منذ اطلاق عريضة "توقفوا عن تحويل التفاهات إلى قدوة ونجوم" وهي تلقى اقبالا واحتضانا واسعا من الفاعلين في مجالات الصحافة والاعلام والفكر والثقافة والفن، ورحبت بها العديد من الأوساط التربوية والحقوقية والعلمية والأكاديمية ويعبر الموقعون على العريضة، ليس فقط عن استهجانهم وإدانتهم للتسيب والتفاهات، التي أصبحت تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة. كما يثيروا الانتباه الى ما تتضمنه بعض المحتويات التي يتنافس أفرادها على نشر صور تكرس التخلف وتروج للجهل وتستعمل خطابا يمجد التفاهة وينتصر للكراهية وبلغة منحطة تهدف للحط بالكرامة الإنسانية، مع التركيز في هذه المحتويات على المرأة بتكريس صورة نمطية سلبية عنها. العريضة ليست كما قد يظن البعض، هي دعوة لشرعنة الاجهاز على حريات التعبير والحق في الاختلاف، بل كانت مبادرة ونتاج نقاش بين اعلاميات واعلاميين – وأنا واحدا منهم– وتعبير صادق تلقائي مستقل لما تتقاسمه غالبية شرائح المجتمع من استياء واستهجان دفين، من محتويات تعود أصحابها في "روتينهم اليومي" على الاستهانة بذكاء المغاربة بقواعد التربية والتعليم والكفاءة والقدوة، ضاربين بذلك عرض الحائط بكل القيم الإنسانية النبيلة، هدفهم في النهاية الحصول على أعلى قدر من نسب المتابعة والمشاهدة لتحقيق الربح المادي السريع واكتساب شهرة يلهثون لتحقيقها بالرفع من عدد النقرات واللايكات. تشويش على الرأي العام فالتصدي ومعالجة هذا النوع من السلوكيات والممارسات السلبية بالعالم الرقمي الذي يساهم في تحويل اهتمامات الرأي العام عن الانشغال بهمومه اليومية، ليس رهينا بالزجر الأمني والجنائي وبتشديد القوانين والوعظ والإرشاد، بل يتطلب الأمر مقاربات متعددة الأبعاد منها إعادة الاعتبار للدور التربوي والسيكولوجي والاجتماعي والتواصلي، وتوسيع هوامش الحرية وترسيخ قيم المواطنة، ومصالحة الجمهور مع وسائل اعلامه . لكن حجم المسؤوليات في مواجهة هذه الظاهرة – وإن كانت هذه المسؤوليات يختلف مقدارها من جهة الى أخرى– فإن المؤسسات المدنية من جمعيات ومنظمات تربوية وثقافية وحقوقية، وإعلامية، يقع على كاهلها كذلك جزء من هذه المسؤوليات خاصة في ظل ضعف انشغالها بما يروج من محتويات سلبية في الفضاء الأزرق، مع العجز عن اقتراح بدائل عملية لمواجهة ما يروج له من تفاهات تعج بها وسائط التواصل الاجتماعي لا علاقة لها البتة بحرية التعبير والاتصال. لذا آن الأوان لتضطلع وسائل الاعلام وخاصة العمومية منها، بمسؤوليتها في مجال التحسيس والتوعية بخطورة انتشار التفاهة والتضليل، وتسليط الضوء على هذه الظاهرة الكونية التي تستفيد من الإمكانيات التقنية التي تتيحها الثورة التكنولوجية التي ساهمت إيجابا في رفع احتكار المعلومات، وجسرت علاقات التفاعل بين شرائح المجتمع، وجعلتهم أكثر قربا – حيثما كانوا وأينما وجدوا– وتقاسما للأفكار والمعطيات والأخبار التي أصبحت في متناول الجميع، وحولت العالم الافتراضي الى فضاء حر للتعبير عن الرأي، وملاذا ذهبيا وأمنا للهروب من سلطة الرقابة. الفضاء العمومي فضاء اعلامي بامتياز فمن النتائج الإيجابية من ذلك تزايد الاقبال المكثف على هذه الوسائط من كافة الاطراف حاكمين ومحكومين، بفعل تأثيرها على تشكيل الرأي العام وتوجيهه، وهو ما جعل الفضاء العمومي يتحول نتيجة ذلك الى فضاء اعلامي بامتياز. لكن بعض وسائل الاعلام، تساهم في تشجيع الرداءة من خلال توفير مساحات واسعة ل" أبطال التفاهة" بدعوى الاستجابة لرغبات الجمهور، متغافلين على أن الارتقاء بالذوق العام ونشر الوعي والاخبار والتثقيف والترفيه هي من بين الأدوار الأساسية للإعلام. ليس مجديا في شيء الوقوف طويلا للتساؤل عن الهدف من هذه المبادرة ومن ورائها أو شيطنتها، بقدر ما هو مطلوب تكثيف المبادرات المدنية فردية