كيف يَرَى الكُتَّابُ، والنُقّاد المعاصرون اليوم ما يُعرفُ ب "البّوم" الأدبي الأمريكي اللاّتيني المعاصر الشّهير (El boom latinoamericano) الذي رفع الإبداعَ الأدبي إلى أعلى مراتبه على إمتداد ما ينيف على الخمسين سنة الماضية ،والذي إرتبط بظاهرة الواقعيّة السحريّة فى الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر فى هذا الشقّ من العالم..؟ ومعروف عن هذه الحركة أنّ أسماء لامعة قد إشتهرت، وتألّقت فيها فى مختلف أغراض الخَلْق، والعَطاء من الإبداع الرّفيع فى الشّعر، والرّواية ، والقصّة،وسواها من أشكال التعبيرالأدبي، والفنيّ، والسّردي على إختلاف مجالاته ، وذاعت وإنتشرت أعمالهم خلال العقود الخمسة الماضية فى مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية، وفى سائر أنحاء العالم أمثال: غابرييل غارسّيا ماركيز ،والفارُوموتيس، فى كولومبيا، وأليخو كاربنتيير فى كوبا ، وخوان رولفو، وأكتافيو باث، وكارلوس فوينتيس فى المكسيك، ونيكانور بارّا، وبابلو نيرودا، وإيسابيل أيّيندي فى شيلي، وخورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار، وبيُّو كاساريس فى الأرجنتين، وماريو بارغاس يُوسَا فى البيرو، وميغيل أنخيل أستورياس فى غواتيمالا ...وسواهم . هذه الحركة الإبداعية المميّزة أو الطفرة الأدبية الكبرى التي إنطلقت فى الستّينيّات من القرن المنصرم، شكّلت حدثاً أدبيّاً هامّاً، ونقلةً نوعيةً خاصّة فى عالم الخَلْق، والإبداع فى الأدب المكتوب فى فضاء اللغة الإسبانية، وعلى وجه الخصوص فى بلدان أمريكا اللاّتينية..هذه الحركة كيف يراها اليوم ثلّة من الكتّاب، والنقّاد المعاصرين المعروفين على تباين جنسياتهم، ومشاربهم فى مختلف أنحاء العالم ..؟ جمالية الواقعيّة السّحريّة يرى الكاتب الأمريكي " غاي تايليسي " فى هذا الشّأن : أنه يشعر بدَيْن نحو هؤلاء الكتّاب المنتمين لجيل "البّوم" الأدبي الأمريكي اللاّتيني الذين أخرجوه، وأخرجوا العديدَ من زملائه من الجهل الذي كانوا يتخبّطون فيه حول المنجزات، والإنتصارات التي طبعت تاريخ أمريكا اللاّتينية منذ عهود الإكتشاف" ، كما يرى:"أنّ هؤلاء الكتّاب كانوا روائيّين كبارأنارُوا بفكرهم الثاقب،وبخيالهم الواسع عقولنا، بل وكانوا مصدرَ إلهامٍ لنا بما ألّفوه، وأبدعوه، وقدّموه لنا من قصصٍ، وحكاياتٍ لأناسٍ عاديّين، وعن معاناتهم، وطموحاتهم، وتطلعاتهم وجعلوا من هؤلاء وكأنهم أصبحوا جيراناً "أدبيين" لنا " . وترى الكاتبة الأرجنتينية " أنَا ماريا سُووَا" بخصوص هذه الحركة الأدبية، أو الطفرة الإبداعية" أنّها جعلت الأدبَ يقف ثابتاً على قدمْين ، وأنزلته من عليائه إلى الناس، كان أصحابه كتّاباً ومبدعين من طراز رفيع دون الخضوع أو الخنوع لأيّ أيديولوجية سياسية ، لقد شكّلت هذه الحركة الأدبية فى تاريخ الإبداع الأدبي ثورة حقيقية كان لها تأثير بليغ فى الأدب العالمي المعاصر " . وأمّا الكاتب والرّوائي الإيرلاندي "جون بانفيل" فعلى الرّغم من أنّه يجعل من أوربّا موطناً لإنطلاق هذه الحركة إذ يعزُو