الكاتب المغربي الطاهر بنجلون، الحاصل على أكبر تكريم أدبي في فرنسا وهي جائزة "غونكور" الأدبية المرموقة، كان قد أدلى بتصريحاتٍ ضمن استطلاع كانت قد أجرته جريدة ”الباييس” الإسبانية واسعة الانتشار مؤخراً مع ثلّة من الكتّاب والرّوائيين الآخرين المعروفين في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس، عن الحركة أو الطّفرة الأدبية الشّهيرة التي يُطلقُ عليها في اللغة الإسبانية "البّووم" الأدبي الشّهير الذي رفع الإبداع في أمريكا اللاتينية إلى أعلى مراتبه منذ أواخرالستينيّات من القرن الفارط، حيث تألّقت خلاله أسماء لامعة أمثال غابرييل غارسيا ماركيز في كولومبيا، وأليخو كاربنتيير في كوبا، وخوان رولفو وأكتافيو باث وكارلوس فوينتيس في المكسيك، وخورخي لويس بورخيس وخوليو كورتاثار وبيّو كاساريس وإيرنيسطو ساباطو في الأرجنتين، وماريو بارغاس يوسا في البيرو، وميغيل أنخيل أستورياس في الغواتيمالا، وسواهم... لقد كانت هذه الحركة أو الطّفرة الأدبية قد شكّلت حدثاً أدبيّاً مهمّاً، ونقلة نوعية خاصّة في عالم الخلق والإبداع الأدبي، في مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية على وجه الخصوص. ذكريات في المعهد الفرنسي ممّا كان قد قاله الطاهر بنجلون في معرض حديثه عن هذه الحركة: “عندما كنتُ ما زلت أتابع دراستي في المعهد الفرنسي بمدينة طنجة، كنت أستمع وأنصت بشغف كبير للكاتب الكوبي أليخو كاربنتيير وهو يحدّثنا عن الزّخرفة في الأدب، كان رجلاً أنيقاً وطيّباً، هذه الزيارة تركت أثراً عميقاً في نفسي.. وقد أهداني صديقي الكاتب والمؤرّخ السينمائي الإسباني إميليو سانث، الذي كان يقضي وقتاً طويلاً في طنجة، كتاب “مائة سنة من العزلة” لغابرييل غارسيا مركيز مترجَماً إلى اللغة الفرنسية، فانغمستُ بسرعة في قراءة هذا الكتاب، إلاّ أنّه لم يشدّني أو يجذبني إليه في البداية بما فيه الكفاية، كان هناك شيء مّا في هذا العالم الروائي الغريب يمنعني من الدخول في هذه الرّواية التي لم تكن تشبه في شيء ما كنت معتاداً على قراءته من قبل؛ ولكنّني عدتُ إلى قراءتها فيما بعد، خاصّة بعد أن اكتشفت العمل الأدبي الاستثنائي للكاتب المكسيكي خوان رولفو. وبفضل بيدرو بارامو، دلفتُ في غابة الأدب الأمريكي اللاتيني الرائعة. واكتشفتُ أنّ رولفو كان قد أثّر في غارسيا مركيز، كما كان له تأثير في بعض الكتّاب الآخرين من جيله. وبعد هذه القراءات، وجدتُ بعض الأواصر الأسرية بين عوالم هؤلاء الكتّاب وبين مبدعين من العالم العربي، حيث كنت أقرأ لكارلوس فوينتيس، وماريو بارغاس يوسا وكأنّهما كاتبان من بلدي". ترخيص للحُلم والابتكار ويضيف الطاهر بنجلّون في هذا السياق: "إنّ الأوج الذي أدركته هذه الحركة ممثّلة للأدب الأمريكي اللّاتيني شكّلت حظّاً سعيداً، وطالعاً حسناً للأدب في النصف الثاني للقرن العشرين.. لقد شاء الحظّ أن تهيّأ للعديد من الكتّاب فرصة انتمائهم إلى نفس الجيل، كما هيّأ لهم فرصة تمتّعهم بالموهبة والخيال في نفس الوقت. لقد شكّل هؤلاء الكتّاب كوكبة من المبدعين في جميع أنحاء قارة أمريكا اللاّتينية؛ حتى وإن كانت أساليبهم الأدبية متباينة. كما كانت المواضيع التي عالجها هؤلاء الكتّاب موجودة في آدابهم على وجه التقريب. ولقد اتّسمت إبداعاتهم بالجرأة، والزّخرفة، والتنميق، وطبعت بقلق عميق، كانت إبداعاتهم بقايا سوريالية، ونوعاً من الجنون الذي يتناقض مع الواقعية الأوروبية، وعدم التكيّف مع واقع النمط الأمريكي. لقد أطلقت هذه الحركة الأدبية العنان لحريّة الخيال”. وقال الطّاهر بنجلون في هذا الصدد بالحرف: "ففيما يتعلّق بتجربتي الشخصّية، وأنا واثق من ذلك، بعد قراءتي للكتّاب أُونِيتِّي وبُورخيس وغارسّيا ماركيز ونيرودا ولآخرين، فإنّ كتاباتي حصلت على ترخيص للحُلم والابتكار، فأنا مَدين بهذه الحرية وبهذا التطوّر لذلك الخيال المُجنّح الذي ليس له حدود". مأساة الأمية وكان بنجلّون - تماشياً مع حديثه السّابق إيّاه حول الوصف الذي نعتَ به بعضاً من بني طينته- قد صرّح خلال الاستطلاع المشار إليه أعلاه : ”إنّه ينتمي لبلد أربعون في المائة من سكّانه أميّون، لا يقرؤون ولا يكتبون، وهذه مأساة وعار يندى له الجبين". وقال أيضاً: ”إنني أعرف أنّ بعض بلدان أمريكا اللاتينية تعاني كذلك من هذه المأساة، وإنّ أحد هؤلاء الكتّاب وأخاله كارلوس فوينتيس سُئل ذات مرّة السّؤال التالي: (لماذا تكتب لقارّة من الأمييّن لا يقرؤون ولا يكتبون..؟) إنّني أتذكّر جيّداً جوابه وهو ما سأقوله الآن من الذاكرة: ”إنني أكتب حتى وإن كنت على علمٍ أنّ بلديّاتي، وأبناء جلدتي لا يقرؤون لي..! ولأنّهم حالوا بينهم وبين تعلّم القراءة، فإنني سأكتب جيّداً، بل بشكلٍ جيّد جدّاً لأنني أريد أن أقدّم لهم ما هو أحسن، لأنّه سيأتي يوم سوف يقرأ فيه هذا الشعب وإذا لم يتسنّ له القراءة فسوف يقرأ أبناؤه، وعليه فإنّ نصوصي ينبغي أن تكون خالية من النقائص، وبعيدة عن العيوب... هذا ما أقوله عندما أُسأل هذا السؤال". الفرق كما هو واضح من السّياق أعلاه أنّ هؤلاء الرّوائيين والكتّاب والمبدعين المنتمين إلى بلدان أمريكا اللاتينية كانوا يكتبون بلغتهم، وهي اللغة القشتالية أو الإسبانية التي انتشرت في معظم بلدان القارة الأمريكية في شقّها الجنوبي بعد وصول الإسبان إليها؛ في حين أنه - وهو الوحيد بينهم- الذي يكتب بلغةٍ غالباً ما كانت وما برحتْ تُنعَتُ بلغة " المُستعمِر"..! شاهد على عصره وقال الطاهر بنجلون من جانب آخر في الاستطلاع نفسه آنف الذكر: "إنّ البعض يعتب عليه أنْ لماذا لا يكتب باللغة العربية؟ فهو يكتب بلغة غير لغة بلاده، بل إنّها لغة المُستعمر الدخيل"..! . ويردف قائلاً :” إنّ الذين يعتبون عليّ أنْ لماذا أكتب بالفرنسية بدلاً من اللغة العربية إنّما هم يطالبونني بشكلٍ أو بآخر بأن أتخلّى عن الكتابة، لأنّهم يعرفون أنّني لا أجيد ولا أتقن بما فيه الكفاية لغة القرآن لأعبّر بها بطلاقة وسلاسة كما أفعل ذلك في اللغة الفرنسية"، ويضيف بنجلون في ختام تصريحه: ”إنّ جوابي عن هذا السؤال المتعلق بالآداب الأمريكية اللاّتينية يشجّعني ويدعمني للمضيّ قدماً في طريقي ككاتب.. إنّني أعتبر نفسي شاهداً على عصري، وشاهداً متتبّعاً وفى بعض الأحيان مشاركاً، أنا لستُ كاتباً متخفيّاً، ولا هادئاً، بل إّني أتدخّل، وأشارك، وأحاور كمواطن، ولكنّني لن أصل إلى حدّ مزاولة السياسة مثل ماريو بارغاس يوسا “.** وأشير في ختام هذا العرض إلى أنّ مداخلة الروائي المغربي الطّاهر بنجلّون حول هذا الموضوع كانت مُدرَجة في ذيل الاستطلاع الذي أجرته صّحيفة "الباييس" الإسبانية المرموقة في هذا القبيل، إلاّ أنّني آثرتُ، وتعمّدتُ أن أبوّئها الصّدارة في مقالٍ سبق لي أن نشرته في بعض الصّحف العربية الدولية الكبرى؛ من بينها "هسبريس" بعنوان "خمسون عاماً مرّت على “البووم” الأدبي الأمريكي اللاّتيني..كيف يرى الكتّاب المعاصرون هذه الحركة الأدبية الكبرى اليوم..؟" وكان هذا المقال يعالج نفس هذا الموضوع، ولا عجب، إذ كان شفيعي ودافعي في ذلك استجابة،ً وامتثالاً، ونزولاً عند رغبة الشّاعر العربي القديم الذي يقول : (لا يسألون أخاهم حين يندبهم / في النّائبات إذا قال برهانا )..! وكانت إحدى الجهات الصحافية المغربية قد رمت الطاهر بنجلون بأنه تجاوز حدودَ اللياقة ثقافياً وأدبياً، بعد أن نعت فئات من المغاربة بالأميّة والجهل، فقط لأنّهم كانوا قد صوّتوا لفائدةِ حزبٍ وليس لغيره. وكان قد اتّخذ من برجه العاجي في فرنسا منجنيقاً يقذف به هؤلاء الذين خالفوه الرأي، وكانت تصريحاته في هذا القبيل قد خلفت امتعاضاً وتذمّراً من طرف ذوي جلدته داخل المغرب وخارجه قرّاءً، وكتّاباً، ونقاداً، ومتتبّعين. * عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا - (كولومبيا). **تصريحات الرّوائي الطاهر بنجلون أعلاه من ترجمة صاحب المقال عن اللغة الإسبانية.