إن ثنائية ( الدين والعقل أو العقل / القلب)، لم تكن مطروحة لدى سلف هذه الأمة خاصة على عهد الخلافة الراشدة، كغيرها من الثنائيات الدخيلة على ثقافتنا الإسلامية الأصيلة، مثل (العقل / النقل – الحكمة/ الشريعة- الأصالة / المعاصرة...)، إذ ليس بالإمكان العثور على مساحة فاصلة سواء في خطاباتهم أو أفعالهم بين العقل والقلب، نظرا لأن ثقافتهم كانت مستمدة ومتأصلة فقط من المصدر الأول القرآن الكريم، الذي كان خطابه يشكل عقولهم، ويبلور تصوراتهم، ويرشد ويهدي منهجهم، من ثم كانت مفاهيمهم تمتلك قوة ووضوح القرآن ذاته. "ومن أهم ما وهبه الإسلام للمسلم المعاصر هو تكامل معرفته بتوثيق الوحي وحفظه، وتحرير العقل وإطلاق عقاله لكي يمارس دوره البناء في مجال العلم والإصلاح والإعمار، وكانت منهجية العقل المسلم على عهد الصدر الأول منهجية تلقائية متكاملة تستند إلى حكمة توجيه الوحي وسلامة اجتهاد العقل وإدراك ووعي تلقائي ذكي لأحوال الفطرة في النفوس، والكائنات، فكان عهد النبوة والخلافة الراشدة شاهدا وقدوة هادية منقذة متلألئة في زوايا روح الإنسان ومسيرة الأجيال"[1] لم يكن لدى المسلمين الأوائل دافع وهاجس أو أي مبرر للبحث في سلطان العقل والوحي، ومن هو الأولى بالتقديم؟ وهل الوحي يلغي العقل أم العقل يلغي الوحي؟ لأن موجة هذه الأسئلة لم تطرح إلا بعد أن ابتعدت الأمة عن الخطاب القرآني، وتأثرت بنات أفكارها بالفكر اليوناني قديما والفكر المادي المعاصر حديثا. فهم يدركون أن القرآن الكريم يخاطب الإنسان بكل مكوناته ورغباته وعواطفه ونزعاته العقلية والروحية، لذا كان الواحد منهم يسخر كل طاقاته العقلية والوجدانية للوصول والتمكن من المعرفة الكونية القرآنية، كما أنهم لا يخلطون بين مجالات العقل وميادين الوحي، فالعقل عندهم يمارس وظيفة الاستكشاف في آيات الأنفس والآفاق والاستقراء والاستنباط في عالم الشهادة (الحياة) أما عالم الغيب فتحكمه عقائد ثابتة تستقر في القلوب، وتؤثر في عمل الجوارح، فتصير الأفكار والتصورات تسير جنبا إلى جنب مع الأفعال والممارسات، وهذا هو الذي أنتج الشخصية الإسلامية التي لا تفرق بين القول والعمل ولا تفصل بين الفكر والممارسة، لأن الخطاب القرآني ربى أتباعه بقوله: "يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"، وبهذا فالرؤية الإسلامية لا تفرق بين التصور والفعل في الواقع. إن سلف هذه الأمة لم يكونوا يخلطون بين عالم الشهادة وعالم الغيب، بل كانوا يعلمون أن وسائل الإدراك التي منحها الله تعالى للإنسان قد تسعفه في عالم الشهادة، فهو مأمور شرعا باستعمالها لتدليل وتسخير الكون له، وهذه الوسائل قد لا تسعفه لوحدها لإدراك عالم الغيب بل قد تستدعي المرشد والهادي الذي لن يكون إلا الوحي الإلهي. إذ الوسائل المتاحة للتدبر في عالم الغيب ليست هي الوسائل المستعملة في عالم الشهادة. فالأمور المتعلقة بالجانب الغيبي كالجنة والنار والبعث والجزاء أمور لا تدرك بالعقل وحده، إنما تدرك بالوحي ولا سبيل للوصول إليها إلا بهدي من الوحي الصحيح، أما عالم الشهادة فقد جعل الله العقل ليكتشف العلاقات الكونية والسنن الإلهية ويركب ويجمع حتى تحصل المعرفة العقلية وتتكامل الرؤية المعرفية بين الوحي ومسلماته وإبداع العقل واستنتاجاته. " كانت هداية الوحي وتوجهاته الكلية وغايات الإسلام ومقاصده وتشريعاته مع العقل المهتدي الفاحص الجوال والقلب المطمئن بالإيمان، كان ذلك كله يشكل فريق عمل متكامل (....) فالطبيعة والحواس والنفس والعقل والوحي الهادي كلها تعمل معا لإحداث المعرفة وتحويلها إلى القلب لبناء الإيمان"[2]. فأود أن أسجل بأن من يعتبر "الدين" شيء و"العقل" شيء آخر هو من المغالطات والأباطيل التي يستعملها بعض الناس لترويج الانحرافات الفكرية، والأحكام الجائرة، وإلصاقها بالخطاب الإسلامي (القرآني)، فإذا كان لمثل هذه الأقاويل والثنائيات مبررا لكي تنمو وتترعرع في الحضارة الغربية باعتبارها بيئة ملائمة لفساد العقيدة وسيطرة رجال الكنيسة، على المجال الديني والدنيوي، ودخول الكنيسة في صراع مرير مع العقل الأوربي الذي أخذ يتلمس طريق الانعتاق والحرية من سيطرة الكنيسة، فلا يمكن فهم هذا التعارض المزعوم بين العقل والدين، إلا في هذا الإطار، لأن إفراد الدين بطبيعة خاصة وإفراد العقل بطبيعة خاصة، لا يعني بالضرورة أنهما متعارضان وإنما لكل واحد منهما وظائف خاصة به، لكن تاريخ أوربا الحافل بالصراع بين العقل ورجال الكنيسة، وتغلغله في الفكر الأوربي أبرز هده الثنائية. أما البيئة الإسلامية فتلفظ نبتات السوء هذه، إذ لم يسجل التاريخ البشري أن العقيدة الإسلامية حجرت على العقل أو قيدت حيويته، فالإسلام لم يكن في يوم من الأيام في حاجة إلى إقامة مؤسسة دينية أو تنصيب رجال دين أو احتكار تفسير النصوص الدينية، أو جعل واسطة بين الله والعبد، بل حارب كل سلطة مادية كانت أو معنوية تدعي أنها تقرب إلى الله زلفى، بل العكس هو الحاصل، إذ الخطاب القرآني يدعو العقل المسلم إلى البحث والتعليل وإقامة الدليل والنظر في الأنفس والآفاق، بل حتى في الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر لابد للمسلم من العلم والدليل، قال تعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا الله". وقد رأينا كيف أن الإسلام أكثر من أي دين آخر حارب الوثنية وحارب التقليد والخرافة ومذهب الآباء والأجداد. " فالدين الإسلامي دين لا يعرف الكهانة ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قربانا يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي متسلط أو صاحب قداسة مطاعة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل ويقضي بالحرمان أو بالنجاة، فليس في هذا إذن من أمر يتجه إلى الإنسان من طريق الكهان ولن يتجه الخطاب إذن إلا إلى عقل الإنسان حرا طليقا من سلطان الهياكل والمحاريب أو سلطان كهانها المعلمين فيها بأمر الإله المعبود، فيما يدين أصحاب العبادات الأخرى"[3] وبهذا لا يكون مفهوم الدين كما يشيع في أذهان كثير من المعاصرين أنه علاقة مبهمة وغامضة بقوى غيبية تحدد لصاحبها ومعتقدها طريقا ومسلكا لا يضبطه منطق ولا يتحكم فيه عقل بل هو مبني على مجرد التصديق القلبي والإيمان الخيالي الذي لا يستند إلى دليل عقلي برهاني. فهو مجرد تقليد وإتباع الآباء والأجداد، " أنحى الإسلام على التقليد وحمل عليه حملة لم يردها عنه القدر، فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس واقتلعت أصوله الراسخة في المدارك ونسفت ما كان له من دعائم وأركان وعقائد الأمم، صاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته وهبت به من نومه طال عليه الغيب فيها كلما نفذ شعاع من نور الحق خلصت إليه هيمنة من سدنة هياكل الوهم".[4] وإذا عدنا إلى القرآن الكريم سنجد الأمثلة الساطعة لرد هذه الشبهة وهذا الزيغ والشطط في الأحكام، فمثلا الشباب الذين فروا إلى الكهف بدينهم الجديد كانوا يستجيبون لنداء العقل والمنطق، ولم ينحازوا إلى ما اطمأنت إليه نفوسهم وأفئدتهم فحسب، بل طلبوا من قومهم أدلة واضحة وبراهين ساطعة على ما هم عليه من شرك وضلال وعلى ما يدعونهم إليه، وبالتالي فهم كانوا في مستوى متين من استعمال العقل وطرح السؤال والبحث عن الدين الحق، والقرآن الكريم سطر لأمة الإسلام هذا المثال- الذي قدمه هؤلاء الشباب ليكونوا قدوة ونبراسا، قال تعالى: "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا"[5.] إنما كان من أمر هؤلاء الفتية أن عرضوا دين أجدادهم وآبائهم على منطق العقل فوجدوه خرافة فرفضوا الأخذ به وولوا وجوههم صوب دين الفطرة والعقل فحوربوا من أجله. إن الخطاب القرآني يربي في الإنسان المسلم ملكة الاكتشاف، وطرح السؤال وتقليب الأمور قبل الإيمان بها. "لقد قام عهد الرسالة على الإيمان المبني على الاقتناع والشورى واحترام العقل وقد خاطبت الرسالة العقل والضمير والوجدان، وسلكت طريق الاقتناع العلمي وحاربت طريق الجهل والمتابعة العمياء، إنه خطاب سأل الأصحاب عنه وجادل الأصحاب فيه، واعترض الأصحاب عليه، وآمن الأصحاب به، وآمنوا إيمان فهم وسلموا تسليم اقتناع لا إيمان خوف ولا استسلام رعب وفزع، فكانوا هداة عاملين ومجاهدين أقوياء، فكان احترام عقل الإنسان واحترام اقتناع ضميره كما الصخرة المكينة التي بني عليها عصر الرسالة، وكان تحرير الإنسان وتحرير ضميره غاية الإسلام وغاية فتوحات الإسلام"[6] الإحالات: [1] - أزمة العقل المسلم/ د عبد الحميد أبو سليمان ص 102 [2] - نحو منهجيته معرفية قرآنية/د طه جابر العلواني/ ص 46/47 [3] - التفكير فريضة إسلامية /د عباس محمود العقاد / ص 18. [4] - كتاب رسالة التوحيد/ الإمام محمد عبده/ ص132 [5] - سورة الكهف آية 13/15 [6]- أزمة الإرادة والوجدان المسلم/ د عبد الحميد أبو سليمان/ ص177 * أستاذ باحث