ارتبط في اللغة العربية المنطق (الكلام) بالمنطق (طريقة التفكير). لذلك يُعتبر منطقك دالا على منطقك، ولا سيما حين يكون منطقك في لحظة الغضب والسخط إذ تنطق بما لا تنطق به في لحظات أخرى حين تستخدم لغتك وهي تخفي غير ما تعلن. هذا ما استنتجته من عبارتين نطق بهما كل من نتنياهو وبن غفير وهما في أضعف لحظات حياتهما المجنونة بالغرور والتجبر، عندما بدأت تتعالى الأصوات عالميا ضد ما أقدم عليه نتنياهو، وزبانيته، وهو يلوح باقتحام رفح بإصرار وعنجهية. لقد دخلت أمريكا على خط الإعلان عن معارضة هذا الاقتحام، وأعلنت عدم تسليم أسلحة وذخائر، وتوالت الضغوطات من كل جانب: تظاهرات أهالي المختطفين، مظاهرات طلابية عالمية، قرار محكمة العدل الدولية، اعتراف إسبانيا وإيرلندا وسلوفينيا بالدولة الفلسطينية. لقد أدى كل ذلك إلى خلق وضع إسرائيل في حرج شديد داخليا وخارجيا لأول مرة في تاريخها الاستيطاني. لكن الرعونة الصهيونية التي ورثتها من الهيمنة الاستعمارية، والغطرسة الأمريكية تبدت بجلاء من خلال منطق بن غفير ونتنياهو. أكد الأول أن بإمكان العالم كله أن «يقول» ما يحلو له، لكن إسرائيل «لا تفعل» إلا ما تريد. نستنتج من هذا الخطاب أن إسرائيل فوق الجميع، وفوق القانون الدولي، وأن بإمكانها «مخالفة» صنيعتها أمريكا، ولا يهمها ما يقال عنها عالميا. وأنها مصرة على تحقيق أسطورتها القومية المتمثلة في إبادة القضية الفلسطينية عبر التدمير، والتقتيل، والتهجير، والتجويع. وليذهب العالم إلى الجحيم! أما الخطاب الثاني فجاء بخصوص الموقف الإسباني الذي يقول موضحا دعوته إلى حل الدولتين لكونه منسجما مع القرارات الأممية. عقَّب نتنياهو على ذلك بقوله بأن إسبانيا تدعم الإرهاب، وأن القول بحل الدولتين دعوة إلى إبادة إسرائيل لأنها لا يمكن أن تستمر في الوجود إلا بإبادة فلسطين. هذان المنطقان يدلان دلالة قوية على المتخيل الصهيوني، وعلى التصور الوجودي للكيان الإسرائيلي. إن الإيمان بإبادة فلسطين شرط أساسي لإقامة إسرائيل. ولا دلالة لوجود فلسطين لأنها لا تعني غير إبادة إسرائيل. هذا هو المنطق المتحكم في اللاوعي الصهيوني والذي عبر عنه بن غفير ونتنياهو بصريح العبارة، وبلا مواربة. وهو المنطق نفسه الذي يجمع الصهاينة دولة وحكومة ومستوطنين يسلحهم بن غفير ليقوموا في الضفة بما يقوم به الجيش والمخابرات في غزة. لكن هذا المنطق يقدم أحيانا بمنطق مخاتل، ومخادع، وأحيانا أخرى بمنطق صارخ مثلما تردد، بصيغ متعددة، في بداية طوفان الأقصى، عن محو غزة من الخريطة، والقضاء على المقاومة، وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء. وكان منطق رد الفعل الصهيوني على السابع من أكتوبر بمثابة إعلان ل«نكبة جديدة» للفلسطينيين، أي أنه تذكير ب«إبادة» فلسطين، و«تأسيس» إسرائيل. لقد ظل هذا المنطق هو السائد منذ بداية التفكير في خلق دولة يهودية في فلسطين، فكانت النكبة والنكسة. ولم تكن معاهدة السلام، سوى لعبة كانوا يديرونها باقتدار، لكونهم يدركون أن مصير القضية بأيديهم، وأن التحلل منها وارد في أي وقت مستغلين في ذلك إكراهات كثيرة لصالحهم من بينها: الخلافات الفلسطينية والعربية، من جهة، والدعم اللامشروط لهم عالميا، من جهة أخرى، والدور الذي تقوم به إسرائيل في الشرق الأوسط، خدمة للإمبريالية، من جهة ثالثة. تم اقتحام رفح، رغم الاعتراضات والاحتجاجات الداخلية والخارجية. وما قامت به إسرائيل في غزة والضفة الغربية قامت به في رفح، وصار معدل القتلى يوميا يعد بالعشرات، وبات الحديث عن الإبادة الجماعية مطروحا بشدة. وبدأ يتأكد للجميع، مؤسسات دولية وحركات شعبية، أن منطق الإبادة هو المسيطر. واعتبر الرئيس الأمريكي أن