أجل، فى مقاله الشارد الأخير في مجلة ( لوبوان) الفرنسية اليمينية تهجّم الكاتب الفرنسي من أصل مغربي الطاهر بنجلون على القضية الفلسطينية وعلى فصائلها وزعم أنّ هذه القضية انتهت في السّابع من شهر أكتوبر2023 بسبب ما أصبح يسمّى ( طوفان الأقصى) الذي غيّر موازين الأمور في الشرق الأوسط بلا رجعة الى ما كان عليه الأمر من قبل.وقد وصف بنجلون في هذا المقال الأرعن – كما عرف الناس في مشارق الأرض ومغاربها- رجال المقاومة القلسطينية بأوصاف مسفّة، ورماهم بأحطّ النعوت وجرّدهم من الإنسانية ،وزعم انّ ما فعلوه لم تكن لتفعله الحيوانات ، قال: إن القضية الفلسطينية ماتت وقتلت يوم 7 أكتوبر، وهو يوم الهجوم الذي نفذته حركة المقاومة الفلسطينية حماس ضد مستوطنات في غلاف قطاع غزة المحاصر منذ 16 سنة من طرف إسرائيل. ووصف ما وقع يوم 7 أكتوبر بأنه "جرح للإنسانية جمعاء مع الإسرائليين " وقال :" إنه عربي ومسلم من أصول وثقافة وتعليم مغربي تقليدي" ولكنه تعاطف مع إسرائيل وقال: أنه لا يجد الكلمات للتعبير عن مدى الرّعب الذي اعتراه بسبب ما فعله مسلّحو حماس باليهود. " واستنتج الكاتب أنّ حماس بهجومها على الإسرائليين قتلت القضية الفلسطينية وأردف متبجّحاً قائلاً : "لقد ماتت القضية الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، اغتيلت على يد عناصر متعصبة، غارقة في أيديولوجية إسلامية من أسوأ الأنواع".هذا باختصار مجمل ما ذهب اليه هذا الكاتب الذي يبدو أنه فقد بوصلة الطريق وخرج عن الإجماع العربي وتاه في مَهَامِه ومَفَاوزِ القفار المعتمة، والدروب الحالكة المظلمة التي لا مخرج ولا منفذ لها . وتعرّض بنجلون بعد هذا المقال الانحيازي الأرعن لوابلٍ من الانتقادات الشديدة، والتهجّمات القاسية من العديد من الكتّاب، والأدباء، والسياسيّين، والمثقفين في وطنه الجديد فرنسا، وفى بلده الأصلي المغرب وفي سائر بلدان العالم العربي وفي سواها من أنحاء وأرجاء المعمور. "نادي النّازلين" ! وأذكّر في هذا الخصوص أنّ احدى أوسع الجرائد الالكترونية انتشاراً في المغرب وهي " هسبريس" كانت قد وضعت منذ مدّة الكاتبَ الطّاهر بنجلّون، الحاصل على أعلى تكريم أدبي في فرنسا وهي "جائزة غونكور" الأدبية، كانت قد وضعته في ركن لها يحظى بقراءة واسعة من طرف القراء وهي خانة قعر "نادي النّازلين" أو الهابطين ، إشارة – لما جاء بالحرف على لسان هذه الصّحيفة إلى: (تجاوز هذا الاديب حدودَه الثقافية و"الأدبية" (من أدب السلوك !) ليرمي آلافَ المغاربة بالأميّة والجهل، فقط لأنّهم كانوا قد صوّتوا إبّانئذٍ لفائدة حزبٍ ذي مرجعيةٍ إسلامية، حيث كان قد نعتهم:" بأنهم جاهلون وأميّون، ولا يدركون معنى الديمقراطيّة الحقيقية " .! وكانت هذه الجريدة الرصينة قد أردفت في ذات السياق بالحرف: "أنّ صاحب رواية "الاستئصال" وكأنه قد بدا وصيّاً على عقول وإرادة بني جلدته، فقط لأنهم يخالفون