من بين أشهر الشذرات المتبلورة ضمن السياق المفهومي لفلسفة القرن العشرين،وصاغها لسان جان بول سارتر، قول صاحب كتاب الوجود والعدم :الجحيم هو الآخر أو الآخرون. لعبة الآخر، تركيب لغوي يقبل الجمع أو الإفراد. توصيف مروع يثير الفزع والرهبة،مادامت جميع الأذهان و الأفهام تدرك هنا بيسر حسي معنى الجحيم وآلامه الحارقة،لأنه مرتبط بالنار التي تلتهم كل شيء دون رحمة أو تؤدة، ثم تأتي في ثوان على الأخضر واليابس. بالتالي، تقريب مضمون الصورة الرمزي عبر استحضار الآخر، يعكس حقا مستويات الآلام والمساوئ والشرور وحرائق الأعصاب التي بوسع هذا الآخر أن يكون مصدرا ثريا لها؛ خلال أيِّ لحظة وفي كل مكان؛ عن قصد أو عرضيا. طبعا،من باب عدم التعميم، وجب التأكيد مطلقا على أنَّ هذا التحديد يظل نسبيا، قابلا للأخذ والرد،حسب الأوضاع والمواقف التي تجابه الذات ودرجة التَّماس مع الآخر، إما جبرا أو اختيارا،حينها تنبعث ضرورة تقييم هوية هذا الآخر، بكونه فردوسا أو حقا جحيما. إذن، الآخر كمفهوم موضوعي للذات، يكتسي مثل باقي الحقائق الخارجية التي تختبرها الذات، تعددا قيميا حسب مقتضيات الحالة الإنسانية. من بوسعه نعت الآخرين الذين أسعدوا البشرية؟ فأبهجوها بعطاءاتهم العظيمة والمثمرة على جميع المستويات التي ساهمت في رقي الجميع والدفع بالجماعات البشرية نحو أفضل أحوالها :زعماء السياسة البناة، قادة العلم، أساتذة الفكر،ملهمو الجمال،رحماء المعذَّبين...،إلخ. زمرة استثنائيين ونوعيين،هذَّبوا أولا وأخيرا، ممكنات ذواتهم غاية انمحاء مختلف قيود الدواعي المادية والغريزية، وارتقائها صوب محض سمو عميق،كأنَّ الذات لم تعد نتيجة هذا التطور ذاتا حسية، بل انصهرت كليا بين طيات حقيقة الآخر، لحظتها انمحت كل التناقضات التي تضمر بالقوة، إمكانيات أخذ مفهوم الأخر صيغة مناقضة للذات. الآخر واقعة وجودية مطروحة مبدئيا،على منوال باقي الحقائق الأصيلة التي تدور في مضمار الذات.تكمن الإشكالية المفصلية،في ضرورة ملاحقة الأسئلة التالية : لماذا الآخر؟ ما طبيعة حقيقته؟ هل يشغل الآخر حيزا زمكانيا مثلما يدركه حقا وعيي، أم فقط مجرد تمثُّل ذاتي محتملة حقيقة هويته ضمن احتمالات أخرى عن الوجود بجانب باقي التمثُّلات، بحيث لايخضع ذلك لمعياري الصدق والصواب وفق معطياته الواقعية؟ ما حدود الحيز الذي يمكن أن يشغله هذا الآخر بالنسبة إلى الذات...؟ تؤكد مشروعية طرح هذه الأسئلة، بأنَّ موضوعة الآخر تظل نسبية، تبتغي هذا المدى أو ذاك قياسا لممكنات الذات وحدود وعيها بكيانها ثم كيانه. بمعنى، مثلما يسود الاعتقاد بخصوص استحالة تبلور حياة الذات و تأسُّسِها دون وازع الآخر. أيضا، بنفس التجلي والوضوح، يكمن صواب وجدوى الاعتقاد المقابل، الذي يجزم بقدرة الذات كي تحيا دون وجود للآخر. تظل هوية الآخر حبيسة تأويلات الذات، ومستويات اشتغال حيز