للمرة الثانية تمثل إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بعد فتوى هذه المحكمة عام 2004 المؤكدة لعدم شرعية جدار الفصل العنصري الذي أقامته حول الضفة الغربيةالمحتلة والقدس، وهي الفتوى التي تجاهلتها إسرائيل. فهل سيتكرر نفس المصير بشأن الطلب الذي رفعته جنوب إفريقيا ضد إسرائيل نهاية 2023 إلى هذه المحكمة، بتهمة "ارتكاب جريمة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة". جرت المداولات الأولية يومي (11 12 يناير 2024) بموافقة إسرائيلية. جاءت هذا التحرك القضائي بهدف إصدار فتوى استعجالية من محكمة العدل الدولية، لحث إسرائيل على وقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانية لغزة، أما دعوى التحقيق في ملابسات ارتكاب إسرائيل "جرائم إبادة ضد الفلسطينيين"، فهذا أمر يتطلب سنوات من الإجراءات والتحقيقات والشهادات والوثائق وغيرها من المرافعات والدفوعات القانونية بين طرفي النزاع. تم الدفع بإسرائيل إلى القضاء الدولي بعد فشل كل الجهود الدولية الباردة لوقف الحرب على غزة، واستمرار انتهاكاتها الصارخة بحق الفلسطينيين دون رادع. فما كان من سبيل آخر للتدخل سوى الخيار الثالث المتمثل بمحكمة العدل الدولية، كسلطة اعتبارية باسم العدالة الدولية. وخيرا أن الطلب جاء من دولة إفريقية لا عربية أو إسلامية، حتى لا تسعى إسرائيل لتحويل أنظار المحاكمة إلى قضية صراع ديني بين اليهودية والإسلام لصرف النظر عن جوهر الصراع. تابع العالم عبر وسائل الإعلام مجريات يومين من مرافعات الادعاء الجنوب إفريقي الذي أعد ملفا في غاية الدقة والحرفية والذكاء بعيد عن اللغط اللفظي والاتهامات الفضفاضة التي كان يحبذها الجانب الإسرائيلي، الذي لم يأت دفاعه بجديد، سوى التركيز على خطاب الاستعلاء والغطرسة والتظاهر بالتفوق والثقة، وإعادة خطاب الاشمئزاز المعتمد على لِاَزِمَة المحرقة، معاداة السامية، الدفاع عن النفس، مكافحة الإرهاب…. أسئلة عديدة تحاصرنا بعد جولة أولى لجلسات المحكمة، عن ماهية الدلالات التي يمكن استخلاصها، والانتظارات من قضية متعددة الأبعاد قضائيا وسياسيا ودبلوماسيا، وما سترافقه من مناورات وضغوطات من جانب المدعى عليه للإفلات من العقاب، وأيضا من جانب المدافعين عن عالمية حقوق الإنسان واعتماد مبادئ أكثر إنصافا وعدلا وحرية تضامنا مع الفلسطينيين، والشعوب المستضعفة بوجه عام. أولا الدلالات: سيظل 11 يناير 2024، يوماً مشهودا في تاريخ الشعب الفلسطيني كرمز للتضامن والتعاطف الإنساني العالمي والانتصار لقضيته العادلة، ويوما أسودا لإسرائيل كمتهمة بارتكاب جرائم إبادة فظيعة؛ أجمعت آراء الخبراء الدوليين على أن دعوى جنوب أفريقيا تتمتع بالمصداقية، لأن إسرائيل ارتكبت أمام انظار العالم ولا زالت أفعال إبادة جماعية في قطاع غزة، يدينها القانون الدولي؛ جندت إسرائيل عدة مؤسسات وهيئات حكومية سامية وشخصيات وخبراء للمشاركة في إعداد ملف قادر على التعامل مع معطيات وصعوبات دعوى الاتهام، وحرص الدفاع الإسرائيلي على أن تتركز لائحة الاتهام ذات الطبيعة الجنائية على الدولة دون أن تطال الآثار الجنائية المسؤولين بالحكومة والجيش ودوائر تنفيذية أخرى لها علاقة بالحرب على غزة؛ مثول إسرائيل أمام العدالة الدولية، يشكل ضربة موجعة لحكومتها وسياساتها لاسيما بعد 80 سنة من استهلاك واستغلال يافطة المحرقة النازية لليهود كسبا لتعاطف العالم، فها هي اليوم بقفص الاتهام الدولي عن مسؤوليتها على المحرقة