توجّهاته السياسية والإيديولوجية"، وكأنّ "هذا الكاتب، الذي يتّخذ من برجه الفرنسي العاجي منجنيقاً يهوي به على مخالفيه في الرأي، هو صاحب الحقيقة السّاطعة، والحكمة الناصعة، ودونه خرط القتاد". وكانت تصريحات بنجلون قد لاقت آنذاك في هذا القبيل الكثير من الامتعاض، والتذمّر،والإستياء، والانتقاد من لدن ذوي طينته داخل المغرب وخارجه على حدٍّ سواء قرّاءً، وكتّاباً، ونقّاداً،ومثقفين ومتتبّعين. أميّون لا يقرأون ولا يكتبون ! وكان بنجلّون تماشياً مع حديثه السّابق إيّاه حول الوصف المُجحف الذي نعتَ به بعضاً من بني طينته بأنهم: (جاهلون وأميّون، ولا يدركون معنى الديمقراطية الحقيقية) وذلك – حسب ما أوردته الجريدة المغربية إيّها الآنفة الذّكر- "كان قد صرّح خلال إستطلاع كانت قد نشرته جريدة "الباييس" الإسبانية الواسعة الإنتشار بأنه: "ينتمي إلى بلد أربعون في المائة من سكّانه أميّون، لا يقرأؤن ولا يكتبون، وهذه مأساة وعار يندى له الجبين"، وقال أيضاً: "إنني أعرف أنّ بعض بلدان أمريكا اللاتينية تعاني كذلك من هذه المأساة، وإنّ أحد هؤلاء الكتّاب وأخاله كارلوس فوينتيس سُئل ذات مرّة السّؤال التالي: (لماذا تكتب لقارّة من الأمييّن لا يقرؤون ولا يكتبون..؟) إنّني أتذكّر جيّداً جوابه وهو ما سأقوله الآن من الذاكرة: "إنني أكتب حتى وإن كنت على علمٍ أنّ بلديّاتي، وأبناء جلدتي لا يقرؤون لي..! ولأنّهم حالوا بينهم وبين تعلّم القراءة، فإنني سأكتب جيّداً، بل بشكلٍ جيّد جدّاً لأنني أريد أن أقدّم لهم ما هو أحسن، لأنّه سيأتي يوم سوف يقرأ فيه هذا الشعب وإذا لم يتسنّ له القراءة اليوم فسوف يقرأ أبناؤه. وعليه، فإنّ نصوصي ينبغي أن تكون خالية من النقائص، وبعيدة عن الشةائب والعيوب ! . الفرق كما هو واضح من السّياق أعلاه أنّ هؤلاء الرّوائيين والكتّاب والمبدعين المنتمين لبلدان أمريكا اللاتينية كانوا يكتبون بلغتهم، وهي اللغة القشتالية أو الإسبانية التي انتشرت في معظم بلدان القارة الأمريكية في شقّها الجنوبي بعد وصول الإسبان إليها، أو فتحهم أو بالأحرى بعد غزوهم لها في حين أنه – وهو الوحيد بينهم- الذي لم يكن يكتب بلغته الأصليّة، بل بلغةٍ أجنبيةٍ غالباً ما كانت وما برحت تُنعَتُ، أو توصفُ، أو تُسمّى بلغة "المُستعمِر الدخيل " أو " لغة المُفرنسين .! ينجلون و"البُووم" الأدبيّ الأمريكيّ اللاّتينيّ وحريّ بنا أن نذكّر في هذا الصدد بما قاله الطاهر بنجلون، في نفس الاستطلاع فى معرض تقييمه وحديثه عن الحركة أو الطّفرة الأدبية الشّهيرة التي يُطلقُ عليها "البّووم" الأدبي الشّهير الذي رفعت الإبداع في أمريكا اللاتينية إلى أعلى مراتبه خلال الخمسين سنة الماضية حيث تألّقت خلالها أسماء لامعة في العالم الناطق باللغة الإسبانية أمثال غابرييل غارسيا ماركيز في كولومبيا، وأليخو كاربنتييرفى كوبا، وخوان رولفو، وأكتافيو باث، وكارلوس فوينتيس، وخوان