أخطاء وأضاليل وسوء تقديرات، جملة تراكمات غير إيجابية بنيويا، يتناقل إرثها الثقيل أفراد مجتمع معين، تتبادلها الأجيال بحكم قانون التاريخ،على إيقاع كومة من النار تبدأ للوهلة الأولى شرارات ضعيفة، ثم تتوقد وتشتعل كي تغدو جمرات حارقة؛ قدر تزايد نفخ الأوداج. قيم، مفاهيم، أفكار، نسق سلوكي، منظومة بأكملها، يبثُّ بذراتها الأجداد في تربة أفق الأحفاد،قبل ولادتهم بسنوات، فيتحملون افتراضا وبالقوة فوق كواهلهم أوزارا اعتباطية، تشكِّل متاريس قائمة تكبح منذ البداية تطلعات تمتعهم بحياة أصيلة بالنسبة إلى كيانهم، تنسجم قلبا وقالبا مع دواخلهم، وتعكس بشفافية وجودية رغباتهم الحقيقة بخصوص نمط الحياة الذي يتطلعون إليه دون خوف ولا عوائق. منظومات حياتية عابرة لأحقاب الأجيال، تنطوي بلا شك، على معطيات قابلة للاستثمار، مثلما يمكنها الانطواء على أخرى سلبية جدا. قياس بديهي ومعيار طبيعي، مادام الإنسان نفسه مبدع تلك التجارب،يحكمه أبديا وازع الايجابي وكذا مكمن السلبي، يستحيل بالنسبة إليه التدرّب على تمارين إنسانيته حقا، دون انغماسه في جدليات السقوط والنهوض، فقط يختلف التقييم الخصب المبدع، للحياة في تغليب كَفَّةِ الايجابي على السلبي،عمليا حتما،بحيث يتحقق عنفوان الانخراط أو التقويض، الواعيَيْن بالنتائج. يحظى دائما جيل السلف بموقع الملهم،بينما يقف الجيل اللاحق عند مرتبة المستلهم والتلميذ المقتفي لخطى الآثار.يستحيل قلب نمطية المعادلة،على الأقل امتثالا لبنية الوضع التاريخي.لكن مستويات تلقِّي الجيل الثاني من الأول،تختلف بالتأكيد طبيعتها حسب : درجات توطُّد الوعي، فاعلية التفكير، اشتغال المعرفة داخل المجتمع، حدود آليات المنظومة المتسيِّدة وإمساكها العقلاني بخيوط لعبة الانسداد والانفتاح، ثم نوعية الثقافة السائدة وكيفيات تدبيرها لآليات الائتلاف والاختلاف. إذن، الوعي المتقدم المتشبع بحسِّ التاريخ، تقدم المعرفة،الانفتاح النقدي للمنظومة المجتمعية، كنهها الإنساني، أولا وأخيرا، تمتع الفرد بقيمة خاصة ضمن أفق الكيان المجتمعي... ،معطيات وأخرى من جنس تداول تلك المفاهيم، تثري تحولات القيم من جيل إلى جيل، بطريقة سليمة وبنَّاءة تضمر تلاقحا مولِّدا لنوع أفضل، بحيث تنساب التأثيرات من السابق فاللاحق، الماقبلي و المابعدي، وفق إيقاع لا يختلف البَتَّة عن سيمفونية موسيقية؛ ألَّفت مقاطعها روح شاعرية رؤيوية تستشرف مختلف نزوعات الشخص،وتلبي حاجاته الظاهرة والمتوارية؛غاية جوف تلك الجاثمة في أعماق طبقات ترسباته النفسية. نتيجة المنحى السليم،أجيال متوازنة، ممتلئة بالحياة امتلاء، متصالحة نفسيا وذهنيا إلى أبعد الحدود مع ماضيها وواقعها، مشرئبَّة بسعادة صوب تطلعاتها. رافدان أساسيان يجعلان حياة الفرد منسجمة ومستساغة،ليس بالضرورة تجرُّد تفاصيلها الصغرى عن المعاناة،لكن دواعيها ومقتضياتها الكبيرة،لا تأخذ أبعاد صخرة سيزيفية قد جثمت ظلما على كاهله، أقصد تحديدا بالوازعين اليَنْبوعين : *الوعي الذاتي الصائب بكل ما يحدث. *حرية بلورة ممكنات ذاتية جراء ما يحدث. حينئذ تتحقق ديناميكية التفاعل المتوثِّب بين الإرادة والشغف والمسؤولية. هكذا، تنتقل الحياة بكيفية مبدعة، ترنو باستمرار نحو الأفق الأفضل، بالسعي إلى ارتقاء الإنسان وبلوغه في الحياة بغير توقف، مراتب سموه المادي والروحي. عندما، تختلُّ وتضطرب قاعدة هذا التوازن، تصير الحياة جرحا غائرا، بصدد فقط ترسيخ بوتقة استفحاله من جيل إلى آخر. كم التجمعات البشرية التي تتحلَّل حياتها في صمت نَتِنٍ،جراء غياب السجال النقدي والمؤسِّس بين الأجيال؟