الفلسطينية بغزة، قد تشكل بوابة لتحتل المحرقة الفلسطينية مكانة دولية متميزة دوليا؛ جاءت المحاكمة لتثقل كاهل إسرائيل وهي تعيش أسوأ أوضاعها الداخلية وتواجه تحديات متزايدة، بسبب تعاظم الخلافات بين الساسة، وبين هؤلاء ووزراء في الحكومة وبين قادة الجيش، بسبب صعوبة ظروف الحرب وكلفتها البشرية والمالية والاقتصادية وتأثيرها على سمعة إسرائيل الدولية بشكل غير مسبوق، فضلا عن تبادل الاتهامات بشأن نكبة السابع من أكتوبر؛ أيد النائب عن الحزب الشيوعي داخل الكنيسيت الإسرائيلي " أوفر كاسيف" إقدام دولة جنوب إفريقيا على محاكمة إسرائيل، موضحا أن موقفه هذا ليس نابعا من كونه ضد إسرائيل بل مع إسرائيل، ولكنه ضد الحكومة الإسرائيلية التي هي من ضد إسرائيل، مؤيدا حق الشعب الفلسطيني في العيش بسلام في وطنه؛ خفت وطأة الدعاية الإسرائيلية حول اللاسامية ومعاداة اليهود، لاسيما بالدول الغربية، بعد مشاهد الجرائم المروعة لقوات الاحتلال بغزة، تكسرت معها تلك الصورة النمطية السائدة، وجاءت الحرب على غزة والمحاكمة الدولية، لتعيد النظر في كل تلك الكليشيهات لتظهر إسرائيل بوجهها الحقيقي العدواني؛ غَيّر الرأي العام العالمي نظرته من إدانة حركة حماس، إثر حدث 7 أكتوبر وتجريم الفلسطينيين، إلى إدانة إسرائيل كمتهم رئيسي بالإبادة الجماعية، كما وجهت انتقادات للحكومات الغربية وفي مقدمتها الإدارة الأمريكية لوقوفها ودعمها لجرائم جيش الاحتلال. ثانيا الانتظارات: تكاد تجمع آراء أساتذة القانون الدولي على أن إقدام محكمة العدل الدولية على إصدار حكم يَحظُر فيه على إسرائيل القيام بأعمال عسكرية والسماح بإدخال كميات وافرة من المساعدات الإنسانية لسكان غزة، قد يصدر خلال أسابيع ومن المتوقع أن يكون إلزامياً، لكن هذا لا يعني أن إسرائيل ستلتزم به كعادتها، فالمحكمة الدولية لا تملك الوسائل اللازمة لتنفيذ أحكامها بالقوة؛ من غير المنتظر أن يتدخل مجلس الأمن الدولي في النازلة لتفعيل قرار محكمة العدل الدولية، فهذا المجلس تعطل دوره منذ سنوات وحرب الفيتو مشتعلة بين القوى الكبرى المستحكمة في قراراته لاسيما الولاياتالمتحدةالامريكيةوروسيا؛ قد يتحول الحكم الأولي الاستعجالي للمحكمة ضد إسرائيل إلى قضية رأي عام دولي وإلى قناعة لدى عدد من دول العالم بما فيها الأوربية بوجاهة رأي المحكمة، لممارسة ضغوط متزايدة على إسرائيل بوقف الحرب، في انتظار ما ستؤول إليه جوهر القضية خلال السنوات القادمة. لكن القضية الفلسطينية ستكون بذلك قد حققت نصرا قضائيا دوليا جديدا على إسرائيل يضاف إلى حكم 2004 بشأن الجدار العازل؛ ستضع قضية الحرب على غزة بفظائعها، المحكمة أمام مسؤولياتها الجسيمة في التصدي لهذه الأشكال من الأعمال الإجرامية لإسرائيل، وسيكون لطبيعة الحكم الذي ستتبناه المحكمة أثرا بالغا على سمعتها ومصداقيتها أمام المنتظم الدولي، كما سيكون القانون الدولي الإنساني بدوره أمام اختبار/تحدي وهو يتعامل مع دولة طالما رفضت وتمردت على القرارات الأممية والقوانين الدولية المتعلقة بتسوية النزاعات، وبات القضاء الدولي مطالبا بالتدخل لإنصاف الشعب الفلسطيني وحمايته من الانتهاكات المتكررة للاحتلال؛ ما تخشاه إسرائيل حقيقة أن تُقْدِم المحكمة، في إطار الإجراءات المؤقتة، على إصدار قرار يدعو إسرائيل إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، مما يضع قادة إسرائيل أمام مسؤولياتهم قد تدفعهم للامتثال لأوامر المحكمة، ويربك كل حساباتهم العسكرية. علما بأن