رولفو في المكسيك، وخورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار، وبيّو كاساريس وسواهم، إنه يقول عن هذه الحركة بالحرف الواحد: "عندما كنتُ ما زلت أتابع دراستي في المعهد الفرنسي بمدينة طنجة، كنت أستمع وأنصت بشغف كبير للكاتب الكوبي أليخو كاربنتيير وهو يحدّثنا عن الزخرفة في الأدب، ثمّ أهداني الكاتب الإسباني إميليو سانث الذي كان يقضي وقتاً طويلاً في طنجة رواية "مائة سنة من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز مترجَمةً إلى اللغة الفرنسية، فانغمستُ بسرعة في قراءة هذا الكتاب، إلاّ أنّه لم يشدّني أو يجذبني إليه في البداية بما فيه الكفاية، كان هناك شيء مّا في هذا العالم يمنعني من الدخول في هذه الرّواية التي لم تكن تشبه في شيء ما كنت معتاداً على قراءته من قبل". شاهدٌ على العصر بعيونٍ فرنسيّة ! الطاهر بنجلون يقول فى جانب آخر في ذات الاستطلاع السابق: "إنّ االقراء يعبون عليه أنْ لماذا لا يكتب باللغة العربية..؟ فهو يكتب بلغة غير لغة بلاده، بل إنّها لغة المُستعمر الدخيل..! . ويردف قائلاً: "إنّ الذين يعتبون عليّ أنْ لماذا أكتب بالفرنسية بدلاً من اللغة العربية إنما هم يطالبونني بشكلٍ أو بآخر بأن أتخلّى عن الكتابة، لانّهم يعرفون أنّني لا أجيد، ولا أتقن بما فيه الكفاية لغة القرآن لأعبّر بها بطلاقة وسلاسة ويضيف بنجلون في ختام تصريحه: "إنّ جوابي عن هذا السؤال المتعلق بالآداب الأمريكية اللاّتينية يشجّعني ويدعمني للمضيّ قدماً في طريقي ككاتب، إنّني أعتبر نفسي شاهداً على عصري، وشاهداً متتبّعاً وفى بعض الأحيان مشاركاً، أنا لستُ كاتباً متخفيّاً، ولا هادئاً ، بل إّني أتدخّل، وأدلي بدلوي كمواطن، ولكنّني لن أصل إلى حدّ مزاولة السياسة مثل ماريو بارغاس يوسا". ليته ظلّ ناطقاً في الأدب وصامتاً فى السّياسة كما وعد ! ليته توقف هنا ونفّذ ما وعد القراء به خلال هذا الاستجواب وظلّ ناطقاً في الأدب وأوفى بوعده والتزم الصّمت في السياسة إلاّ أنه لم يَفِ بوعده وأدلى بدلوه في " السياسة" فى الصراع الدائر في الشرق الأوسط عن القضية الفلسطينية المقدّسة وعن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في استرجاع بلده المسلوبة وأرض أجداده منذ التقسيم الملعون عام 1948بعد وعد بلفور المشؤوم ممّا فتح المجال للمعاناة المتواصلة التي لا حدّ لها التي عاناها هذا الشعب من التقتيل والتنكيل والتعذيب الذي ما زال يعانيه الى اليوم . "طوفان الأقصى" انتفاضة عملاقة جديدة وصيحة مدوّية، وبداية انطلاق تضحيات جِسام ، وعطاء وسخاء فى النفس، والقلب، والرّوح ،والوجدان،بكلِّ غالٍ ونفيس فى هذه الارض الطيبة المعطاء ، لقد كانت إيذاناً بعناق النضال المتواصل ، وكانت قسَماً علانياً صادقاً ، صادحاً ،صريحاً للدفاع عن حوزة الوطن الغالي المسلوب ظلماً، وعدواناً ،وقهراً، وقسراً،وبهتاناً،كانت هذه الانطلاقة