كم الأجيال التي تكابد أوجاع حياة موجعة، جملة وتفصيلا،نتيجة عبثية سلطة المتوارَثِ؟ كم تحولات الأجيال الموبوءة، نتيجة الجهل والتسلط، فتتوارى الحياة مقابل توطد الموت؟كم الأجيال التي لاتجد في حوزتها من ذاكرة السابقين، سوى هدايا الجحيم المسمومة؟ فيعيش أفرادها حقا حياة قادرة على كل مداخل الموت، إلا أن تكون حياة. كم الأجيال التي ولدت منذ الولادة مَيِّتة، لا تملك ذرة آمل كي تعثر لمصيرها عن شيء ما، قد يرسم لها مسالك يهتدي بها إلى ينبوع تدفق الحياة؟. باستمرار، يتحمل الجيل الأول المسؤولية الأخلاقية والمعنوية، بخصوص ما سيقع في المستقبل، واللاحق لن يكون سوى ثمرة يانعة لتوجيهات السابقين، وهكذا دواليك، نفس المقدمات تفضي إلى ذات النتائج. متوالية لامفر منها، في ظل انتفاء عناصر الحياة بين المنظومات المتوارثة. هذا المشهد الكبير مثلما تعكسه مقولة الجيل،تتجلى نواته الصغرى عند اختزاله إلى علاقات الأبوَّة والأمومة،ثم باقي التشكُّلات العائلية المترتبة عن ذلك،فتزداد رقعة المضمار اتساعا بحيث تستفيض أيضا مثيرات الحياة الجذابة، بالتالي يكون التوالد والإنتاج طفرة وممكنات تطور نوعية،أو يأخذ وجهة مأساة تنمو على نار هادئة بلا وعي مُقْبِل، مادامت الذوات الفاعلة تنخرها عاهات نفسية وذهنية شتى، فتنقاد هائمة لاإراديا، كي تعيد إنتاج المنظومة المشروخة، دون التغافل بهذا الخصوص مثلما يقتضي كل سياق،عن الاستثناءات التي تظل نادرة، موصولة فقط بأرواح عظيمة، تتعالى بذاتها وسط بيئة جافة جدا من أسباب الحياة، في خضم صراع وجودي مع حماة طواحين الهواء. تراكم النماذج الحياتية،بحكم منطق سيادة الأجيال،في ظل انتفاء الوعي والرؤية العقلانية، تعكس في نهاية المطاف تثبيتا عنيدا لتصحُّر الحياة، فتتضاعف وتتداخل آلام الجيل الذي يعيش السياق، وقد حكم عليه مسبقا، سلطويا،اجترار سلبيات مابعثه السابقون، بكل مساوئه؛ دون تمحيص أو مراجعة: كيف بأبٍ، ترعرع غاية أخمص قدميه ضمن مرتكزات إطار منظومة قاسية، لاتكترث تماما بالإنسان؛تزهر فقط أوراش خطاب الزجر الفظِّ والقمع والرعب والوعد والوعيد، أن يحيا حياة صحية ثم إمكانية بلورته عطاء مشروع أسروي لإنجاب أطفال أسوياء ينطوون بقوة على جينات الحياة؟ كيف لامرأة، تكالبت عليها سطوة الجهل والإذلال والتهميش والإقصاء على جميع المستويات،إدراكها دلالات محفزات حياة تتسم بثراء صناعة الأجيال؟ هل بوسع طفل، لم يتلمَّس أبدا متع طفولة الحياة، التحلي بمحفزات ولوجه مضمار الحياة قصد الاحتفال مستقبلا بتجسيده عطاء طفولة غير طفولته،أي الحلقة النوعية الرفيعة لتصالح الأجيال. مطلقا، النتائج قائمة على مرتكز المقدمات، ولا تزيغ عن هذا القَدَر،سوى تحققات كشفت عن حلتها اللا-متوقعة بسبب نقلة نوعية أخَلَّت برتابة الممكن،أفق مغاير للمفترض تنهض به الثورات الفكرية لاسيما الجذرية التي يترتب عنها ضمن آماد زمنية،تحولات مبدعة بالنسبة إلى تراكم الوعي الجمعي لدى جماعات الأجيال،كي يفهموا الحياة ويحبونها، مادامت تنتمي إليهم وينتمون إليها،بناء على مرجعية نقدية دائمة الهوس بمراجعة حقيقة الواقعي. حينها، تتقلص بواعث الأخطاء المتوارثة وتكفُّ وقائع الحياة على أن تكون مجرد بؤس مضاعف يتعدد كل يوم وبامتياز لايضاهى.