الحاصل هو ندرة الأبحاث بخصوص موضوع "التفحيل السياسي" في العالم العربي ككل، وخصوصا في منظور "النقد الثقافي" الذي يبدو الأقرب من "تفكيك الأنساق الثقافية" التي كانت وراء أشكال من "الهيمنة الصلعاء" في ظواهر عدة ضمنها السياسة باعتبارها ظاهرة ثقافية. فبروز الفحل، واكتساحه للمشهد السياسي، يرتبط بالثقافة السائدة التي تجعل منه "حاجة" بالنظر ل"لغته" و"مسلكياته" في مجتمع غير سالك وغير "سائل"؛ وهو موضوع لا نوليه، عادة أو في الأغلب الأعم، أهمية تذكر. إجمالا إن دارس الموضوع لا يمكنه القفز على كتاب الناقد السعودي الأشهر عبد الله الغذامي "النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية" (2000). وفكرة الكتاب أن النسق الشعري كان له دوره على مستوى صناعة الطاغية، وحصل ذلك من خلال "النسقية والتشعرن" التي لا نعدمها أيضا في الخطاب العقلاني العربي. أما في "الخطاب السياسي" (؟) فهناك فائض من "الانفلات" في النسقية والتشعرن، وعلى النحو الذي يسمح بالنظر إلى السياسة باعتبارها "ظاهرة سيكولوجية". وعطفا على ما سلف فإن المحاولة التي تبدو الألصق بموضوعنا، وإن من بعض النواحي، وفي المدار ذاته الذي يستقدم الأصولية السياسية والدينية، هي مقالة الكاتبة التونسية الحداثية والجريئة رجاء بن سلامة. والمقالة موسومة ب"الفحل السياسي"، وهي متضمّنة في كتابها "بنيان الفحولة أبحاث في المذكر والمؤنث" (2005). وما تعبِّر عنه صاحبة الكتاب ب"بنيان الفحولة"، وعلى نحو ما يتجسد في حقول سياسية وثقافية وفكرية، هو "صروح عتيدة وقلاع لا مرئية لا يكفي التنديد بها، بل لا بد من النظر إليها في كيفية بنائها للوعي بالمسلمات التي تنبني عليها، والتي لم يمكن التسليم بها إلا بفضل جهاز تبريري يذرّ الرماد في الأعين ويضفي طابع البداهة على علاقات الهيمنة واللامساواة" (ص10). وكما تفضي بنا صورة الفحل، وفي منظور الكتاب دائما، إلى الذكَّر القوي الشديد المتغلِّب على غيره من الإناث والذكور أيضا. وكما تقتضي التركيبية الفحولية السياسية، وعلاوة على أن يكون الرئيس ذكرا واحدا متغلبا، تحويل بني جنسه إلى مرؤوسين متبوعين (ص129). والفحولية قائمة على الأفضلية الأنتولوجية والسياسية، وقائمة على المراتبية السياسية وتقسيم الأدوار الجندرية (ص132، ص139). والفحولة بنية نفسية للثقافة السائدة في العالم العربي، والأخطر أنها فاعلة ومؤثِّرة في هذا العالم(ص135). ومن المفهوم أن يكون من "مقصيي النظام الفحولي"، كما تصطلح عليهم الكاتبة، النساء... وجميع المجسدين ل"المصير النسائي" (Le devenir –femme) (ص131). وسيحتفظ التاريخ السياسي بالمغرب، وفي أحط أفكاره، ب"افتتاحية" جريدة "الاتحاد الاشتراكي" (الثلاثاء: 13 غشت 2013) التابعة ل"حزب الاتحاد الاشتراكي". وحصل ذلك بعد أن استهدفت "الافتتاحية" أوَّل امرأة ستكون على رأس حزب سياسي يساري ("حزب الاشتراكي الموحد"). والمقصود الدكتورة نبيلة مونيب، ولمناسبة تصريح لها نصه: إن "القيادة الحالية للاتحاد الاشتراكي لا يمكن التحالف معها". وكان "الرد" بأن كلام منيب من باب "ثقافة فنون الحلاقة" و"صالونات تصفيف التسريحات". ف"اللغة"، هنا، "تحقيرية"... وبكلام آخر: هي تسعى إلى التأكيد على "الصفة التي تأكل الموصوف". ولا يهمنا من يرد، وسواء من خلف الستار أو من الواجهة، بقدر ما يهمنا "منطوق الخطاب" في حد ذاته الكفيل بفضح النسق الذي يتحدّر منه الخطاب. ومن هذه الناحية لا نحتاج إلى أي نوع من التأويل، وبما في ذلك التأويل الأعراضي (Symptomatique)، حتى نستقِّر على "شوارب الفحل السياسي" في انتقائه للصفات. أجل كان بالإمكان الرد على "الموقف"، لكن من خارج التكتيك الغاطس في "لاشعور الحلاقة والتصفيف"... وكل ذلك حتى يكون للرد "مضمونه" المُجانب ل"العهر السياسي". وأليس من حق الأنثى، وفي إطار من تأكيد الحضور في الحياة السياسية وفي الفضاء العام بصفة عامة، الظهور بحقيبة يد لائقة وبإكسسوارات تقليدية ومجوهرات وماكياج وصبغة شعر وتجعيد شعر أو ترطيبه؟ وأليس من حق الذكر، بدوره، أن "يتأنق كديك" (كما قال الشاعر محمود درويش في حق إدوارد سعيد سالف الذكر) لكن شريطة ألا يكون "خالي الوفاض وبادي الجراب" حين يحاور وحين يجادل وحين يقلب شفاهه في أمور "العجين السياسي"؟ وكما لا نعدم، وفي حال منيب دائما، وإلى جانب "الأصولية السياسية"، تدخّل "الأصولية الدينية" ممثَّلة في أحد شيوخ "السلفية" الذي سعى إلى إطلاق حملة تكفير ضد المرأة. وقد كتب هذا "الشيخ"، على موقع التواصل الاجتماعي، "غضضت الطرف مرارا عن مواقفها ومواقف حزبها مراعاة للمصلحة العامة، لكن المرأة لا تكف عن تصريحاتها العدائية ومواقفها المساندة للانقلابيين". ويبدو جليا أن "كلام الشيخ" لا يخلو من نبرة خطابية وثوقية واستعلائية مثلما لا يخلو من تشحيم ذكوري، وكما قيل ف"الأصوليّ لا يناقش لأنّه يمتلك سلاحا مطلقا: هو اليقين بأنَّه على حقّ". وكما أن "الهيمنة الذكورية"، كما ناقش بيير بورديو، تطرح نفسها وكأنها في غير حاجة إلى "تبرير". والظاهر أنه، وفي مثل هذه الحال التي هي حال الأصولية في قتالها من أجل فرض "الحجب" على المرأة، يصير من الصعب إبداء الرأي بل وحتى الاعتراض على "الديمقراطية وصناديق الاقتراع"... وكأنه يتحتّم قبول جميع ما تحمله هذه الديمقراطية بصناديقها ومراقبيها. وفي هذا الصدد يبدو مفيدا استحضار استشهاد بوبر، في توضيح الديمقراطية، بالجملة المشهورة لتشرشل التي تقول "إن الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم باستثناء جميع الأشكال الأخرى التي هي أسوأ منها". وفي السياق ذاته ألا ترتكب "الأكثرية" جرائم سياسية باسم هذه الديمقراطية أو نتيجة هذه الأخيرة؟ وأليس هذا ما حصل مع اختيار هتلر بنسبة أربعة وتسعين في المئة من نسبة الناخبين؟ وعلى ما ترتّب عن ذلك من "ديكتاتورية جارفة" نتيجة "الجماهير المصفقة" و"القطيعية" أو "السائرون نياماً" كما قال الكاتب الفلسطيني فيصل درّاج في سياق قراءة كثيفة للكتاب الضخم للروائي النمساوي هرمان بروخ (Broch Herman) "نظرية في جنون الجماهير" (1939) ("هرمان بروخ وخوف الجماعات"/ جريدة "الحياة": الثلاثاء: 29 نوفمبر 2011). شخصيا باشرت ندوة شاركت فيها نبيلة منيب في التلفزيون المغربي العمومي، مثلما تتبعت مداخلة مفتوحة لها ومن أولها إلى آخرها في دار الشباب (البئيسة) بمدينة أصيلة. وخلاصتي (وخلاصة آخرين): إنها على "معرفة" لا مجال فيها للمساحيق البلاغية الزائدة ولا مجال فيها لأظافر السياسة الاصطناعية ... معرفة معضودة بصدق سياسي وأخلاقي أيضا، وعلى النحو الذي يجعلها تتفوّق على كثيرين وبما في ذلك من الذين تطاولوا عليها. وهذا على الرغم من بعض الانتقادات التي يمكن توجيهها لها. فمنظور النقد الممزوج بالانفعال وارد في حال الأنثى وفي المدار ذاته الذي لا يفارق قتالها على كتابة "تاريخها المصغَّر". وآفة "الفحل السياسي" أنه يعارض هذا التاريخ، وقبل ذلك لا يهمه "أن النساء يمثلن المجموعة التي دفعت أعلى الضرائب ليتطور تاريخ الرجال"، ولا يهمه أن النساء من الجماعات الصامتة تاريخيا وإلى الحد الذي جعل الكاتبة الباكستانية سارة سولري (Sara Suleri) تقطع: "لا وجود للمرأة في العالم الثالث". وتبعا للعبارة الشهيرة لسيمون دوبفوار "المرأة لا تولد امرأة وإنما تصبح امرأة". إلا أنه في السياق المغربي هناك "نسق" يفسح لاختلاط الحداثة والبداوة في الممارسات السياسية، ويؤسس لسلوك غير إنساني وغير ديمقراطي. نسق لا مجال فيه لمفهوم "الحقل" السياسي و"قواعد اللعبة"، ولا مجال فيه للتمييز بين القواعد المعيارية والقواعد البرجماتية للسياسة. وهذا لكي لا نتطاول على "التعددية" في السياسة وعن الابتعاد عن "الأحادية". ومن ثم غياب التعاقد والاشتراك والتصالح... إنه "الجشع السياسي الموصل إلى التخمة القاتلة" كما عبّر عنه أستاذ البلاغة محمد العمري... ومن قبل "خصوم بدائيين" كما نعتتهم رجاء بن سلامة في مقالها أو كتابها سالف الذكر(ص10). (") ملحوظة: هذا المقال جزء من دراسة تحليلية مطوّلة.