ما تقوم به إسرائيل في غزة التي عادت إليها، وما تقوم به في رفح لا يصل إلى حد اعتباره إبادة جماعية، وهو الذي يتحدث ناصحا إسرائيل بعدم «المغالاة» في التقتيل. ما كان لهذا المنطق الصهيوني أن يتمادى في ممارسة الإبادة لولا الدعم الأمريكي المطلق واللامشروط. لقد ظلت أمريكا تعارض كل القرارات الدولية ضد إسرائيل. وعندما أتابع بعض التحليلات العربية والأجنبية وهي تتحدث عن «خلافات» أمريكية إسرائيلية أتعجب من قصور التحليلات، ووقوفها على ما يُعبَّر عنه في أمريكا وإسرائيل من تناوب القذف ب«تصريحات» توهم بأن هناك خلافات. إن الوقوف على ما في تلك التصريحات من «مباشرة» يخفي ما هو «مُضمَّن» في كل الخطابات التي تقدم للاستهلاك الخارجي. إن بايدن، وهو يعلن منطقه من اقتحام رفح، يقصد، ضمنيا، أن على إسرائيل أن «تفعل» نقيض ما «يقوله»، شريطة ألا يكون لأفعالها ما يورطها عالميا، أو يجعلها تبدو وكأنها هي الجلاد، ورفح ضحية. هذا هو المقصود الحقيقي. وهو فيما يبديه من خلاف مع نتنياهو والمتطرفين، يخاطب الرأي الأمريكي، وخاصة الطلاب والشباب، الذين بدأت رؤيتهم تتغير ضد إسرائيل. أما دعمه لإسرائيل بتقديم السلاح والذخائر فيخاطب به اللوبي الصهيوني في أمريكا. ونفس المنطق نجده في خطاب بن غفير ونتنياهو. فإعلان «مخالفتهما» لبايدن يتوجهون به إلى المستوطنين، وهما يعنيان بذلك أن إسرائيل شبت على الطوق، وأنها مستقلة في قراراتها وأفعالها عن أمريكا، بادعاء أن أمريكا لا تزودهم بما يحتاجون إليه لتحقيق الأهداف المعلنة مباشرة بعد طوفان الأقصى. إنهما يدركان جيدا أنه لولا الدعم الأمريكي الذي يستجديانه لتعرضت فعلا للإبادة الذاتية. «زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا»، وزعم عرب الممانعة في الخمسينيات والستينيات أنهم سيقذفون بإسرائيل إلى البحر، وأبشِرت إسرائيل بطول سلامتها، واستمرارها أبد الدهر، فتوسعت جغرافيا، وسادت سياسيا، وتفوقت عسكريا، وضمنت إنهاء القضية الفلسطينية بالتفرقة بين الضفة والقطاع، ولم يبق لها سوى التطبيع مع الدول العربية لاكتمال بشرى أزليتها، فجاء طوفان الأقصى ليعلن أن مزاعم إسرائيل بإبادة القضية الفلسطينية لا تختلف عما زعمه الفرزدق، وأن «مربع» المقاومة مستمر ومتواصل أبدا، وبقوة غير مشهودة. ولذلك كانت تصريحات الإبادة، والنكبة، تعني في الواقع ليس الطرف الفلسطيني، ولكن المنطق الصهيوني. لقد بدأ يستشعر الإحساس بالإبادة، والنكبة النقيض. لقد أبرزت المقاومة ب«أفعالها»، وهي تتصدى لترسانة الأسلحة الرقمية الأمريكية والجيش الصهيوني، وكل المرتزقة، أن كل ما تكرس في تاريخ إسرائيل إلى غاية السابع من أكتوبر، مؤهل للتغير، ولفرض معادلة جديدة لا تقبل المساومة عن ضرورة الدولة الفلسطينية. وفي هذا درس كبير لكل من تآمر على القضية، أو أدان من يدافع ويناضل، ويقدم التضحيات الجسيمة، من أجل قضية عادلة. إن الإبادة الجماعية، وكل أنواع الممارسات الوحشية التي قامت بها الصهيونية ضد البلاد والعباد جعلت إسرائيل تكشف عن منطقها الإبادي، من جهة. وجعلها تنكشف أمام الأجيال الجديدة من مواطني العالم التي لم تسمع قط ب«فلسطين»، وأمام بعض الإسرائيليين الذين استيقظوا من كابوس اسمه الصهيونية، من جهة ثانية. ولقد أدى ذلك ثالثا إلى بروز خلافات جذرية داخل المجتمع الإسرائيلي بين معتدل، وداع إلى الإبادة. لقد عانى سكان الشمال وغلاف غزة من التهجير، ولعلهم أحسوا ببعض معاناة الشعب الفلسطيني طيلة أكثر من سبعة عقود، وما هجرة بعضهم بدون التفكير في العودة سوى مشاركة الإحساس نفسه. أمام إسرائيل منطقان: الإبادة أو السلام. أما الإبادة فلن تكون إلا عليها. وأما السلام فللشعبين معا.