للكاتب الألماني الراحل " غونتر غراس" أنه صاحب أوّل كتاب حول الواقعيّة السحريّة ،فإنه يرى أنّ أصحابَ هذه الحركة الأدبية سلّطوا مزيداً من الضّوء على الواقعية السحرية ،إنهم شكّلوا بإبداعاتهم ثورة ملموسة فى عالم الإبداع ، ويضيف "بانفيل" مازحاً أنه مع ذلك ليس متأكّداً من وجود هذه الثورة،ومع ذلك يظلّ "بورخيس" أحسنهم جميعا" بالنسبة له . ويشير فى هذا الصدد الكاتب الأمريكي " إليوت وينبيرغر" من جانبه فى هذا الشأن :" أنّ الناس دأبوا على القول بأنّ هذا "البّوم" هو من إنتاج سوق الأدب الأمريكية الذي إنتشر منها إلى مختلف أنحاء العالم ، وإن الثوب الذي قدّمت به نفسها هذه المجموعة من الكتّاب الذين لا يجمعهم رابط مشترك سوى أنهم كانوا برمّتهم من أمريكا اللاتينية، لم يكن فى الواقع حركة جمالية، بقدر ما كان حركة أدبية حظيت بترجمات متوالية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية التي كانت الترجمات فيها من قبل قليلة جدّاً لكتّاب ينتمون كلّهم إلى لغة واحدة ومنطقة واحدة من العالم ، خاصّة وأنّ هؤلاء الكتّاب قد أبدعوا فى الفنّ الرّوائي بشكلٍ خاص، والذين مهّد لهم من قبل مبدعون آخرون كبار مثل الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، والتشيلي بابلو نيرودا ،و المكسيكي أوكتافيو باث ،و التشيلي كذلك نيكانور بارّا وسواهم . لقد كان لهذا البّوم ميل كبير للخيال، ولهذا إعتُبرت "مائة سنة من العُزلة " لغابرييل غارسيا ماركيز فى هذا السّياق من أكثر الرّوايات تاثيراً فى العالم فى النصف الثاني من القرن العشرين، إلاَّ أنّ هذا الكاتب الأمريكي يرى أنّ الشّعر كان له تأثير أكبر وأوسع فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. و لم يتوانَ كبار الشّعراء فى هذا البلد فى ترجمة الشّعر الأمريكي اللاّتيني المعاصر. وقد صادف هذا البّوم الأدبي ظروفاً تاريخية خاصّة (حرب الفييتنام ، وظهور حركات الحقوق المدنية إلخ) ونجح هذا البّوم لأنّ الناس كانوا متعطّشين لآفاق ثقافية أخرى أسيوية، وهندية، وإلى تقاليع كانت فى بعض الأحيان محظورة، وقد وجدوا ضالتَهم فى المخدّرات ،أيّ كان الناس عطشى لثقافة مُضادّة للثقافة الأمريكية التي كانت سائدة ،ولم يتمثّل ذلك البديل فى "الواقعية السحرية" وحسب، بل فى أمريكا اللاتينية بأسرها التي كانت تشكّل عالماً جذّاباً جديداً للأمريكيّين، وعليه فالّبوم الأدبي الأمريكي اللاّتيني كان أكثرَ أهميّةً فى الشّمال أكثر ممّا هو كان عليه فى الجنوب ". ويخبرنا الشاعر الرّوماني "ميرسي كارتاريسكو" أنّ الكاتب المأثور عنده من كتّاب هذه الحركة الإبداعية هو الأرجنتيني "إيرنيستو ساباتو" إلاّ أنّ بورخيس، وكورتاثار كانا فى نظره من أكثرالكتّاب تاثيراً من الآخرين، حتى وإن كانت بعض روايات غابرييل غارسيا ماركيز من الصّعوبة تجاوزها أوالتفوّق عليها . وأما الكاتب الأمريكي" جون لي أندِرسَن" فيرى أنّ أقربَ الكتّاب والرّوائيين إليه فى هذه الحركة الأدبية هو الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، إذ منذ أن قرأ روايته " مائة سنة من العزلة" عالم 1977 فتحت هذه الرواية أمامه آفاقا جديدة لرؤية العالم، وفهمه بطريقة تختلف عن السّابق، ثم كان لقاؤه بعد ذلك مع كورتاثار، والبرازيلي خورخي أمادو ثم مع ماريو بارغاس يوسا وآخرين ، وحسب منظوره فقد تالّق وإنتشر هذا الأدب لأنه عُني فى المقام الاوّل بالنّاس العاديّين مثل السكّان الأصلييّن، والمُولّدين، والسُّود، وسكان البوادي الذين كانوا مهمّشين تماماً، ومن ثمّ أكتسب أهميتَه، وقيمتَه وبُعْدَه الأدبي والإنساني العميق ، لقد حققت هذه الحركة الأدبية طفرة نوعية فى بابها ليس فى أمريكا اللاّتينية وحسب، بل وخارجها كذلك، وأفسحت المجال لعالمٍ أكثرَ شموليةً، وعالميةً، وديمقراطيةً، أكثر مِمَّا كان عليه الأمر من قبل". من المحليّة إلى العالميّة وترى الكاتبة الإسبانية "كريستينا فرنانديث كوباس" أنّ أوّلَ مَنْ إسترعى إنتباهها، وشدّها إلى هذه الحركة وروّادها هوالكاتب المكسيكي خوان رولفو برائعته "بيدرو بارامو" ، ثم جاءفيما بعد الكتاّب الآخرون المنضوون تحت هذه فضاء هذه الحركة الذين أعطوا نفساً قويّاً، وضخّوا دماً جديداً فى الرّواية المعاصرة فى أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص. ويعترف لنا الكاتب التشيلي "لويسْ هاسْ" أنّ الرّوائي الاوّل الذي سيطر على مجامعه ضمن هذه الكوكبة من الكتّاب كان هو "خوليو كورتاثار".وقد عملت هذه الحركة، أو الطفرة فى نظره على نقل الأدب الأمريكي اللاّتيني من المحليّة إلى العالمية ، وعمّمت، وعمّقت المفهومَ البورخياني فى عملية الإبداع، وهو أنّ الكاتب الجيّد فى العُمق هو كلّ الكتّاب، إذ بواسطة هذا الأدب لم تعد الأسطورة، والمعجزة مجازاً أو إستعاراتٍ أو أوهاماً بل أصبحتا حقائقَ كلّ أيامنا المعاشة. ويؤكّد هذا الكاتب أنه لا ينبغي أن يعزبَ عن بالنا الدّورالمحوري الذي لعبته مدينة برشلونة بالذات فى نشر، وذيوع هذه الحركة الأدبية ، كما لا ينبغي أن ننسى أنّ المترجم الإنجليزي "غْريغُورِي رُوبَاسّا" الذي عُني بهذه الحركة عناية فائقة هو إبن مواطن كاتالاني ، كما أنّ الناشر الذي عُني بهذا "البّوم" فى الأرجنتين هو"بَاكُو بُورْوَا" ويرجع أصله إلى منطقة غاليسيا (جلّيقة) بإسبانيا . وفى رأي الصحافي الإسباني البارز "خوان كروث" فإنّ هذه الحركة الأدبية شكّلت نوعاً من الإنتشار والتنوّع للإبداع الأدبي ليس لهما نظير ، فالبّوم يعني الإنفجار الذي قلب موازين الإبداع الأدبي بتلك الهالة الخلاّقة التي تمثّلت فى الواقعية السحرية التي إنصهرت داخل هذا الحركة نفسها . ويرى الكاتب الأمريكي " شَارلزْ باكستر" أنّ أوّلَ ما وصل إليه من الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصرالعائد لهذه الحركة كانت قصص خورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار، ثمّ إكتشفَ فيما بعد الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، إلاّ أنه ما لبث أن مال فيما بعد إلى الأديب التشيلي " خُوسِّيه دُونُوسُو" خاصّة كتابه " طائر الليل الفاحش " الذي