كانت بمثابة زغاريد صادرة من حناجر الأيامى،واليتامى، والأرامل، والثكالى، وصيحات عالية للنضال صادرة من أفواه وقلوب آباء وأمهات الشهداء الأبرار، والشهيدات الطاهرات. كانت انطلاقة للتسابق، والتباري بين الرجال، والنساء، والأطفال، والشباب، والشيوخ، لمعانقة الملائكة النورانييّن فى علياء السّماوات ومعارجها السّامقات، الجميع من أبناء وبنات فلسطين انطلقوا على بكرة أبيهم مسلّحين بجرأة الأجداد ، وحماستهم ،وانخرطوا جميعهم فى مواجهات عنيفة دامية مع جنود الإحتلال الغاشم ،وعلى الرغم من عمليات التدمير التي تعرّضت لها المباني والمستشفيات والعمائر والدور والبيوت اقاموا العيادات العلاجية المتنقلة لتضميد قروح الجرحىَ المكلومين برصاص العدوّ ، وتقديم المواساة للعائلات الثكلى ، لقد شكّلت هذه الانطلاقة الجديدة الكبرى سدّاً منيعاً، وجداراً صلباً ،كانت كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا، يُوحّد صفوف الصّامدين ،ويشجّع أفواج المتعطشين للنّصر المبين ، بالتكاتف، والتكاتل، والتقارب، والتداني، والتحابّ،والتضحية والفداء، والإلتئام والإلتحام،وقهر الإحتقان المكتوم ،وإعلاء صوت الغضب السّاطع الذي انبثق من أعمق أعاميق مَخادع القلوب. فى غزّة الصّامدة،وفى مدينة القدس الخالدة، الاعتداءات المتكرّرة اللاّمسؤولة لاسرائيل مهّدت السبيل لانبثاق ردود فعل عنيفة أنذرت بتحرّكات، وانتفاضات لأبناء فلسطين البررة وشبابه االنّضر ، الشئ الذي اعتبره البعض إرهاصاتٍ، وأماراتٍ لإنطلاق مراحل جديدة للتطوّرات التي ستعرفتها المنطقة والتي غالباً ما ستفضي إلى هيجان وغليان فى مختلف مناطق فلسطين المُحتلة ، تحدّث السياسيّون، والاعلاميون،والمراسلون،والمحلّلون فى مختلف أنحاء المعمورعن الآلة العسكرية القمعية الإسرائيلية المقيتة التي لا تقيم وزناً لرضيع أو صغير، أو لكهل أو شيخ كبير، أو لأمّ ثكلى، أولإمرأة مترمّلة،وما فتئت هذه الاعتداءات المتوالية للجيش الاسرائيلي تصل مداها وصداها إلى أقاصي بلاد الله الواسعة الشئ الذي استنكره وأدانه العالم أجمع من أقصاه إلى أقصاه. الكاتب الباريسيّ – الطنجاويّ الطاهر بنجلون المتألق والمعانق الأبديّ ل " تور إيفّيل" نحن في انتظار مقالك المقبل في ( لوبوان) عمّا اقترفته إسرائيل في غزّة بدون رحمة ولا شفقة من إجرام ،ومجازر، وتنكيل ،وهدم، وتدمير، وتهشيم وتحطيم المباني السكنية الآمنة ، والبنى التحتية الهشّة ،والمستشفيات المتواضعة ،وقتل آلاف المدنيين العزّل الأبرياء من أطفال ونساء ومسّنين وكلّ مَنْ يدبّ على أديم الثرىَ.. أرض السيّد المسيح الطيبة المباركة التي نشر فيها ومنها السّلام عليه السّلام .. ! كاتب وباحث ومترجم من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- (كولومبيا). *نصوص تصريحات الرّوائي الطاهر بنجلون الواردة أعلاه من ترجمة صاحب المقال عن جريدة" البايّيس" الإسبانية.