يُختزل الإسلام عند بعض «التنويريين» من المثقفين والباحثين العرب في بُعد واحد هو الدين، بهدف ادعاء مناقضته للعلم، أو اختلافه عن العقل لأنه مجرد أساطير وخرافات. وبهذا الاختزال يكون التصدي له بالهجوم وإعلان النفير ضده على اعتبار أنه موئل الإرهاب، وسبب غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي. كما أنه يختزل أحيانا أخرى في التراث ليوضع كمقابل للحداثة، وبذلك يتهم بأنه ضد التقدم وسبب التأخر. لا جرم أن هذا الاختزال مقصود لإثبات عدم صلاحيته، وتأكيد التنحي عنه سبيلا للانتقال إلى ال«مدنية» الغربية الحديثة. إن وضع الإسلام مقابل العلم مردود لأن المقارنة بينهما غير سليمة. فالأسئلة التي يطرحها العلم لا علاقة لها بالغيب. ولذلك فأجوبته عن تفسير بعض الظواهر الطبيعية تظل نسبية وإلا تحولت إلى معتقدات. وتحويل العلم إلى معتقد لنؤمن به لا يجعله نقيضا للتفسيرات الدينية فقط، ولكن إلى «دين» آخر. كما أن ادعاء الأسطوري والخرافي في الدين بهدف تأكيد مناقضته للعقل لا يقف عند حد إلغاء كل ما يختلف عنه من أحاسيس ومدركات، ولكنه أيضا نفي للجسد، وحاجات الإنسان الضرورية للإجابة عن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالوجود البشري، وعلاقات بعضه ببعض، وبمحيطه الطبيعي. ويفرض علينا تجاوز هذا الاختزال، ووضع الأمور في محلها تحديد الأبعاد الحقيقية التي تتجاوزه، والتي نقدمها من خلال طرح السؤال غير المطروح لدى هؤلاء، وهو: ما هو الإسلام؟ لا نطرح عادة هذا السؤال الهام لسببين اثنين: إما للاختزال «المثقفي» المشار إليه، أو لأن ما تشكل لدينا، من خلال معرفتنا الأولية به، منذ طفولتنا، يمنعنا من طرحه. إن المسلم العادي يتعامل مع الإسلام وفق تصوره الذي تربى عليه: الإيمان بما جاء به، وممارسة بعض العبادات. وبذلك فله اعتقاد راسخ به، مهما كانت درجة معرفته، أو إيمانه، أو تقيده بما جاء به من شرائع وأوامر ومنهيات. ويعفيه هذا من طرح السؤال. لكن الأمر يطرح على المثقف والباحث، عربيا كان او أجنبيا، لأنه يختزل الإسلام في بعد واحد: دين الجهاد أو الإرهاب. إن الجوابين معا، رغم الاختلاف بينهما لا يأبهان بالسؤال عما هو الإسلام لأن كلا منهما يجيب عنه بطريقته الخاصة. إن محاولة الجواب عن: ما هو الإسلام؟ يفرض علينا النظر إليه من خلال أربعة أبعاد، كما أتصور، هي على النحو التالي: الدين، باعتباره رؤية للعالم، أولا، والذي نجده كامنا في الخطاب القرآني، والحديث النبوي. وثانيا في التاريخ الإسلامي لأن الإسلام فرض تاريخا وجغرافيا خاصة منذ نشأته إلى الآن، وما بعد الآن. كما أنه ثالثا حضارة لأنه خلق إبدالا جديدا في تاريخ الأفكار والعلوم، عرف تيارات ومذاهب لا حصر لها بالقياس إلى غيره مما تشكل عبر الزمن. وهو أخيرا واقع يعيشه الناس، أي المسلمون اليوم. يتطلب كل بعد من هذه الأبعاد الأربعة اختصاصا علميا خاصا ليجيب عما هو الإسلام بدون اختزال أو اجتزاء. وبدون ذلك لا يمكننا إلا معاينة الرجم بالغيب، بجلاء، لدى من يدعون أنهم باحثون ومفكرون، أو ممارسة التدين البسيط كما يعتقده المسلم العادي. إن من يختزل الإسلام في الإرهاب ينطلق من الواقع الإسلامي الحالي الذي هو امتداد لما طرأ منذ تدخل الاستعمار الذي بسط سلطته على أراضي المسلمين، والذي أدى إلى معارضته بشتى السبل، ومن بينها رد الفعل المتطرف، حاليا، والذي يرى استحالة مواجهة الاستعمار القديم والجديد إلا بالعنف الذي هو مقابل للعنف الصلب الذي مارسه الاستعمار القديم، أو الناعم الذي يمارس إلى اليوم عن طريق فرض سياساته على المسلمين. كما أن من مطبات هذا الاختزال ربط الإسلام