ذلك، موصولين بإرادة هذه الذات، بحيث تغدو مسألة الآخر مطَّاطية، تتمدَّد، تتقلص، تنكمش تبعا لمستويات فاعلية ديناميكية إرادة الذات. الآخر جحيم، يصير أمره كذلك بالقوة والفعل،عندما يصبح ببساطة عائقا أمام سلاسة انسياب مشروع الذات، يعكِّر صفو سعيها كي تتحقق بكل حرية ضمن مجالها الخاص، وقدرتها على إظهار إمكانياتها. إذن،عندما تستشعر الذات هذه المجازفة نتيجة تجلِّي أولى تفاعلات احتكاك الخاص والعام.حينها، يتبلور الآخر وفق أبعاده المادية و الملموسة، بناء على معطيات مباشرة، بعد أن كانت قبل ذلك صيغة فضفاضة. ترتكز الحقيقة المطلقة للذات الإنسانية،على إطار الوحدة و الواحدية ضمن انفتاح ممكناتها، بحيث يندرج الآخر ضمنها.مصدر هويته، درجات العزلة التي ترسمها الذات لمصيرها، وتمتلك قدرة وجودية كي تحدِّد لهذا الآخر مجاله الذي يناسبه في علاقتها معه. بناء عليه، وجب التمييز مبدئيا بين الوجود بالمعنى الخالص لدلالة المفهوم،هنا تقبع الذات داخل موطنها الأصلي، ثم العالم كمجال يستدعي ضرورة تواصل الذات مع الآخر. تعايش، يقتضي منها تنازلا نسبيا عن لبنات هويتها. لايتحقق هذا السعي غالبا بكيفية إيجابية وفق المطلوب،مادام يستدعي تصادم حريتين. القدرة على تنظيم مجال الحرية،وتحييد العوائق،يعكس الحلقة المفقودة كي لايصير الآخر جحيما. أضحى الآخر جحيميا،عندما انحدرت الذات من الحالة الوجودية إلى دوامة العالم، ثم انخرطت في منظومة علاقات منفتحة على المجهول ولامتناهية،بعد أن افتقدت أصالة الحالة الوجودية. يعتبر المساس بحرية الذات،أولى إشارات لزوم التفكير في حضور الآخر. دوامة إشعال فتيل الجحيم، يحسمه ترياق تحقق الوعي الوجودي لدى الجميع.أفق، يتطلب تشبُّعا بالحرية الشاملة، وكذا توطُّدا دائما ومستمرا للحس الوجودي، لذلك نجحت المجتمعات التي تبنت هذا المسار في وضع الآخر، قياسا للذات ضمن إطاره المفترض له كي يتطور المجتمع بناء على جدليات احترام خصوص الذات مع تعددية الآخر. كلما توثَّق واستحكم حافز الحرية،ضمن مجموعة ترتقي دون توقف بسعي الممكن الإنساني، سيحظى الآخر بموقع متوازن وتتضاءل خباياه الجحيمية،لأنه في إطار سياق من هذا القبيل، يحدث التمييز دون مواربة بين حالات : الوجود، العالم، الذات، الآخر، الذاتي، والعمومي. مرتكزات بنَّاءة للعلاقات المجتمعية بين مكوناته البشرية،تبعا لسيرورة سليمة وخلاَّقة،مصدرها جعل الواحد متعددا،من خلال وحدة المتعدِّد. في المقابل،كلما انحدرنا وجهة صحاري المنظومات الشمولية، الأحادية، القهرية، والمتسلطة جملة وتفصيلا،التي لاتؤمن مبدئيا بالإنسان أو لبنات حياته الحقة،إلا وأضحى فعلا الآخر جحيما لايطاق،على جميع المستويات وأينما وليت وجهكَ، بحيث تلاقي صرخة سارتر مجالا رحبا على امتداد مرتع خصب، جراء انعدام الحرية، تبخيس قيمة الفرد، ثم تداخل كل شيء بكل شيء.