دفاع جنوب أفريقيا أكد مطالبته بتطبيق مثل هذه الإجراءات بشكل استعجالي لضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية؛ جاءت حرب الدمار الشامل الإسرائيلية على غزة، لتدق ناقوس الخطر على واقع الاستبداد والاعتداءات والتدخلات العسكرية الذي باتت تمارسه عدد من الدول ضد الشعوب المستضعفة دون أية مساءلة أو ردع أو عقوبات دولية التي تطال عادة المعتدى عليه ويتملص منها المعتدي (حالة العراق وأمريكا)، فقد آن الأوان كي يلتفت المجتمع الدولي لتصبح جل دول العالم تخضع لسلطة المحكمتين العدل الدولية والجنائية الدولية، كسلطة عدالة دولية فوق الجميع، دولا ومسؤولين، خارج سياق الإجراءات الاختيارية للدول وتحفظات الإفلات من العقاب، وفي مقدمتها النزاع الفلسطيني الإسرائيلي المتكرر المواجهات؛ في حال صدور حكم ضد إسرائيل، فإن المسؤولية تقع أيضا على كاهل الدول طبقا للمادة الأولى من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التي تنص على " واجب الدول الأطراف في منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" أي شرط التزام الدول بمنع وعدم تزكية مرتكبيها ودعمهم تحت أي ذريعة؛ تذهب تحليلات بعض خبراء القانون الدولي إلى احتمال إدانة الإدارة الأمريكية بحكم ما تنص عليه الفقرة (ه) من المادة الثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية التي تُجرِّم التواطؤ، في حال إذا ما قررت محكمة العدل الدولية إدانة إسرائيل. وهو احتمال جد ضعيف حسب الخبراء لعدة اعتبارات سياسية تعود إلى النفوذ الأمريكي بالمحكمة؛ برزت مخاوف لدى بعض المهتمين بالقضية، من احتمالات أي دور ملتبس خلف الكواليس لرئيسة محكمة العدل الدولية، من شأنه أن يساعد بطريقة ما إسرائيل (تسريب معلومات، نصائح، توجيهات…)، يأتي هذا التوجس لكون رئيسة المحكمة دبلوماسية أمريكية عملت لسنوات بوزارة الخارجية كمستشارة قانونية عهد الرئيس الأسبق أوباما، وهو احتمال وارد، لكن قد تدحضه معطيات معاكسة على أرض الواقع كون نائبها من روسيا وتواجد قضاة عرب من المغرب الصوماللبنان والعالم الثالث، كما تمثل المحكمة الوجه العام للعدالة الدولية، وأداة محترمة في العلاقات الدبلوماسية؛ تعرضت الأممالمتحدة لانتقادات واسعة بعد فشل أجهزتها في التدخل لوقف الحرب على غزة، وبرزت تساؤلات عن جدوى هذه الهيأة في ظل هيمنة القوى العظمى على قرارتها والحد من سلطاتها المتمثلة بالدرجة الأولى في حفظ الأمن والسلم الدوليين، لكنها مع ذلك فقد نجحت في التأسيس لأخلاقيات المجتمع الدولي وتعريفات لجرائم الحرب، ووضع إطار شامل للقانون الدولي الإنساني ومنظومة السلم العالمي، كما تنكب مؤسساتها المتخصصة على توثيق وقائع الحروب والنزاعات وغيرها من الازمات الانسانية وإعداد تقارير موثوق بها كشاهد عيان. وتعد محكمة العدل الدولية جزءا من هذه المنظومة. في هذا السياق أكد الأمين العام للأمم المتحدة على " ضرورة التصديق على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية وتنفيذها بالكامل من جانب جميع الحكومات، مع الحرص في الوقت ذاته على محاسبة الجناة"؛ لن يقف مسلسل الاتهامات الدولية ضد إسرائيل عند حدود دعوى جنوب إفريقيا، بل من المنتظر أن تقدم دول أخرى أو جماعات على رفع شكاوى جنائية لدى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ضد دولة إسرائيل وكبار مسؤوليها، بغرض التحقيق في الأوضاع بفلسطين وفيما ارتُكِب من جرائم ضد الفلسطينيين. دبلوماسي سابق