلام. ومن يرفضْ حل الدولتين بدعوى «الدفاع عن النفس»، يعلنْ استمرار الحرب التي لا نهاية لها، وهو يسعى بكل ما يتاح له ب«الهجوم على النفس الأخرى» بهدف القضاء عليها نهائيا. ولعمري إنها الصفقة الخاسرة، و«طول الزمان يْوَرِّيكْ» يقول المثل المغربي، أي أنه يُري لمن لا يريد أن يَرى اليوم طوعا، ما سيراه، رغم أنفه، غدا. فإلى متى سيظل شعار: ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بها؟ وإلى متى سيظل شعار: سلام وأمن إسرائيل في إبادة القضية الفلسطينية؟ إن الجواب عن السؤال رهين بتحول ميزان القوى على الصعيد العالمي، وليس على ما يحلم به الإرهاب الصهيوني وداعموه.