بالتاريخ الذي يختصر في أنه غزو واحتلال ولا سيما ممن يرون أن لهم تاريخا، وحضارة، وأنه غير عاداتهم «الدينية» ما قبل الإسلامية، أو يقرؤونه بالتركيز على جوانبه السلبية، أو تشويه صور من قام فيه بأعمال جليلة ساهمت في تكريسه وتوسيع دائرة وجوده. كما أن من يشكك في النص القرآني والحديثي بدعوى أنه ليس أصيلا، وأنه ملفق من أصول سابقة عليه، وما شابه هذا ليس سوى تعبير عن مواقف خارجية، ولا تنطلق من قراءة النص في ذاته، بلا تأولات بعيدة، وغير موضوعية لتحقيق المقاصد الخاصة. إن المواقف الحالية من الإسلام سواء لدى من يدعون العلمانية أو الديموقراطية تتدخل فيها المصالح الاقتصادية التي توظف الإيديولوجيا ضد الإسلام لتحقيق مطامحها. إنها وإن ادعت أنها تؤمن بحرية التفكير، والدعوة إلى التجديد الديني، أو عدم الإيمان بالمطلقات تظل بعيدة كل البعد عن التفكير العلمي، والمنهجي في مقاربة الإسلام في مختلف أبعاده لأن ذلك يتطلب وعيا نقديا، وفكرا إبستيمولوجيا يميز بين تحليل الخطاب الإسلامي في ذاته، باعتباره نصا، والتاريخ الإسلامي بصفته وقائع وأحداثا يقع فيها ما يقع في تواريخ كل الأمم من فظائع أو إنجازات. ويمكن قول الشيء نفسه عن الحضارة الإسلامية التي لا يمكن إلا وضعها في نسقية تاريخ الأفكار في تاريخ البشرية. أما واقع المسلمين في حياتهم اليومية فلا يصح اتخاذه ذريعة لإعلان دوره في التخلف أو الجهل لدى المسلمين. فالنص القرآني يميز بين المسلم والمؤمن، ويقدم صورة واضحة عن المؤمن الحقيقي. لذلك نرى أن من المجازفة ربط الإسلام بواقع المسلمين لإدانته، أو بتاريخ متسلطين من الحكام الذين اعتقلوا وقتلوا حتى الفقهاء والعلماء، وغيرهم. أو مقارنته بالكنيسة في القرون الوسطى، وموقف الأنوار منها، أو الانطلاق من الفكر الاستعماري والاستيطاني من الحركات الوطنية الإسلامية، أو من أي مقاومة أو معارضة حتى ولو كانت يسارية أو علمانية، تناضل من أجل التحرر من التبعية للأجنبي الذي يسمه بأنه «إرهاب». وفي السياق نفسه فإن جعل الإسلام موقوفا على الحركات المتطرفة، التي ساهمت أمريكا في خلقها ودعمها لمحاربة الفكر الاشتراكي، أو التي لا تؤمن إلا بالعنف الذي تمارسه ضد المسلمين أيضا... كل ذلك ليس سوى أباطيل وأضاليل. إن المناوئين للإسلام، وهم يختزلونه في بُعد واحد، مهما كانت منطلقاتهم تظل تعبيرا عن مواقف إيديولوجية صارخة. وهذه المنطلقات ليست وليدة بحث فكري أو تأمل نظري، ولكنها استنساخ مشوه لما يُشِيعه إيديولوجيو الغرب الذين يعملون من أجل خدمة مصالح بلدانهم. وما تكرارهم للمصطلحات أو المفاهيم التي يتبجحون بها مثل العقلانية والعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي تحولت معهم إلى معتقدات يقينية لا مجال فيها للتبدل مع الزمن رغم مرور ثلاثة قرون على ظهورها. تعلمنا الإبستيمولوجيا أن الفكر والمفاهيم متبدلة وليست أزلية لأنها نتاج تفاعل الإنسان مع محيطه في سياقات خاصة، وإلا تحولت إلى مطلقات. إن وضعية القرن التاسع عشر، عصر تصنيف العلوم، وضبطها، انتهت إلى أنها آخر مرحلة بالنظر إلى سابقاتها في التاريخ. ولقد كانت في زمانها متصلة بعلوم قيد النشأة والتشكل. لكن الزمن لم يتوقف. لقد ظهرت علوم جديدة، وإبدالات مختلفة. وكان طبيعيا أن تتغير نظرة الإنسان إلى العالم سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا. إن المرحلة الرقمية غيرت كل شيء، ومن بينها كل المفاهيم والتصورات والرؤيات السابقة. ولذلك فاجترار الأفكار القديمة، رغم ادعاء التجديد، يعطل الأسئلة التي تدعو إلى الاستكشاف، ويوقف التفكير على حدود الشعارات، والأفكار المسبقة.