لم يتمكّن من التخلّص من آثاره، وتأثيره إلى اليوم. ويشير هذا الكاتب أنّ هذه الحركة الأدبية تقتنص اللحظات اليومية المعاشة وتصفها بحماس كبير، وترصد حتى الأوهام، وتلتقط الشّطحات، و تشخِّص الأطياف، والكوابيس، والشخصيات. هنا تكمن قوّة، وزخم هذه القصص ، ويعترف هذا الكاتب صراحة - حسب رأيه - أنّ هذا النّوع من الأدب يبقى ضعيفاً إلى حدّ مّا فى الولاياتالمتحدةالامريكية". حريّة طليقة وخيال مُجنّح وأدلى الطّاهر بنجلّون من جهته ضمن هذا الإستطلاعٍ، الذي كانت قد أجرته جريدة "البّايس" الإسبانية الواسعة الإنتشار حول هذا الموضوع إلى جانب الكتّاب والنقّاد السّابقين ، فقال فى هذا القبيل: "عندما كنتُ ما زلتُ أتابع دراستي فى المعهد الفرنسي بطنجة، كنت أستمع ،وأتابع بشغف كبير الكاتب الكوبي أليخُو كاربنتيير وهو يحدّثنا عن الزّخرفة فى الأدب ،كان رجلاً أنيقاً، وطيّباً ، وقد تركتْ هذه الزيارة التي قام بها للمعهد فى ذلك الإبّان أثراً عميقا فى نفسي، ثم بعد ذلك أهداني الصّديق والكاتب والمورّخ السينمائي الإسباني "إميليو سانث" - الذي كان يقضي وقتاً طويلاً فى طنجة - كتاب "مائة سنة من العزلة" للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز مترجَماً إلى اللغة الفرنسية فانغمستُ بسرعة فى قراءة هذا الكتاب ، إلاّ انّه لم يشدّني أو يجذبني إليه فى البداية بما فيه الكفاية ، كان هناك شئ مّا فى هذا العالم يمنعني من الدخول بكلّ مجامعي فى هذه الرّواية التي لم تكن تشبه فى شئ ما كنت مُعتاداً على قراءته من قبل، ولكنّني عدت إلى قراءة هذه الرّواية من جديد فيما بعد خاصة بعد أن إكتشفتُ العمل الأدبي الإستثنائي والفريد للكاتب المكسيكي خوان رولفو، وبفضل عمله الإبداعي الرّائع" بيدرُو بارامُو" دلفتُ فى غابة الأدب الامريكي اللاّتيني المثيرة . وإكتشفتُ أنّ خوان رولفو كان له تأثيّر كبير على غابرييل غارسيا ماركيز، كما كان له تأثير فى بعض الكتّاب الآخرين من مختلف بلدان أمريكا اللاتينية من جيله، وألفيتُ بعضَ الأواصر الأسرية الوثقى بين عوالم هؤلاء الكتّاب، وبين بعض المُبدعين فى العالم العربي، حيث كنت أقرأ لكارلوس فوينتيس ، وماريو بارغاس يُوسا وكأنّهما كاتبان من بلدي . وأضاف الطاهر بنجلّون فى نفس السّياق :" إنّ الأوج الذي أدركته هذه الحركة الإبداعية ممثّلة للأدب الامريكي اللاّتيني شكّلت حظّاً سعيداً،وكانت طالعاً حسناً للأدب بشكلٍ عام فى النصف الثاني للقرن العشرين ،لقد شاء الحظ أن تهيّأ للعديد من الكتّاب فرصة إنتمائهم لنفس الجيل، كما هيّأت لهم فرصة تمتّعهم بالموهبة والخيال في نفس الوقت. لقد شكّل هؤلاء الكتّاب كوكبة من المبدعين في جميع أنحاء قارّة أمريكا اللاّتينية، حتى وإن كانت أساليبهم الأدبية متباينة ،كما كانت المواضيع التي عالجها هؤلاء الكتّاب موجودة ومتقاربة فى إبداعاتهم الأدبية على وجه العموم ، ولقد إتّسمت هذه الإبداعات بنوعٍ من الجرأة، وبضربٍ من الزخرفة والتنميق ، وطبعها قلق رائع،كانت تظهر فى إبداعاتهم بقايا آثار سوريالية، وبصمها