كانت أو جماعية، مع فتح المجال للإبداع للمواجهة كل أشكال الابتذال والتدجين والتضليل مع ضرورة أن يتحمل الباحثون بالمؤسسات والمعاهد الجامعية مسؤولياتهم بالانكباب العلمي على تداعيات هذه الظواهر. بيد أنه بقدر ما يسجل اقبالا متصاعدا على الإنترنيت خاصة من الشباب، بقدر ما يلاحظ توجسا مبالغ فيه، بدعوى "الاستخدام السيئ" لهذه الوسائط التي أتاحت على المستوى الإيجابي إمكانيات هائلة لمختلف الشرائح الاجتماعية في مجال الحصول على المعلومات. تقييد الفضاء الإلكترونيّ يكبح حرية التعبير ويلاحظ كذلك على المستوى العالمي أن الإنترنت وإن كانت تساهم في حملات المضايقات والترهيب ونشر خطاب الكراهية والتحريض على العنف، إلا أن عددا من البلدان كثيرا ما تقيد الوصول إلى الفضاء الإلكترونيّ، وتكبح حرية التعبير بدعاوى مختلفة منها محاربة التطرف والعنف والكراهية والتمييز. فالتطور الهائل والمتسارع للوسائط الرقمية، ساهم بشكل جلي في تغيير عاداتنا وتقاليدنا، وأثر على العلاقات الاجتماعية، وأصبحت التكنولوجيا الرقمية، تقدم العديد من الفوائد في مجال حرية التعبير وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة، وهو ما يتطلب التركيز على التحدّيات التي تعيق الاستفادة الإيجابية للإنترنت. كما أن تنظيم الحكومات للفضاء الرقمي، يمكن أن يثير قضايا أخرى، لا سيما إذا لم يحترم هذا النوع من التنظيم الضمانات الأساسية لسيادة القانون، والمساواة والإنصاف والمساءلة. فالإنترنيت وإن كانت "كما هو شأن القطارات تجمع الغرباء معا، فلا أحد يعرف من سيقابله"، فإنها حررت الأفراد وقدمت للمجتمع فرصا غير مسبوقة، كما يرى صاحب مؤلف " الثورة الرقمية ثورة ثقافية" الكاتب الفرنسي ريمي ريفيل الذي أشار الى أن الإنترنيت غيرت بعمق معالم وسائل الاعلام التقليدية، خصوصا مع ظهور فاعلين جدد في بلورة انتشار المعلومة الاخبارية، وخلخلت كذلك الممارسات المهنية للصحافيين أنفسهم، وغيرت ولو جزئيا الطريقة التي يجرى بها إخبار الجمهور، كما أعادت توزيع الأدوار بين المنتجين والمستهلكين للصحافة، في تغير تدريجي لطرق اعتماد المعلومات وممارسة القراءة، مما جعل التكنولوجيات الرقمية، انعكاسا للاستعمال الذي يقوم به المرء. التكنولوجيا والقدرة على المشاركة فمن المؤكد أن التقنيات الحديثة للإعلام والاتصال، وإن كانت لم تضع حدا لعدم المساواة فيما يتعلق بالاستعمال، ولم تخفف من سوء التفاهم بين البشر، كما لم تقلص بتاتا من النزاعات، لكنها بالمقابل وسعت بشكل ملموس الاطار الزماني والمكاني، ووفرت ولوجا، غير محدود الى المعارف، ورفعت من القدرة على التبادل والمشاركة، فهي تحاول إذن- بشكل ما- تغيير التصور للعالم، كما يرى ريمى ريفيل. وبعيدا عن كل القيود، فإن عالم التكنولوجيا الرقمية، يشكل وسيلة للتحرر والهيمنة في نفس الوقت، وفي كل الاحول، فإنه لا يزال في الوقت الراهن وعدا وتحديا. وبخصوص الآفاق التي حددتها عريضة .. التي هي مساهمة متواضعة، لا يزعم واضعوها والملتحقين بها، بأنها ستجد حلا في القريب العاجل لمعضلة التفاهة على الإنترنيت بقدر ما هي إلقاء حجرة في بركة قد تكون راكدة. الا أنه التجاوب الواسع الذي لقيته منذ اطلاقها مؤخرا واحتضانها من جمهور واسع ومن وسائل الإعلام وحجم الاقتراحات المتوصل بها لإسناد ولإثراء هذه المبادرة وتطويرها، ستفتح ولا شك أفقا جديدا ونوعيا في " جبهة مقاومة"، التفاهة والجهل والتضليل التي تعج بها منصات التواصل في الآونة الأخيرة. لكن بصفة عامة فإنه من المفروض حماية منصات التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائط التبادل الرقمي، لكون ذلك يعتبر من بين الأركان الأساسيّة للمجتمع الديمقراطي. مداخلة ببرنامج "حديث الظهيرة" على أمواج الإذاعة الوطنية تعده وتقدمه الإعلامية نجمة العلمي