أي دور للإعلام في الصناعة الثقافية؟ وهل ما زال للثقافة دورا جوهريا في بناء المجتمع وتطوره؟ ما هو دور المثقف في التوجيه والتأثير والتقدم؟ وفي المقابل ما هو دور الاعلام في نشر الثقافة وتطوير مجالاتها؟ وأخيرا هل غياب التفاعل بين المثقف والمجتمع عبر الاعلام يحد من امكانية تطوير الميدان الثقافي؟ لمقاربة هذه التساؤلات، يتعين الإشارة الى أن العلاقة بين الإعلام والثقافة في الأصل علاقة تقوم على التفاعل والتكامل المتغير. بيد أنه في ظل تراجع منسوب أنواع الثقافات التقليدية وفاعليتها، أضحت وسائل الإعلام الجماهيرية، الآلية الرئيسة في التأثير على عقول الافراد والتوجهات الفكرية للجماعات البشرية خاصة التلفزيون في بلدان " الهشاشة الديمقراطية". وهكذا يمكن اعتبار وسائل الإعلام والاتصال الحديثة عاملا حاسما في تأكيد ما يسمى بالذاتية الثقافية، وإبراز مضامينها، وتعزيز روابط المجتمع حيال مختلف القضايا التي تواجه مصير هذا المجتمع وهويته، ومواجهة الاستيلاب والانغلاق وأيضا الثقافة الاستهلاكية، ومقاومة كل أوجه الالتفاف على الخصوصيات الثقافية المحلية. إن وسائل الاعلام، تساهم بشكل كبير في إشاعة الثقافة ونقلها، وذلك اعتبارا للأدوار الذي يضطلع بها الإعلام كوسيط في تعميم مختلف ضروب الثقافة، فضلا عن اسهامه في التعريف بالثقافات المتعددة والتقريب في نفس الوقت في ما بينها، انطلاقا من التأثير المتبادل القائم ما بين الثقافة والاعلام هذا الأخير الذي يقوم بتشكيل الرأي العام وتوجيهه وفي نشر الأفكار و في اغناء وتسويق ونشر واستثمار الروافد الثقافية في الصناعة الثقافية. وبغض النظر عن ما تنطوي عنه مفاهيم كل من الثقافة التي تعرف بصفة عامة، بأنّها الخصائص والصفات المُشتركة لمجموعة من الأفراد، والإعلام بكونه وسيلةً لنقل الأخبار والمعلومات إلى الجمهور، فإن العلاقة ما بين الحقلين الثقافي والإعلامي تعد في حقيقة الأمر " علاقة تجاور طبيعي"، تفرضها خصوصيات كل منهما وفضاءات اهتماماتهما، بيد أن هذا التجاور قد يكون تجاوراً إيجابيا، يتسم بالقرب والتعايش، أو قد يكون تجاورا سلبيا. وإذا كان الانتشار السريع للتقنيات الرقمية، قد أحدث تغييرا لم يقتصر على الصناعات وطرق الإنتاج، بل امتد كذلك الى الميدان المعرفي، فإنه هذا التطور التكنولوجي أدى الى إثارة التفكير في نمط مزدوج يتعلق بالتقنية والدراسات الثقافية، انطلاقا من أن الرقمي أضحى مجالا تتعايش من خلاله المنتجات الثقافية على اختلافها مع الأقطاب التكنولوجية، كما ذهب إليه الفرنسي ريمى ريفيل Rémy Rieffel المتخصص في دراسة وسائل الإعلام والمجال الرقمي والصحافة والإنترنيت في كتابه "الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟" الذي أثار فيه الانتباه إلى أننا اليوم أمام صناعية ثالثة، مرتبطة بتنمية تكنولوجيا الإعلام والتواصل، وذلك بعد ثورة صناعية أولى ارتكزت على تطور الآلة البخارية والسكة الحديدية، ثم ثورة ثانية اعتمدت على استغلال الكهرباء والبترول. فانتشار المعلومة وتأثير التكنولوجيات الحديثة تكون لها صدى كبير على التصرفات الشخصية والجماعية، وتقييم كيفية التصرف والتفكير والمعرفة، مما جعل البعض يتساءل عما الذي يغيره الرقمي عند الولوج الى المعرفة والمعلومات، هل يشجع شكلا جديدا من الابداع، وتبادلات جديدة للمضمون وإنتاجات ذاتية ( موسيقى، أفلام، العاب فيديو) أم يشكل مصدرا حقيقيا للتجديد الثقافي؟ بيد أن هذه التساؤلات تطرح كذلك مسألة عدم التكافؤ السوسيو – ثقافي في مجال استخدام تكنولوجيا الاعلام والتواصل، مع وجود اختلافات من حيث استعمال الإنترنيت، يؤدى الى شرخ رقمي يضاف الى فجوة رقمية بين مجتمعات الشمال والجنوب، وهو ما يتطلب تحليلا اجتماعيا من شأنه تجنب التركيز فقط على الابتكارات التكنولوجية، بل يتعين ملاحظة تأثيرات التكنولوجيا الرقمية على عوالم الثقافة حسب آراء أخرى، في الوقت الذي تؤدى كذلك سهولة الوصول الى المضامين الثقافية وانتشار المواقع الإخبارية، وتوسيع متابعة الموسوعات الجديدة عبر الويب، وتعدد المنابر لتداول المضامين، إلى تفاعل كبير بين الخبراء والأفراد العاديين، وبين المهنيين والهواة ويساهم هذا التحول إلى إعادة التشكيل الثقافي. فالتكنولوجيات الرقمية، لا سيما في الميدان الثقافي، ليست سوى انعكاس للاستعمال الذي يقوم به المرء، ولا يمكن أن تحلل بمعزل عن الفاعلين الذين يمتلكونها، كما لم تضع حدا لعدم المساواة فيما يتعلق بالاستخدام، ولم تخفف من سوء التفاهم بين البشر ولم تقلص بتاتا النزاعات، ولكنها وسعت بشكل ملموس إطار الزمان والمكان، ووفرت وصولا في ذات الآن غير محدود إلى المعارف، ورفعت من القدرة على التبادل والمشاركة، وأضحت بالتالي التكنولوجيا الرقمية، وسيلة للتحرر والهيمنة في الوقت نفسه. فالتوسع الكبير للقطاعات الثقافية التي شملها الازدهار الرقمي، يطرح سؤالا عريضا يتمثل في هل نشهد قطيعة ثقافية مع الممارسات السابقة أو ببساطة مرورا تدريجيا من تشكيل ثقافي الى آخر، وأن الفاعلين المهيمنين على السوق يكتفون في الغالب بتعدد الناشرين للمواد الثقافية من دون التشبث حقا بتعزيز شكل جديد من الإبداع كما كتب ريمي ريفيل الذي استدل بالدراسات الأخيرة حول استعمالات الإنترنيت من لدن الفرنسين توحى بأنهم يأخذون توجها مغايرا في العوامل الثقافية الموجودة أصلا، وأنهم لم يغيروا حتى مراكز الاهتمام بدل من أن تجددها، على الرغم من أن الرقمي وسع أشكال الابداع ( محتويات ومضامين جديدة)، لكنه خلخل طرق الكتابة والقراءة. وإذا كانت الوظيفة التثقيفية لوسائل الإعلام تقع في صميم وظائف الإعلام الرئيسة منذ نهاية أربعينات القرن العشرين منذ أن شرع خبراء الإعلام في تحديد تلك الوظائف وتقنينها، خاصة مع الأمريكي هارولد لاسويل أحد كبار علماء الاعلام والاتصال الذي حدد "نقل التراث الاجتماعي من جيل إلى آخر والإخبار "من بين المهام الأساسية لوسائل الاعلام. إلا أنه في "الزمن الرقمي" تحول الإعلام، من سلطة رابعة الى سلطة أولى، بوظائف وبرهانات جديدة، وذلك منذ أن غزت العولمة جميع القطاعات بما فيها وسائل الإعلام، والصناعات الثقافية بصفة عامة، وتحول بذلك الفضاء العمومي بفضل التوسع الهائل والسريع في مجال تكنولوجيا الإتصال، الى فضاء إعلامي، بلغة المفكر الألماني يورغن هابرماس، يشكل الإعلام داخله نموذج التواصل الطاغي الذي يمارس هيمنة شبه مباشرة على إنتاج المعنى، وعلى مختلف التمثلات الإجتماعية والجماعية للواقع. وبالتالي أضحى مؤكدا في عالم اليوم أن الإعلام بتأثيراته المباشرة على طريقة تمثلنا للعالم من جراء تحكمه في الواقع، وبسط سيطرته على مختلف مناحيه، جعلت علاقاتنا بهذا العالم لا تتم وفق تجربتنا المباشرة، بل تتم وفق الرؤية التي يقدمها لنا الإعلام جاهزة، عبر أصنافه المتعددة والمتنوعة، أي عبر وسائط ومعايير من خلقه، يسعى الى إدماجها في المجتمع، بل ويجعلها منسجمة ومتناغمة معه حسب بعض الباحثين. ويلاحظ أن أبرز الصحافيين والإعلامين، هم أولئك الذين جاؤوا من الحقل الثقافي، منهم على سبيل المثال لا الحصر، على الصعيد الوطني محمد بلحسن الوزاني، وعبد الكريم غلاب ومحمد الجابري، ومحمد العربي المساري، ومحمد بلعربي الخطابي، عبدالجبار السحيمي، وآخرون. وهذا ما يجعل العلاقة بين المنظومة الإعلامية والمنظومة الثقافية علاقة متداخلة، اعتبارا لكون وسائل الإعلام هي الناقلة لأنماط التفكير والمعرفة، وهو ما يعطيها مكانتها كسلطة في إدارة وتوجيه المجتمع، ومصدرا للمعلومات وتحليل ونقد ما يجري من أحداث، مع القيام بعدة وظائف منها إعلام الجمهور وتشجيع الحوار الديمقراطي. مداخلة في ندوة" أي دور للإعلام في الصناعة الثقافية" نظمتها جمعية ملتقى الشباب للتنمية الخميس 21 يناير 2021