نوعٌ من الجنون،والتحليق اللذين يتناقضان مع الواقعية الأوروبية، وعدم التكيّف مع واقع النمط الأمريكي، لقد أطلقت هذه الحركة الأدبية العنان لحريّة الخيال "،وفتحت عالما طليقاً بدون قيود" . وعن تجربته الشخصية فى الكتابة والإبداع - يقول الطاهر بنجلون- بنوعٍ من الوثوق فى النفس: أنّه بعد قراءته لأونيتّي، وبورخيس، وغارسيا ماركيز، ونيرودا وكذلك لكتّاب آخرين من القارة الامريكية ،فإنّ كتاباته حصلت على ترخيص للحُلم والإبتكار،وهو يؤكّد أنه مَدين فى هذه الحرية ،وهذا التطوّر لذلك الخيال المجنّح الذي ليس له حدود الذي طبع هذه الحركة الأدبية على إمتداد ما ينيف على الخمسين سنة الفارطة ". وقال بنجلّون – من جانبٍ آخر- إنّه ينتمي لبلدٍ أربعون فى المائة من سكانه أميّون لا يقرأون ولا يكتبون، وهذه مأساة وعار يندى لهما الجبين حقّاً، وقال إنه يعرف أنّ بعض بلدان أمريكا اللاتينية تعاني كذلك من هذه المأساة "، وقال فى نفس السياق :" إنّ أحد هؤلاء الكتّاب المنتمين لهذا " البوم" الأدبي الشهير وهو الكاتب المكسيكي الراحل كارلوس فوينتيس سُئل ذات مرّة السؤال التالي: ( لماذا تكتب لقارّة أميّة لا تقرأ ولا تكتب.. ؟! ) ويقول بنجلون إنه ما زال يتذكّر جيّداً جوابه حتى اليوم وهو ما سيقوله لنا من الذاكرة وهو ما يلي :" قال فوينتيس إنني أكتب حتى وإن كنتُ على علمٍ أنّ بلديّاتي لا يقرأون لي، و ذلك لأنهم حالوا بينهم وبين تعلّم القراءة إنني سأكتب جيّداً، بل جيّداً جدّا لأنني أريد أن أقدّم لهم ما هو أحسن، لأنه لابدّ أن يأتي يوم سوف يقرأ فيه هذا الشعب ، وإذا لم يتسنّ له القراءة فسوف يقرأ أبناؤه ، وعليه فإنّ نصوصي ينبغي أن تكون خالية من النقائص وبعيدة عن العيوب هذا ما أقوله عندما أُسْأل هذا السّؤال" . بعد ذلك قال بنجلون: " إنّ البعض يعتب عليه أن لماذا لا يكتب باللغة العربية ؟"، فهو يكتب بلغة غير لغة بلاده، بل إنّها لغة المُستعمِر ...! إلاّ أنه يردف قائلاً فى هذا القبيل :" إنّ الذين يعتبون عليّ أن لماذا أكتب بالفرنسية بدلاً من اللغة العربية إنّما هم يطلبون منّي بشكلٍ أو بآخر أن أتخلّى عن الكتابة لانّهم يعرفون أنّني لا أجيد، ولا أتقن بما فيه الكفاية لغة القرآن لأعبّر بها بطلاقة وسلاسة كما أفعل ذلك فى اللغة الفرنسية"، ثمّ أضاف" إنّ جوابي عن هذا السّؤال المتعلق بالآداب الأمريكية اللاتينية يشجّعني ويدعمني للمضيّ قدماً فى طريقي ككاتب،" ويَعتبر الطاهر بنجلون نفسَه شاهداً على عصره، وشاهداً متتبّعاً وفى بعض الأحيان مشاركاً، وهو لا يرى نفسه كاتباً متخفياً ، أوهادئاً ،بل إّنه يتدخل ويدلي بدلوه بدون إنقطاع كمواطن، ولكنّه يرى من جهة أخرى أنه لن يصل فى تدخّلاته إلى حدّ مزاولة السياسة مثلما فعل الرّوائي البيروفي ماريُو بارغاس يُوسا" . اللغة الإسبانية وثقافتها الكاتبة الأمريكيّة " مَارِي أَرَانَا " التي ينحدرأصلها من البيرُو، ترى أنّ هذه الحركة الأدبية لم تكن ظاهرة أمريكا اللاّتينية وحسب ، بل كانت ظاهرة أمريكيّة بكل المقاييس نظراً لِمَا كان يحدث حولها من مخاض بين قرّاء لم يكونوا على علم أو دراية، بل إنهم لم يعيروا أدنى إهتمام لما كان يجرى فى أمريكا اللاّتينية من ثراء أدبيّ راقٍ، وإبداعٍ رفيع، وخيالٍ مجنّح، كما أنهم لم يكونوا على علمٍ بَعْد بالتراث العظيم للأدب الإسباني، وكان هذا البُوم نوعاً من المُوضة، أوضرباً من البدعة، التي لا يمكن مناقشتها. وطفق الأمريكيّون ينظرون من خلال عيون أخرى مختلفة غير عيونهم ، ودخلوا فى جلد آخر.. وقالت الكاتبة : إنّ هذا البّوم لا يمكن إعتباره حركة موحّدة، مثل حركة الرّومانسيين الفرنسيّين أو مثل حركة الطلائعيّين الرّوس ، كما أنّ هذا البّوم الأدبي لم يكن حركة كتّاب، بقدر ما كان حركة قرّاء، فقد أفضت هذه الحركة الأدبية إلى زيادة عدد القرّاء بشكل لم يسبق له نظير، وذلك ترحيباً وحفاوة بالخيال الأمريكي اللاّتيني الجديد . وتؤكّد الكاتبة الامريكية من جانب آخر أنّ أحد الصحافييّن الأمريكيّين الكبار وهو "جيمس ريستون" كان مُخطئاً عندما قال "إنّ أمريكا بمقدورها أن تفعل أيَّ شئٍ من أجل أمريكا اللاّتينية، ولكنّها لا يمكنها أن تقرأ شيئاً لها أوعنها " ! . ويؤكّد الكاتب الهولاندي "سيس نوتيبوم" فى خضمّ هذه الآراء المُتعدّدة والمتضاربة أنّ هذه الحركة الأدبية أو الطفرة الإبداعية، التي غالباً ما يُطلق عليها بالبوم الأدبي الأمريكي اللاتيني، قد أقنعته أنّ الرّوائي الكولومبي الرّاحل غابرييل غارسيا ماركيز قد إكتشف قارّة، ولقّننا كيف نحكي الحكايات، ونقصّ القصص ، هذا البّوم الأدبي عرّفنا كذلك بسوداوية، وعمق الكاتب الأوروغوائي الكبير خوان كارلوس أونيتّي ، كما أطلعنا على عالم خورخي لويس بورخيس المسحور، ووضعَ نصب أعيننا ألمعيةَ،ولمعانَ، وبريقَ بِييُّو كاسَارِيسْ. وفى معرض هذه التقييمات، والتحليلات لما أصبح يُنعتُ أو يُعرف فى مختلف الأوساط الأدبية العالمية ب"البّوم الأدبي الأمريكي اللاتيني"، نختم بما أشار إليه الكاتب الإسباني" خوسّيه ماريا بُوثويلُو إيفانكُوسْ" فى هذا القبيل حيث يؤكّد أنّ هذه الحركة أسهمت بقسطٍ وافر فى عولمة اللغة الإسبانية، وثقافتها وأنها عرّفت بالأدب المكتوب فى هذه اللغة على أوسع نطاق، كما أنّها نقلت هذا الأدب وترجمته إلى مختلف اللغات العالميّة الحيّة، وكانت أولى قراءاته لهذا البّوم الأدبي رواية "مدينة الكلاب " لماريُو برغاسْ يُوسَا ،و"مائة سنة سنة من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز ، و"رَاجْوِيلاَ "لخوليُو كُورتاثار. فبواسطة خوان رُولفُو أدخِل إلى الأدب العالمي السّرد الهيكلي، مروراً بوليام فولكنر، وقدّم بارغاس يُوسا السّرد الذي يَرْصُدُ الواقعَ بواسطة الخيال، وتقريب الرواية من التاريخ الجماعي، واستعاد أليخُو كاربينتييرأجملَ التقاليد الباروكيّة السّردية فى اللغة .** *عضو الأكاديميّة الإسبانيّة - الأمريكيّة للآداب والعلوم – بوغوطا - كولومبيا. ** جميع النّصوص التي تضمّنت وِجهات نظر الكتّاب والنقّاد حول هذا الموضوع، والمُدرجة ضمن هذا المقال من ترجمة كاتب هذه السّطور عن اللغة الإسبانية .